بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.
لرسول الله ﷺ وللبضعة الطاهرة ولأمير المؤمنين ﴿؏﴾ وللأئمة المعصومين سيّما خاتمهم (عجل الله فرجه الشريف)، مراجعنا بشكل عام، قائد الأمة الإسلامية، المؤمنين والمسلمين عامة آلاف التباريك وأهنئها وأسماها بميلاد الإمام الحسن ابن علي العسكريّ ﴿؏﴾.
حديثنا بعنوان الإمام العسكريّ هو العسكريّ بحق.
توطئة
ولد الإمام الحسن العسكريّ ﴿؏﴾ بحسب بعض الروايات في الثامن من ربيع الثاني من السنة الثانية والثلاثين بعد المائتين؛ أيّ في منتصف القرن الثالث، في المدينة المنورة، واستشهد ولم يناهز عمره الشريف ٢٨ عامًا، ودفن في بيته في سامراء، واستمرت مدة خلافته ٦ سنوات، أما نسبه ﴿؏﴾؛ فهو أعلى نسب عرفته البشرية حيث لا يقاس بهم أحد؛ فمن جهة أبيه؛ فهو امتداد لتلك السلسلة النورية لرسول الله ﷺ، وأما أمّه؛ فقد كانت نوبية، وقد ورد في الخبر بأن اسمها سليل، وكما جاء ذكرها في الروايات؛ بإنها كانت مطهرة من الأنجاس والأرجاس والآفات، كما عاصر الإمام العسكريّ ﴿؏﴾ ثلاثة من الخلفاء العباسيين (١)، وهم: المعتز، والمهتدي، والمعتمد.
ويجدر الإشارة هنا إلى أنه وفي ذلك الظرف والزمان من ولاية الإمام العسكريّ ﴿؏﴾ كانت الدولة العباسية في أضعف مراحلها، فحين تتحول الدولة إلى صرف سلطة تنفيذية لقرارات وإملاءات خارجية فهي تدار من الخارج واقعًا، وستقع في نهاية المطاف تحت قبضة وإمرة الآخرين وسيطرتهم، وهو أوضح دليل على ضعف أيّ سلطة وفقدانها القدرة على إدارة شؤونها.
لذلك نرى أن جميع هؤلاء الخلفاء كانوا يعيشون الخوف من انقضاض ملكهم، خوفًا من الأتراك الذين كانت بيدهم زمام الأمور، وكان بيدهم السلطان الحقيقي والواقعي للدولة الإسلامية.
تسمية الإمام ﴿؏﴾ بالعسكريّ
فيما يتعلق بلقب الإمام الحسن العسكري ﴿؏﴾ فإن الذي لقبه بهذا اللقب الله ﷻ، كما لقبه به النّاس أيضًا، ووجه تسمية النّاس؛ كون الإمام ﴿؏﴾ مقيمًا في منطقة عسكرية، -ولو أن الأولى من ذلك أن تسمى سجنًا، فالإمام ﴿؏﴾ كان في واقع الحال مقيم في سجن- ولو أن هذا الأمر لا يختص بالإمام العسكري ﴿؏﴾ فحسب؛ بل إن الإمام الهادي ﴿؏﴾ نزل في ذات المنطقة، كما أن الإمام الجواد ﴿؏﴾ قضى بعضًا من عمره الشريف بها أيضًا.
ولكن المهم لدينا هنا هو وجه تسمية الله ﷻ للإمام بالعسكريّ ﴿؏﴾ بهذه الكنية؛ فقد جاء في كتاب الحرّ العاملي عن الفضل بن شاذان في كتاب الرجعة بسنده، عن أبي خالد الكابلي قال: “دخلت على مولاي علي ابن الحسين ﴿؏﴾ وفي يده صحيفة فقلت له: ما هذه الصحيفة، فقال: هذه نسخة اللوح الذي أهداه الله تعالى إلى رسوله ﷺ، وفيه اسم الله ﷻ ورسوله ﷺ، وعدد الأئمة ﴿؏﴾، إلى أن قال وابنه الحسن العسكري”(٢).
