تقدم القراءة:

الشهيد الصدر ومشروع بناء حضارة تقوم على مرتكزات إسلامية

الأثنين 1 فبراير 2021صباحًاالأثنين

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)
نحن نعلم أنه لتأسيس أيّ حضارة نحتاج لبناء نظري، ولا شك أن أي منهج حضاري يبدأ أولًا بالطرق السلمية لحل مشكلات الأمة المختلفة في كل الميادين، وهذا هو معنى الحضارة، فيجب أن ُتحل هذه الحكمة في الميادين المعرفية أولًا.
ولا نبالغ -على الأقل في حد علمنا- إذا ما قلنا أن للشهيد الصدر الأول التواجد الاستثنائي لتحقيق هذا الهدف في المفاصل الأساسية لبناء حضارة إلهية تفوق كلّ ما قدّمته العقول في المشرق والمغرب، وذلك في حقول الفلسفة والاجتماع والاقتصاد، وتُعد الفلسفة أم العلوم، وهي البناء التّحتي الذي تُبنى عليه سائر المجالات الأخرى من علم الاجتماع وضمنه الأخلاق وعلم الاقتصاد، وما إلى ذلك من علوم.
وقد تفرّد الشهيد الصدر ببيان ما تميزت به الفلسفة الإسلامية من واقعيات وعقليات، ببيان قلّ نظيره بهذا القدر من الاستحكام والتماسك، فقد نقاش نقاط الضعف التي تعاني منها المدارس الأخرى وأوضح أسباب فشل مبانيها المادية، وعجزها عن إيصال الإنسان لكماله الفطريومن أهم النقاط قوة في نتاجه –وبحسب تقديرنا– والذي قلّما يحظو به أيّ متن فلسفي، هو العمق وسلاسة البيان وبنسبة متساوية، مع حفاظه على الأصالة والتجديد، فبقدر ما يوصلك إلى غور مباني الفلسفة الإسلامية، بقدر ما هو سلس سهل، حيث يستطيع أن يفهم ما قاله الشهيد الصدر أدنى مهتم بالفلسفة؛ لأنه كان يكتب لكل الأمة مظهرًا لباسط اليدين والكفين بالعطية.
وكان معتمدًا في كل ذلك على البرهان الأرسطي السائد في الأذهان، وهو الدليل المعتمد في الاستدلال المنطقي الدارج الجاري، وإن كان للشهيد الصدر منهجًا خاصًا في المنطق، ولكن كانت عبقريته العاطفية ورحمته بنفس درجة عمقه في علمه ومعرفته. 
في حين كانت مشكلة الإنسان لبناء حضارة إسلامية بعد ١٣٠٠ عامًا، أنه كان لا بدّ من الدخول في الساحة الاقتصادية وذلك بعد الدخول في الساحة الفلسفية؛ ليواكب تعقيداتها وتطوراتها وركامها السوقي والمصرفي والإنتاجي، لذا قدّم الشهيد الصدر مشروعه الكاشف عن آراء الإسلام من نظريات وثوابت إسلامية ومتغيرات، وكلها تواكب حاجة الإنسان المعاصر، ومع ذلك بيّن  الويلات الكامنة في المدارس الليبرالية والاشتراكية التي كانت تصارع وتحاكم في ذلك الوقت الإسلام، والتي مالبثت أن تحولت إلى غدة سرطانية تحمل الظلم والانحلال وتفتت مركّب الإنسان السليم بالطبع الأولي، إنّ هذا النتاج جاء وسط ركامٍ هائلٍ من الشعارات البرّاقة التي تتنافس على الطاقة البشرية ومواقع صنع القرار، وكما نعلم أن أغلب قاصري النظر تجرفهم الشعارات البرّاقة خصوصًا في المجال الثقافي والاقتصادي، مع أن هذه النظريات الاقتصادية غير الإلهية هدفها تحويل الإنسان إلى مستهلك، وإلى أداة مُسخّرة للإنتاج الرأسمالي، أو لا أقل لمصلحة حزب معين، ولكن الشهيد الصدر ضرب بيده ليخرج قيحها وأمراضها، ومن لها غير أبي جعفر “قدس الله سره”.
فكل تلك الأنظمة كانت قائمة على سلب الإنسان كرامته بحيث يُسخر فيها –بشكل غير محسوس إما للدولة، أو للثروات، أو لمصادر صنع القرار، والتي بيدها الإنتاج ورؤوس الأموال، وهذا يعاكس تمامًا الرؤية الإلهية فقد خلق الله سبحانه وتعالى وسخّر الوجود لخدمة الإنسان، من أجل كرامته وعزته الواقعية، وهذا ما كشف عنه الشهيد الصدر في كتابه (اقتصادنا). وإن كان الشهيد الصدر يرى أن بين (فلسفتنا) و(اقتصادنا) هناك حلقة مهمة هي مجتمعنا، لتكامل هذا المشروع الحضاري، طبق النظرية الإلهية، وبشكل منطقي ودقيق، فمشروع مجتمعنا حسب رؤية الشهيد الصدر كان  وكما يجدر أن يكون- الحلقة الثانية المتوسطة بين فلسفتنا واقتصادنا؛ وذلك لأن العقائد الثابتة، والفلسفة الإلهية تُبتنى عليها مبانٍ فوقية وتدريجية، هي التي تصلح أن يؤسس عليها منظومة اقتصادية متراصة معها، ولأن الشهيد الصدر كان يتّسم بالليونة وبالاستجابة لحاجة الأمة -كما ذكر هو نفسه في أوائل كتاب (اقتصادنا) وكتاب (البنك اللاربوي) مشيرًا لهذا المعنى- فكانت حاجة الأمة المّلحة لكتاب يحل مشاكلها الاقتصادية، هو ما دعاه للاستجابة لهذا الطلب –وهذا من خلقه الكريم وهو ما حال لعدم إكمال الشهيد الصدر مشروعه  مجتمعنا- كما كان يرغب ويرى.
