مواقع النجوم ٤/ السنة العلوية (٢-٢)
عرفنا أن سنن المعصومين الأربعة عشر هي ما يقوم عليه المجتمع المهدويّ، وهي ما ستشكّل الحكومة والحاكم والمحكوم، فالحاكم والمحكوم في دولة الإمام المهديّ كلاهما من أهل الحكمة، وقد بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله ليتمّ مكارم الأخلاق وعلى رأسها الحكمة. وهذا خلاف الفلسفة الأفلاطونية التي ترى أن الناس عوام، وأن التصدّي لإدارة شؤون الناس من حقّ الحكماء فقط.
وأسلفنا أن (الخاتمية) هي من السنّة المحمّديّة، وأن الخاتميّة بالنسبة لأمير المؤمنين تقضي بأن يكون هو الهادي بعد رسول الله ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ الرعد: 7 ، ووفق قواعد العلوم القرآنية واللغوية فإن كلّ آية في القرآن تبدأ بـ (إن، إنما، لقد) فهي تعبّر عن حقيقة ثابتة. ووفقا للغة القرآن فإن (الهادي) بعد (الخاتم) لابدّ أن يكون ملهِما، لأن الهداية هي الإرشاد بلطف، والقدرة على تحريك النفس الملهمة، هذه النفس يموت الكثير من الناس دون أن تشتعل جذوتها في أعماقهم، ولكن المرتبط بعليّ عليه السلام – بأيّ مقدار – سوف يشعر بتحريك هذه النفس لفكره وروحه ومشاعره وسلوكه .
من هو(الهادي)؟
لكي نعرف معنى الهادي لابدّ أن نعرف أولا معنى الخاتم.
القرآن يبيّن وظيفة رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الشعراء: 215 ، والتعبير بخفض الجناح تمثيل لوظيفة رسول الله صلّى الله عليه وآله بمثال حيّ، فالطير حين يخفض جناحيه لاحتواء البيض فإنه إثْر هذا الاتّصال، وبسبب حرارة الجناحين؛ يتحوّل البيض شيئا فشيئا من عناصر أوّليّة إلى كائن مكتمل، ثمّ تفقس البيضة، ويخرج الفرخ مكسوّا زغبا، غير قادر على أبسط حركات الطيران، ولكنّه يظلّ تحت الدفء والحنان، تعلّمه الأمّ بالتدريج كيف يفرد جناحيه ويحرّكهما، وتتلطّف به حتّى يتمكّن من الطيران لمسافات قصيرة، وترعاه إلى أن يتمكّن في النهاية من التحليق في جوّ السماء .
إن هذا التصوير القرآني يريد أن يوصلنا إلى فهم دور رسول الله صلّى الله عليه وآله. فهو في عالم التكوين في حالة تحليق دائم، وإذا لم يرخِ جناحه للمؤمنين ويحتويهم برعايته؛ فستبقى نفوسهم بمثابة المواد الخام: أمّارة ومسوّلة، لكن الرعاية النبويّة تعلّمهم الكتاب والحكمة، لتسمو نفوسهم، وتنمو لهم أجنحة العلم والعمل الصالح، ويحلّقون بها في عالم الفضيلة، وحين يعلو تحليقهم يستطيعون الاتّصال بعالم النفس الملهمة، ولا يعود للأرض عندهم قيمة.
أما من صمّ أذنيه وأطبق عينيه عن الهداية، وحُرِم من العناية النبويّة؛ فلن يستطيع أبدا أن يحلّق ، لأنه لا يملك أداة التحليق، وإذا حُرم الطائر من التحليق قُطع دابره ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الأنعام: 45 فالنفس التي لا تملك الاستعداد للاستفادة من علوم ومعارف وأخلاق ومبادئ النبوّة فلن تحظى بالتربيّة والعناية، ولن تنمو لها أجنحة التحليق، وعناد أولئك وتكذيبهم هو بمثابة قطع دابرهم وحرمانهم من الطيران ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ البقرة: 7.
إذن وظيفة رسول الله صلّى الله عليه وآله هي خفض جناح لطفه ورحمته لنستفيد من حكمته وعلمه ولنحلق بسنته (صلّوا كما رأيتموني أصلّي)(1) نتبعه ونتخلّق بسنّته ونطير في أجوائه. والهادي الذي يأتي من بعده هو من يكمل مسيرة الهداية، هو الملهِم الذي يخلق فينا ما يملأ وعاء العقل حكمة ومعرفة، ويملأ قوى العمل تصميما وإرادة. الاتّصال بالهادي هو ما يجعلك ملهَما، وأن تكون ملهما يعني أن تستطيع التمييز بين الإرادة الربانية وبين الخواطر الشيطانية في أعماقك. أما الذي لا يستلهم من علوم عليّ (ع) فإنه لا يأمن من تسلّط شياطين الجنّ والإنس على قلبه وفكره وروحه، ولن يحلّق أبدا في سماء الفضيلة.
نقرأفي التاريخ مثلّث الناكثين والقاسطين والمارقين الذين حرموا من الإلهام العلويّ، وذلك لأنهم وإن جمعهم الزمان بعليّ (ع) إلاّ أنهم لم يستفيدوا منه، فصار حالهم معه كحالهم مع القرآن ﴿.. وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى..﴾ فصّلت: 44.
الناكثون/ هم أصحاب الجمل، وهم كبار القوم الذين أغراهم موقعهم الاجتماعيّ واقتدارهم الماديّ وتاريخهم بوضع أنفسهم في عرض عليّ عليه السلام، ولولا أن عليّا (ع) كشفهم لظلّوا متستترين بهالة القداسة الوهميّة التي أحاطهم بها موقعهم .
أما القاسطون/ وهم معاوية وبنو أميّة ، فهم من طمح لنزع الموقع الذي أعطاه الله لعليّ عليه السلام، فتلاعبوا في المكيال بوضع أنفسهم مقابل عليّ (ع) وأخذوا يزنونه بمقاييسهم، فهو قرشيّ وهم قرشيّون، وهو ابن عم النبيّ وهم أبناء عمومته.. فوضعوا جوهره المقدّس في كفّة وقابلوه بزيادة حصاهم وحجارتهم في الكفّة الأخرى.
أما المارقون/ فهم الخوارج الذين رأوا أنفسهم فوق عليّ (ع)، وصوّرت لهم أوهامهم أنهم أفضل وأعبد وأتقى من عليّ (ع). هؤلاء مثّلوا أضلاع المثلّث مقطوع الدابر، لأنهم أرواح غير قابلة للإلهام.
الإنسان الملهَم هو الذي يقرأ لمسات الله في أعماقه، ويميّزها عن بصمات الشيطان، وهو من تحيا في نفسه الرغبة في العطاء والإيثار، وهو من سمت نفسه وترجم بالفعل والعمل ما تهديه إليه روحه الملهَمة. وهذا هو ما يعطي الإنسان تلك العطية الإلهية النفيسة (الحكمة) ﴿.. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا..﴾ البقرة: 269 هذه الآية جاءت في سياق مجموعة من الآيات تتحدّث عن الإنفاق ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ (267)﴾ ، ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ (271)﴾ ، ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً (274)﴾ فبدت هذه الآية بينها كأنها واسطة العقد، التي تفسّر ما قبلها وما بعدها من الآيات ثم يقول سبحانه::﴿وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا (268)﴾ جاءت هذه الآية تتوسط الحديث عن الإنفاق الذي هو: التحرّك في عمل الخير الذي تدعوك إليه نفسك الملهمة… الإنفاق بشتّى أنواعه: الماليّ والعلميّ والاجتماعيّ، لتبيّن أن حركة الإنسان وفق ما تدعوه إليه نفسه الملهمة تجعله يحصل على عطية ربانية تدعى الحكمة، والحكمة لا تتأتّى – كما يتصور غالباً – من العلم والتعلّم وقراءة الكتب، بل هي نتيجة جريان إرادتك الخيّرة في كلّ أفعالك وأقوالك بحيث يصبح سلوكك محكما قويّا لا يتخلّله الضعف .ولكي تتحقّق الحكمة عليك أولا أن تميّز بين البواعث النورانية والبواعث الشيطانية، وهذا التمييز لا يكون إلا بالارتباط بالملهم الهادي، عليّ عليه السلام.
الارتباط بعليّ (ع) يجعلك تستمدّ منه عزما وصلابة وتصميما لتحقيق الإرادة الخيّرة، وبهذا تكون قد استننت بسنّة عليّ عليه السلام، وهي (الاحتمال والتصميم والعزيمة والاقتدار).
1. بحار الأنوار ج: 82 ، ص: 279
0 تعليق