وليس لدينا هنا علم قاطع، أو مبرر جازم لعلّة تلك التسمية الإلهية، فالله ﷻ إذ سمّاه بالعسكريّ، وهو أعلم بذلك، ولكننا هنا نطرح سببًا على نحو الاحتمال الاستنباطي، وكما نتصور أن هذا الاحتمال قريب، ومما يمكن أن يقبله العقل؛ قد يتبادر للذهن أو نتصور أن العسكر هم الجيش، وممن يحمل السلاح ليهاجم العدو، والحقيقة ليست على هذا النحو، فالعسكريّ هو الجندي المستعد والمهيأ في حال قيامه واستعداده لأداء وظيفته، وعدم تخليه البتة عن دوره ووظيفته وتربيته لنفسه ومن حوله؛ بحيث يخدم الجهة التي يواليها ويعتقد بأهدافها، فالذي يقف على الثغور وفي المواقع التي يهجم منها الأعداء يسمى عسكريّ، فنقول هنا لربما كون الإمام العسكريّ ﴿؏﴾ هو أبو الإمام المهدي ﴿عجل الله فرجه الشريف﴾، وباعتبار أن الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) من سيقوم بمشروع العدل الإلهي الكامل، ويقيم دولة العدل، ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا، وسيطهر الأرض في الطول والعرض، فلا شك إن هذا القيام يحتاج إلى أتباع ومعاونين يصحّ لنا أن نسميّهم بالعسكريين.
كما أن من لوازم هذا القيام وجود معسكر علمي وفكري واقتصادي وسياسي واجتماعي وأخلاقي؛ لأنه سوف يملأ الأرض بمشروع الرسالة الإلهية المحمدية، ولا شك أن الإمام العسكري ﴿؏﴾ كان مشغولًا بإعداد الأرضية للإمام الموعود (عج)، وكان يعمل على بناء ذلك المعسكر.
فما نريد قوله هنا إن هذه الفرضية التي نضعها والاحتمال الذي نطرحه هو أن الإمام الحسن العسكريّ ﴿؏﴾ كان يهيأ ويصنع معسكرًا للقيام والإعداد للإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)، وهذا خلافًا لما اعتادت عليه النّاس في علّة تسمية الإمام بالحسن العسكريّ ﴿؏﴾ باعتبار نزوله في معسكر.
وقبل أن نتحدث عن نماذج من سيرة الإمام العسكريّ ﴿؏﴾ لإعداد الشيعة في زمن الغيبة، والإعداد لهذا المعسكر؛ نشير هنا إلى مسألة هامة لها ارتباط أساس بهذا الموضوع، وهو أن انتشار الرقعة الجغرافية الكبيرة للشيعة في العالم الإسلامي؛ هي التي تعطينا حيثيات ذلك الإعداد، وتحدد مشروع هذا الإعداد والعناصر الأساسية له؛ فنحن لا يمكن أن نقيس الشيعة في زمان الإمام الحسن العسكريّ ﴿؏﴾ بالشيعة في زمان أمير المؤمنين ﴿؏﴾، أو في زمان الإمام الحسين ﴿؏﴾، أو حتى في زمن أبيه الإمام الهادي ﴿؏﴾، وهذا العنصر – انتشار الشيعة والتشيع- في مناطق كثيرة ضروري في دراسة عملية الإعداد وبناء العسكر الذي قام به الإمام العسكريّ ﴿؏﴾، ولهذه الحيثية كان انتخابنا لعنوان هذه الكلمة في ميلاده الشريف كونه (العسكريّ بحق)؛ إذ أن طبيعة الاتساع الذي حدث بسبب انتشار المذهب الإثني عشري، ونضج الشيعة؛ مما يجعل الإمام ﴿؏﴾ مبسوط اليد أكثر؛ بحيث تغدو الشيعة تشكل رقمًا مهمًا في المجتمع الإسلامي؛ في طوس، والحجاز، وسمرقند، ونيشابور، والكوفة، وقمّ، ومناطق عديدة من العالم الإسلامي؛ فأذرع الإمام ﴿؏﴾ كثيرة، وهذا عنصر هام جدًا ومؤثر في النهج العسكريّ الذي يتبناه الإمام ﴿؏﴾.
فإن الإمام العسكريّ ﴿؏﴾ والذي يرى بعين الله ﷻ، والواثق بما في يده ﷻ ومواعيده الصادقة، وعدم العجلة في طلب النصر، كما هو الواثق من أمر شيعته حاله في ذلك حال رسول الله (ص): ﴿وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ الأنفال: ٦٢، ونستنتج من ذلك كله أن الإمام ﴿؏﴾ كان يبني معسكره على أصول وأسس، وهي التي سنحتاجها في زمن الغيبة، وأن علينا أن نتبناها ونتمسك بها وأن نتمثلها، هذا في مقابل أولئك الأعداء؛ الذين مهما صنعوا من معسكرات؛ فكلها وهمية وغير واقعية؛ لأنها بنيت على شفا جرف هار(٣)؛ كما أن الإنسان الذي لم يرتبط ويتصل بالله ﷻ، ويثق بمواعيده ﷻ يكون حاله العجلة ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا﴾ الإسراء: ١١.
عناصر إعداد الإمام العسكري ﴿؏﴾ لمعسكر شيعته ونماذج منها
سنذكر هنا عنصرين ليس على نحو الاستنباط؛ بل كأنهما نصين من سيرة الإمام الحسن العسكري ﴿؏﴾ في بناء وإعداد معسكر للإمام المهدي ﴿عجل الله فرجه الشريف﴾؛ كما قد درج على ألسنتنا مفردة إعداد المنتظرين؛ لكن هذين العنصرين -اللذين سنذكرهما- أساسين، ويندرج تحتهما كل أنواع وأشكال الإعداد والبناء الثقافي والفكري والروحي والاجتماعي، وكل ما يجب أن يتلبس به الإنسان الموالي الشيعي المعتقد والمنتظر.
العنصر الأول: الإعداد العلمي
وهذا العنصر وارد جدًا في سيرة الإمام الحسن العسكري ﴿؏﴾، وتعامله مع شيعته ونذكر هنا على سبيل المثال كنموذجًا: قصة الإمام العسكري ﴿؏﴾ وتلاميذه مع تلاميذ الفيلسوف الكندي(٤)، فقد جاء في التاريخ(٥) أن أحد تلامذة الإمام ﴿؏﴾ كان ممن يحضر عند الكندي، فدخل على الامام العسكري ﴿؏﴾ فقال له الإمام ﴿؏﴾ وهو غاضب: (أما فيكم رجل رشيد)، فكيف -وأنتم شيعة- لا يكون منكم من يردع أستاذكم الكندي عمّا أثار من إشكالات حول القرآن الكريم، فقال التلميذ: نحن تلامذته، فكيف يجوز منا الاعتراض عليه؟! -بمعنى ليس لنا القدرة على ذلك-، وكعادة الكثير من الناس يتأثرون بالمصطلحات والمغالطات المنظومة، وينساقون لها.
فقال له الإمام العسكري ﴿؏﴾: (أتؤدي إليه ما ألقيه إليك) بمعنى: لو أعطيتك حجة فهل يكون لديك الشجاعة أن تعترض عليه؟! فالعلم يحتاج للشجاعة، وبدون الشجاعة فلا نفع منه؛ كونه سيصيّر الإنسان ممن يكتم الحقائق، فليس من اليسر والسهولة بحال إظهار العلم في كل مكان وزمان(٦)، وكما جاء في الرواية عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور العمي يرفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله”(٧).
فقال له الإمام ﴿؏﴾: فصر إليه وتلطف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، وهذا ليس على نحو الغش أو السياسة، وإنما هذا هو النهج الإسلامي لإيصال الحجة(٨)، وتلطف بمعنى كن صادقًا ولا تمثل، وكن لطيفًا واقعًا، فإذا وقعت الأنسة في ذلك فقل له: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك منك.
فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن -إشارة إلى كون الكندي مؤلف كتاب متناقضات القرآن- فهل يجوز أن يكون مراده بما تكلم به منه غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها؟ أيّ يقول أن المقصود والمراد ليس ما فهمته وذهبت إليه، وهذا مع ملاحظة أن الكندي فيلسوف، ومن المفترض وحسب طبيعة أمثال المنشغلين بهذه العلوم العقلية أن يلحظ فيها أصحابها كل الاحتمالات والاشكالات الواردة على الذهن ويضعونها في الحسبان، وكما قال الإمام ﴿؏﴾ لتلميذه: أنه إذا سمع كلامك سيقول لك: إنه من الجائز لأنه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله أيّ ما جاء من معاني القرآن الكريم- قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فتكون واضعًا لغير معانيه.
ونلاحظ هنا كيف أن الإمام ﴿؏﴾ كان يُعدّ أصحابه إعدادًا علميًا عميقًا من جانب، ومن جانب آخر فهو يعلمهم الشجاعة وحسن الإدارة والتدبير.
فذهب التلميذ المبعوث من قبل الإمام ﴿؏﴾، وفعل ما طلب منه، وحين صار إلى معلّمه الكندي، وحصلت بينهما الأنسة ألقى عليه المسألة، فقال له الكندي: أعد علي! فأعاد عليه، فتفكر في نفسه، ورأى ذلك محتملًا في اللغة، وسائغًا في النظر، أيّ أنه في اللغة ومن حيث المعنى يمكن أن يكون القرآن الكريم حمّال أوجه ومعان عدّة، كما وأن ما ندركه نحن بأفهامنا من كلام الله ﷻ لا يصلح أن يكون دليلًا وحجة على أن هذا المعنى المتبادر في الذهن هو ما أرده الله ﷻ، إذ يوجد احتمال أن هناك معان مقصودة ومرادة غير التي تبادرت لأفهامنا.
فقال الكندي(٩): أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك هذا ؟! فقال تلميذه: إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلا، ما مثلك من اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرفني أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمد العسكري ﴿؏﴾، فقال الكندي: الآن جئت به ما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت؛ بيوت أذن الله أن ترفع، ثم دعا بالنار فأحرق كل ما ألفه(١٠).
والمسألة المهمة في المجادلة و المحاججة والجهاد العلمي؛ هي كون الإنسان يتحمل مسؤولية كبيرة؛ فلو أن الإمام ﴿؏﴾ جاء الكندي بالقوة والخشونة والغلظة والشدّة؛ ما كان ليستمع للحجة البتة، وسيلتفت لجانب الأسلوب فحسب؛ مما سيولدّ الحقد والعداوة بما يكّون مثل ذلك المناخ والجو الذي سيحيط بالفكرة ويقتلها، بينما تلطف الإمام ﴿؏﴾ بالكندي عبر تلميذه؛ بحيث جعله يقبل الفكرة، إذ أزاح الإمام ﴿؏﴾ بذلك عنه البُعد الانفعالي، وبقي البُعد الفعلي وبُعد الفكرة فقط، بُعد العقل؛ لذلك قبل منه.
إن مجريات هذه القصة هو تأسيس وتدريب من قبل الإمام ﴿؏﴾ لتلاميذه كما يحدث في معسكرات التدريب؛ فالإمام ﴿؏﴾ هو نفسه العسكري الذي يربي جنوده وتلاميذه ويدربهم على إلقاء الحجة والبينة، ويدربهم على التعليم، فالإمام ﴿؏﴾ هو العسكري بحق.
العنصر الثاني: الإعداد الروحي ورفع مستوى التضحية والفداء
من منهج الإمام العسكري ﴿؏﴾ والنموذج الذي صنعه؛ هو بناء معسكر روحي وعلمي وفكري واجتماعي ممتد، وهذا بطبيعة الحال يستلزم لزمان ممتد ومتسع مع امتداد واتساع رقعة المجتمع الشيعي، وهذه نقطة إيجابية مفيدة للإمام ﴿؏﴾، وللمشروع الإلهي الكامل الذي سيقوم به ابنه الإمام (عج) لتطهير الأرض والفكر وتطهيرها من الجهالات والانفعالات.
وهو النموذج الثاني والذي سنسلط عليه الضوء، وهو جلي في سيرة الإمام العسكري ﴿؏﴾؛ فمع كثرة الأذرع الشيعية؛ كان يتعين على الإمام ﴿؏﴾ أن يربيهم ويعدهم ويعسكرهم لرفع مستوى الانتماء والولاء لأهل البيت ﴿؏﴾ إلى حدّ التفاني والفداء والتضحية بالنفس من أجل الإمام ﴿؏﴾؛ وهذا المعنى ذاته نجده ورد في الآيات القرآنية الشريفة في شأن رسول الله ﷺ؛ حيث يقول ﷻ: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ التوبة: ١٢٠
فقوله ﷻ: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ﴾، فما كان هنا: ليس فعل ماضي ناقص، وإنما بمعنى: لا يصير ولا يتحقق مشروع الإيمان برسول الله ﷺ ورسالته؛ ما لم يكن هناك تقدم وفداء لرسول الله ﷺ، وما لم ﴿وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ﴾ وما لم يدفعوا بأنفسهم عن نفس رسول الله ﷺ فلن يتحقق الإيمان.
يضرب الشيخ جوادي الآملي لذلك بمثال لطيف ويقول: لو ُوجه سهم لعين أحدهم، فهل عينه أهمّ أم يده؟!زإذ يتعين عليه أن يدفع هذا السهم بيده عن عينه، وهكذا حال المؤمنين الموالين فهم مهمين؛ لكن الوليّ هو الأصل والأهم حتمًا؛ لذا لا يجب أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه الشريفة ﷺ؛ لأنه وكما تبين الآيات الشريفة فإنه بذلك لن يصيبهم -أيّ المؤمنون- شيء ﴿لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾؛ لأن الأصل هو الحفاظ على روح رسول الله ﷺ.