إلا أننا نجده وقد كسر قفل التفكير البشري القائم آنذاك على حاكمية النظام الأرسطي في التفكير الفلسفي الإسلامي، بكتابه المذهل للعقول (منطق الاستقراء). وعندما نريد أن نتحدث عن نتاج الشهيد الصدر الحضاري والفكري، فإننا سوف نغرق في الكثير من المباني التي نعجز أن ندركها فضلاً عن بيانها.
لقد انتقل الشهيد الصدر من مرحلة التنظير لمشروع حضاري إلهي، إلى مرحلة العمل الجاد بكل ما أوتي من قوة لدعم مشروع بناء الدولة الإلهية العادلة في كل مفاصلها، فبعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران دخل الشهيد الصدر مرحلة جديدة لريادة جديدة لا نظير ولا مثيل لها، وذلك من خلال تأليف مجموعة من الكتابات التطبيقية التي تساهم في إزاحة كل العقبات أمام المشروع الفعلي لهذه الدولة الإسلامية؛ لأنه كان ينظر إلى هذه التجربة بأنها تمثل حلم الأنبياء (ع) كما قال، فكان هو الحامي لهذه الثورة الإسلامية في العراق، وفي حوزة النجف بالذات بقلمه وتأليفاته وبمواقفه التي يعجز العقل عن وصف ما تحمل في داخله من عناصر أخلاقية وفدائية وعقائدية وعبقرية وروحية هائلة، فنحن حينما نسمع أو نقرأ للشهيد الصدر وهو يتحدث عن نجاح هذه الثورة وموقفه منها، تحسه يحمل بين جوانحه روحًا متوهجة، ونورًا وعشقًا وحبًا وولاءً منقطع النظير للإسلام، فهو مع مرجعيته العظمى وعبقريته الفذّة يقول بكل تواضع: “إنني أتمنى أن أكون كاتبًا لعمود في جريدة مؤيدة لهذه الثورة” ولم تكن هذه العبارات صرف أمنية، فمن عٓرٓف الشهيد الصدر يٓعرف أنه بحق يمثل جده أمير المؤمنين (ع) الذي يعرف أن الإيمان بالله ليس بالتمني، ولا يُنال بالتزين والزيف والتمني والترجي والألقاب، ولا غرابة لمن عرف هذه الروح الطاهرة عن كل شوب، كيف تعطي كل ما عندها من إمكانياتي، وتؤثر مكانتها وموقعها وتاريخها ونتاجها وتقول: “ذوبوا في الخميني كما ذاب في الإسلام”؟!
وللشهيد الصدر أيضًا نتاجه الفريد في علم الأصول والتاريخ وسيرة أهل البيت (ع)، وله المرجعية والوجاهة والمكانة المرموقة، فكيف به وهو يضع كل ما يمتلكه في هذه الجيب، أو في هذه الخزانة؟! ولكن إذا قرأنا الشهيد الصدر منذ كان طفلاً وليدًا لم يكن أمامه معوقات ولا موانع ولا حجب تمنعه عن انكشاف ورؤية الوجه الناصع الحقيقي للإسلام، فلا مسافة بين ما يتبنى وبين ما يفعل، هو، هو، يكون حيث يريد الله أن يكون، وبذلك بدأت حرارة الدّم الرّباني تفور وتغلي في عروقه وفي فكره ومواقفه، وترتفع يومًا بعد يوم، أو قولوا آن بعد آن، أو قولوا بلا آنات، ترتفع فيه حمّى حب الله سبحانه وتعالى وتغلي فيه كالّنار في المرجل.
استمعوا لحديثه -من خلال التسجيلات المتوفرة- حول حب الله وحب الدّنيا، يترامش روحًا حضاريًا، إلهيًا، ماثلاً للعيان، ولا نبالغ أن أقول كان مشروعًا نبويًا، كاشفًا عن صدره بلا درع ولا حجاب، غارقًا في عبودية ربه، سابحًا سائحًا في عرفانٍ لا تشوبه الطقوس والأوهام والأماني والخيالات أمام ذلك الطغيان النادر، أمام ذلك البعث الذي لا يتورع عن شيء.
إن هذا المشروع العملي والذي قلّ نظيره، بل لا نظير له إلا في جدّه الحسين (ع)، فتراه في آخر الصورة غارقاً في دمه، مخلّفًا بيته وعائلته وكتبه وجهده، بلا حامي ولا معين، لأعتى طاغية، متمسكًا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميعٌ عليمٌ، ولا تسأل عن عائلة الشهيد الصدر، ولا عن زوجته ولا عن بناته ولا أحد من أهله، فهي ملحمة عاشورائية ثانية بكل معانيها، فمن جانب هي منظر حضاري ناصع ومصداق لما قالته عقيلة الطالبيين (ع)ما رأيت إلا جميلاً، ومن جانب آخر هي معاناة تكشف عن واقع الأمة، وتكشف كرم الشهيد الصدر ببناء هذا المشروع الحضاري الرّباني لهذه الأمة.
​أخيرًا، أستميح الأخوات العذر وأشكرهم على هذا العمل القيّم والشجاع، وهذه المبادرة الدائمة، والمستمرة، وأسأل الله أن يثيب القيمين على هذا النشاط، وأن يجمعنا وإياكم إن شاء الله، ويرزقنا إتمام وإكمال وفهم رسالة الشهيد رضوان لله عليه في الدّنيا، ويرزقنا في الآخرة شفاعته، وصلى الله على محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 114٬722 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها