مواقع النجوم / السنة الفاطمية (٣-٣)
عندما نستعرض موقع المرأة في الدول على مرّ العصور سنجدها – في الأعمّ الأغلب – تشغل وظيفة ثانويّة ودوراً تنفيذياً، أمّا في دولة الإمام المهديّ فإن المرأة المؤمنة تحتلّ موقعا محوريّا ومركزيّا، لأنها تقتدي بسيدة نساء العالمين (ع) التي كانت مركزاً ومحوراً.
ومن أهم المتون الدينيّة التي تدعم ذلك قول الله سبحانه في حديث الكساء (هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها) مختصراً الأربعة في (فاطمة) وواضعاً إياها في نقطة المركز الثابتة في عالم الغيب والتكوين الذي له انعكاس في عالم التشريع والشهادة. (1)
قد نتساءل: لماذا أجيبت الملائكة بـ (هم فاطمة)؟
في المنطق في باب التعريف هناك قاعدة تقول: يجب أن يكون المعرِّف أوضح من المعرَّف، فإذا أردت أن تعرّف شيئاً ما فيجب أن تعرّفه بشيء أوضح منه، فلو سأل أحدهم مثلا عن طهران، لا تقول له: طهران هي الموجود فيها جبل نهاوند، لأن الذي لا يعرف طهران لا يعرف جبلا فيها بالطبع، لذا يجب أن تعرّف طهران بشيء أوضح وأجلى فتقول: طهران عاصمة إيران، وتتوسّع حتّى يصل التعريف للسائل، إذ لا بدّ في التعريف من مراعاة حال السائل .
بالنسبة إلى عالم الملائكة فإن أعرف وأوضح وأجلى شيء لهم هو قوس الهداية ومنطلقها وامتداد الفيض والرحمة، فهذا شأن من شؤونهم لأنهم مسؤولون من قبل الله عن كثير من الأمور ﴿ وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسّابِقاتِ سَبْقاً (4) ﴾ النازعات ﴿ وَالصّافاتِ صَفّاً ﴾ الصافّات1 هذه الوظائف تؤخذ من مركز الفيض ومنطلقِه. والملائكة تعرف أن علّة عالم الهداية هي الصدّيقة الزهراء (ع) لذا كان جواب الله لهم باختصار الخمسة في فاطمة ( هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها ).
قد يرد إشكال: هل فاطمة أهمّ من رسول الله (ص)؟
والجواب: لا، فليست المسألة بمهمّ وأهمّ. بل الكلام في نظام عالم التكوين، وامتداد تدبير عالم التكوين عبر امتداد أسباب الرحمة والهداية، هذا الامتداد لا بدّ أن يكون سببه أنثى، فطرق الهداية في عالم الأرض لا تجري إلاّ وفق الظروف الطبيعية للهداية، من زواج ونكاح وامتداد للنسل، ومن تربية وتعليم للأبناء… لأن الهداية في عالم الشهادة تحتاج إلى معابر تتناسب مع عالم المادّة، ولا يمكن أن يعبر الفيض في هذا العالم إلا عبر فاطمة عليها السلام .
إننا نرى في الأنظمة العالمية أن الوظائف الأساسية تعطى لمن كان أقدر على التأثير والتحريك للناس نحو أهداف الجهة ومشروعها، ولا يهمّ هنا تاريخ ذلك الشخص المنتخب. بل المهم قدرته على التأثير. فـ (تصدّي المؤثِّر) نظام طبيعيّ عقلائيّ. الزهراء عليها السلام في عالم الوجود هي الأقدر على التأثير الكامل، الجامع، الحسن، الأحسن في كلّ جوانب حياتها. فلو درسنا السيّدة الزهراء (ع) أمّاً؛ سنجدها أحسنت إدارة وظيفتها الأموميّة، ولو درسنا الزهراء بنتا؛ لوجدناها أحسنت بنوّتها حتّى صارت أمّاً لأبيها، وإذا درسناها (ع) زوجة؛ فسنجد أنها كانت سنداً لعلي ، و لم ينهدّ لعليّ (ع) ركن في حدث منذ أن بُعِث رسول الله (ص) إلا حين استشهدت الزهراء (ع) فقال (قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري، وضعُف عن سيّدة النساء تجلّدي) (2) وهذا دليل على كفاءتها وجدارتها وقدرتها على أداء كلّ الوظائف بنحو كامل .