وكشاهد على ذلك نورد هذه الرواية الموجودة في كتاب الإرشاد للمفيد، يقول أحمد بن محمد: كتبت إلى أبي الحسن الإمام العسكري ﴿؏﴾ حين أخذ المهتدي(١١) -وهو ممن عاصره الإمام العسكري ﴿؏﴾- في قتل الموالي -أيّ الشيعة-: يا سيدي الحمد لله الذي شغله -أيّ شغل المهتدي- عن الإمام ﴿؏﴾، ويقول: حمدت الله سبحانه وتعالى لذلك، حيث إنه قد بلغني أنه يتهدد بك، ويقول والله لأجلينهم عن جديد الأرض.
ونلاحظ هنا الوعي والروح الفدائية والتي تعرف يقينًا أنه ما دام الإمام ﴿؏﴾ محفوظًا؛ فكل ما سواه وماعداه لا قيمة له، فالموالين فداء للإمام ﴿؏﴾، وهذا عينه مفاد النص الوارد في الزيارة الجامعة “بِأبي أنتُم وَأُمّي وَأهلي وَمالي وَأُسرَتِي، أُشهِدُ اللهَ وَأُشهِدُكُم أنّي مُؤمِنٌ بِكُم وَبِما آمَنتُم بِهِ كافِرٌ بِعَدُوِّكُم وَبِما كَفَرتُم بِهِ مُستَبصِرٌ بِشَأنِكُم وَبِضَلالَةِ مَن خالَفَكُم”؛ فهذا تدريب وتأهيل للموالين في مشروع الإمام ﴿عجل الله فرجه الشريف﴾؛ فإذا ما بلغ الشيعة الموالون لهذا المقدار من الوعي، ووصلوا لهذا المستوى من التضحية والفداء؛ حتمًا سيكونون ممن يعتمد عليهم الإمام (عجل الله فرجه الشريف) في إنجاح مشروعه الإلهي ودولته الكريمة.
الخلاصة
والغرض من أمثال هذه الشواهد أن نقول: أن هناك عنصرين أساسين في بناء المعسكر -كون الامام ﴿؏﴾ هو عسكر على معسكر العباسيين– وهذان العنصران هما:
الأول: إعداد وتعليم وتدريب الإمام ﴿؏﴾ لشيعته ومواليه على الجهاد العلمي، بإلقاء الحجة والبينة والبرهان والحقيقة والواقع، وهذا المعسكر العلمي وهذه التعبئة العلمية مهمة للغاية؛ لأن الوقوع في المغالطات والشبهات منزلق يسقط فيه الكثيرون، وقد تحقق هذا المعسكر في زمن الإمام العسكري ﴿؏﴾، وبالتدريج فإن هذا المعكسر يتسع ويكبر ويكثر ويتعمق في زمن الغيبة.
وبهذا الصدد نشير هنا لمسألة هامة؛ فمما يثير الدهشة والاستغراب من قبل البعض ممن يريد أن يعالج بعض المسائل والشبهات العقائدية التي يواجهها الشباب بتلك التي كانت عند من عاصر زمن الأئمة ﴿؏﴾، ويفترض بذلك أنه وبعد ألف وثلاثمائة عام لم يتغير حال وعقل وإدراك الإنسان في هذا الزمان عن أولئك في ذلك الزمن، فبلا أدنى شك هناك تقدم وجلاء ووضوح وظهور وتعمق في الفكر البشري ككل، ولا يحق لنا أن نحاكم ونقايس هؤلاء الشباب بأؤلئك الذين كانوا في عصر الأئمة ﴿؏﴾.
ثانيًا: رفع مستوى التضحية والفداء
ونسأل الله ﷻ أن يجعلنا صادقين بالقول والفعل والعمل ونحن نخاطب المعصومين ﴿؏﴾، أو الامام العسكري أو عندما نخاطب -إمامنا المنتظر- المهدي (عجل الله فرجه الشريف) ونقول: “بِأبي أنتُم وَأُمّي وَأهلي وَمالي وَأُسرَتِي”.
ونسأل الله ﷻ الذي عرّفنا في الدنيا ولاية آل محمد ﷺ أن لا يحرمنا في الآخرة شفاعتهم.
- قد يتسائل البعض: لماذا بات هناك تلازمًا عند الحديث عن الإمام المعصوم ﴿؏﴾ وعن حياة الأئمة ﴿؏﴾ مع من عاصروهم من الخلفاء من بني أميّة أو من بني العباس؟! ونقول في معرض الجواب: كون هؤلاء الخلفاء بإدعائهم الإمامة والخلافة، وهم ليسوا أهلًا لها وما هم بأصحابها؛ فهم بذلك يصدون عن الإمامة المجعولة من قبل الله ﷻ، وباتوا همّ العائق في ظهور وتجلي ولاية الله ﷻ، وظهور معالمها ولوازمها؛ وإلا فهم -الخلفاء- غثاء كغثاء السيل لا قيمة لهم، وليس لهم من باقية.
- عن أبي خالد الكابلي، قال: دخلت على مولاي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فرأيت في يده صحيفة كان ينظر إليها ويبكي بكاءا شديدا، قلت: فداك أبي وأمي يا ابن رسول الله، ما هذه الصحيفة؟ قال: هذه نسخة اللوح الذي أهداه الله تعالى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، كان فيه اسم الله تعالى ورسوله وأمير المؤمنين وعمي الحسن بن علي وأبي عليهم السلام واسمي واسم ابني محمد الباقر وابنه جعفر الصادق وابنه موسى الكاظم وابنه علي الرضا عليهم السلام وابنه محمد التقي وابنه علي النقي وابنه الحسن الزكي وابنه الحجة القائم بأمر الله، المنتقم من أعداء الله، الذي يغيب غيبة طويلة ثم يظهر فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.
- ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ التوبة: ١٠٩
- يُعدّ من أول الفلاسفة المشككين في القرآن الكريم والإلهيات في المجتمع الإسلامي، وكان قد جمع وكتب كتاب في متناقضات الآيات القرآنية حسب ما يدعي.
- في كتاب التبديل أن إسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه أخذ في تأليف تناقض القرآن، وشغل نفسه، بذلك، وتفرد به في منزله، وإن بعض تلامذته دخل يوما على الإمام الحسن العسكري ﴿؏﴾ فقال له أبو محمد ﴿؏﴾: أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي فما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التلميذ: نحن من تلامذته كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال أبو محمد عليه السلام: أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم، قال: فصر إليه، وتلطف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأنسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها فإنه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم به منه غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول إنه من الجائز لأنه رجل يفهم إذا سمع فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فتكون واضعا لغير معانيه. فصار الرجل إلى الكندي وتلطف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له: أعد علي! فأعاد عليه، فتفكر في نفسه، ورأي ذلك محتملا في اللغة، وسائغا في النظر. [بحار الأنوار- العلامة المجلسي – ج٥٠ – ص٣١١].
- وقد مر زمان ليس ببعيد انتشرت دورات تعليم الوهم؛ ولم يكن بمقدور أحد أن يواجها؛ كونها ظاهرة اجتماعية قوية.
- الأصول في الكافي – ج١- ص٥٤.
- ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ النحل: ١٢٥. ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ فصلت: ٣٤.
- “أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك هذا فقال إنه شيء عرض بقلبي…” [بحار الأنوار – ج٥٠ – ص٣١١]
- وفي مناقب ابن شهرآشوب عن كتاب التبديل ما حاصله إن أسحق الكندي فيلسوف العراق في زمانه أخذ في تاليف تناقض القرآن فقال الإمام الحسن العسكري لبعض تلاميذه قل له حضرتني مسالة أسألك عنها: إن هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم به غير المعاني التي قد ظننت أنك ذهبت إليها فسيقول لك إنه من الجائز لأنه رجل يفهم فقل له فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فقال له التلميذ ذلك فقال أعد علي فأعاد عليه ففكر في نفسه ورأى ذلك محتملا في اللغة فقال أقسمت عليك من أين لك هذا قال شئ عرض بقلبي قال كلا ما مثلك من اهتدى لهذا فعرفني من أين لك هذا فقال أمرني به أبو محمد فقال الآن جئت به وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت وأحرق جميع ما كان ألفه.
- حدثني محمد بن الحسن بن شمون قال: حدثني أحمد بن محمد قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام حين أخذ المهتدي في قتل الموالي: يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنا، فقد بلغني أنه يتهددك ويقول والله لأجلينهم عن جديد الأرض (3) فوقع أبو محمد عليه السلام بخطه: ذاك أقصر لعمره، عد من يومك هذا خمسة أيام ويقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف يمر به فكان كما قال عليه السلام. [الكافي – ج١ – ص٥١٠].
0 تعليق