قد يقال: كلّ المعصومين قاموا بوظائفهم على أحسن وأكمل وجه، في كلّ شؤونهم الاجتماعيّة والتربويّة والسياسيّة والأخرويّة، فما وجه تخصيص الزهراء عليها السلام؟
نجيب: بأن هناك فرق طبيعيّ بين الرجل والمرأة في إدارة الأمور والقدرة على جامعيتها. فالمرأة والرجل في قيادتهم وإدارتهم مختلفان جداً. الرجل يلتفت عادة إلى الأمور الكليّة، لا يصرفه شيء عن شيء، فهو يستطيع أن يقوم بواجباته الاجتماعية على أكمل وجه، وبعدها يستطيع أن يصلّي ويتوجّه في دعاء … إلخ، ويدير ذلك كلّه بجدارة. هذه الشخصية تسمى (الشخصيّة الجامعيّة) والرجل عنده استعداد طبيعي لهذه الشخصية أكثر من المرأة ، والسبب أن طبيعة الرجل هي التعامل مع الأمور بكليّة، أي أنه لا يقف على الجزئيات و يستطيع أن يقوم بوظائف متعددة دون أن تؤثر إحداها على الأخرى ، وهذا الكلام عليه آيات وروايات وأدلة عقلية وأبحاث تجريبية في المراكز المتخصصة .
وكمثال من الواقع نجد أنه لو كُلف رجل وامرأة بنفس الوظيفة سنجد الرجل يعمل على إنهاء الوظيفة ضمن وقت العمل، وحين ينتهي الوقت يتركها ويذهب، حتّى لو لم يتمّها، أمّا المرأة فهي تعمل وتتابع ولا تستطيع أن تخرج إلا إذا أتمّت وظيفتها، بل وتحمل معها همّ العمل إلى منزلها. ذلك لأنها تهتمّ بطبعها بجزئيات الأمور، وهذه سلبية في هذا الطبع النسائي – إن صح التعبير- فالوقوف عند الجزئيات يؤدّي إلى تأثر كل وظيفة بأخرى فيصعب الإتقان.
إن الجامعية في الرجل أمر تفرضه طبيعته الكليّة في التعاطي مع الأمور. والجامعيّة تعني كلّ الأخلاقيات، ومعنى ذلك يتّضح في قول الأمير عليه الصلاة والسلام (وهو يعلم أن محلّي منها محلّ القطب من الرحى)(3) والمعنى: أنني أستطيع تحقيق كلّ الفضائل بأكمل وجه، وكلّ الفضائل متحقّقة فيّ بنسبة واحدة، فكأنني قطبها الذي تطوف عليه.
وهذا ليس أمراً سهلاً، ولا يتسنّى إلا للكمّل من الناس، لأن الفضائل تتزاحم أيضاً، ولا يمكن تحقّقها بنفس النسبة، وبنفس الدرجة في شخص، فإذا أراد إنسان أن يكتسب فضيلة التواضع فسيصرف كثيراً من الوقت في مجاملة الآخرين وتلبية رغباتهم وغيره .
فالشخصية الجامعية إذن صعبة التحقيق لطبيعة تزاحم الفضائل والكمالات، ولكن طبيعة الرجل تعينه على بلوغها أكثر من المرأة، لذا فإذا تحققت هذه الجامعية في المرأة، متخطّية طبيعتها التي لا تساعد على ذلك – غالباً – عندها تكون تلك المرأة متميّزة بحقّ . أضف إلى ذلك ما تضفيه طبيعتها الأنثوية من حنان وعاطفة على مختلف الفضائل ليكون تأثيرها حينئذ نفّاذا وقويّا عميقا لا يضاهى.
محورية الزهراء:
إن محورية الزهراء عليها السلام – بغضّ النظر عن كونها معصومة – نابعة من هذه الخصوصية، وهي القدرة على الإحسان الجامع الذي يتعسّر في الأعمّ الأغلب على كلّ أنثى. وهذا هو الفرق بينها وبين الأئمّة عليهم السلام، فهي تمتاز بكونها أنثى، وهذايعني فيما يعنيه أن يكون جهادها أشق، ولهذا كانت أعبد الناس بعد أبيها، فقد بذلت وسعها في كلّ شيء: في الطاعة، في العبادة، في الجهاد، لذا قال الإمام العسكري عليه السلام: (نحن حجج الله على الخلائق، وأمّنا فاطمة حجّة الله علينا) هذه الحالة هي التي أعطت الزهراء عليها السلام استحقاق المركزيّة في عالم الثبوت والتكوين والغيب، وستكون لها هذه المركزيّة أيضا في دولة الحقّ التي سيقيمها الإمام الحجّة عليه السلام. وعلى المرأة أن تتأسّى بالسيّدة الزهراء عليها السلام في هذا البعد، نعم قد ترهق هذه الوظيفة المرأة أكثر من الرجل، لكن على كلّ حال الإنسان مخلوق ليجاهد نفسه، ويتعمّق أكثر حتّى يقاوم أكثر ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ النجم 39
إن تأثير الزهراء عليها السلام نابع من إحسانها في كلّ الوظائف وهي قدرة غير عادية وتحتاج إلى كمال خاص، وهذه القدرة على التأثير الموجودة عند فاطمة عليها السلام موجودة بنسبة ما عند كلّ أنثى، لخصوصية الأنوثة. ويتبعها صفة الإيثار والتأثير، وهاتان صفتان تتميز بمهما المرأة عن الرجل. والإيثار والتأثير مسألتان متلازمتان، فكلّما كان عند الإنسان قدرة على الإيثار بدون مقابل فهو أقدر على التأثير.
وبالحديث عن الإيثار نتحدث عن (الأثـَرة ) وهي الطمع والاستئثار الوجه المعاكس للـ (إيثار) ليتبيّن لنا أن عالمنا مليء بالأثَرة التي هي في واقعها جهنّم. الأثرة هي ما يحكم العالم اليوم، وثقافة أصالة اللذّة والمنفعة هي ما تسوده . والمرأة عنصر فاعل في هذه الحالة ، ونعني أن كلّ الإمكانيات في يد أصحاب رؤوس الأموال من العالم المستكبر. ولدى هؤلاء ثلاثة أسلحة يسيطرون بها على العالم هي : ( المال والمخدرات والمرأة) ويستطيعون بها امتصاص أموال وطاقات وإمكانيات دول العالم متى شاؤوا.
المرأة بطبيعتها تملك مقوّمات التأثير، لكنها اليوم في ظلّ ثقافة أصالة اللذّة والمنفعة تحوّلت للأسف إلى سلعة، فانحصر نطاق تأثيرها بجذب الأموال لأصحاب رؤؤس الأموال، بل إن هذه الثقافة صبغت كلّ نواحي الحياة، حتّى تحوّل العالم به إلى جهنم، والسبب أنه لم يعد فيه شخص مؤثّر، وغدا الكلّ مستأثراً.
و ما يطفئ نار الأثرة هذه هو إيثار فاطمة (ع)، والعاصمة من هذه النار هي فاطمة، لأنها تؤثر وتؤثّر، تصنع ولا تريد شيئا في المقابل.
هذا ما تستطيع المرأة أن تقوم به أكثر من الرجل، فإذا كان الإحسان والإتقان يحمّلها مشقّة أكثر من الرجل، فالإيثار أيسر عليها من الرجل، المرأة تترك ما في يدها لأبنائها، لمجتمعها، تتراجع عن خلاف، تتراجع عن رأي، كلّ هذا يمكن أن تقوم به بيسر لأنه قريب إلى طبيعتها .ولا شكّ أن الاستنان بهذه السنّة يحتاج إلى ترويض النفس على التضحية، من أجل المصلحة العامّة، وفيه سحق للـ (أنا) التي تغذّي (التكاثر) وتضعف كوثر النفوس.
هناك مصطلحان في ثقافتنا الإسلامية هما: الكوثر والتكاثر، والفرق بين الكوثر والتكاثر أن الكوثر يؤدّي إلى الإيثار، والتكاثر يؤدي إلى الأثَرة . التكاثر: عملية تباري طرفين على الملهيات ويفضي إلى التصعيد والمسابقة التي جعل كلّ واحد يغرق في ذاته. وقد ورد في بعض الروايات ما مضمونه ( أن من التكاثر أن يتسابق الرجلان في خيطي نعليهما أيهما أفضل) وعندما يشيع في المجتمع التسابق باتجاه ما يجذب العيون أكثر فهذه نار اجتماعية، وقودها وحطبها بالدرجة الأولى هم النساء.
فوفق ما ذكرته إحدى الإحصائيات فإن أكثر ما يباع في هذا العالم بعد الأسلحة هو أدوات التجميل بكل أشكالها وأنواعها، كما أن أكثر العمليّات كلفة هي عمليات التجميل، العالم كلّه يحترق، ليس بحرب ونيران وسلاح عسكريّ فحسب، بل بألوان من الحروب الناعمة، ولا يطفئ هذه النار إلا أن يتحرك كوثر الإنسان بالعفّة، فيتسابق من أجل القيم والفضائل ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ الأحزاب 35، هذه القيم إذا أصبحت قيما اجتماعية، وأصبح التسابق تسابقا عليها ومن أجلها، سوف تنطفئ هذه النار.
وستحرق هذه النار الأرض ما لم تسُد المرأة مع عفّة قناعة، وتستنّ بالزهراء عليها السلام، الزهراء التي تفطم كلّ الوجود عن النار، بما تحوزه من العفّة والإيثار والتأثير معا، سنّتها التي تكتمل بها مكارم الأخلاق.
خلاصة ما وصلنا إليه هي أن ركائز المجتمع المهدوي هي سنن المعصومين الانبعاث الذي رأسه الحكمة ومعلّمها رسول الله صلّى الله عليه وآله، والشجاعة والقدرة على الاحتمال والاقتدار على نقاط الضعف ورائدها الأمير عليه السلام، والعفّة والسيادة من الزهراء عليها السلام، وبهذا تبنى الدولة الإلهية .
_______________________________________
1- من أصول عقائدنا العقلية أن هناك ارتباط وانسجام وتطابق بين عالم الغيب وعالم الشهادة، عالم الثبوت وعالم الإثبات، عالم التكوين وعالم التشريع .
2- نهج البلاغة – خطب الإمام علي ع ج2ص182
3- الخطبة الشقشقية نهج البلاغة
0 تعليق