تقدم القراءة:

محيا محمد وممات محمد ﷺ

الثلاثاء 5 أكتوبر 2021صباحًاالثلاثاء

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

4.4
(5)

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا محمد بن عبدالله، السلام عليك يا خاتم النبيين، وسيّد المرسلين وخيرة رب العالمين.
السلام عليك يا أبا الحسن يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا سيدتي ومولاتي أيتها المفجوعة المظلومة المغصوبة، المسقط جنينها، المكسور ضلعها، يا فاطمة عظم الله لك الأجر، عظم الله لك الأجر يا سيّدي يا صاحب الزمان.

توطئة

ما مرت مصيبة منذ أن خلق الله ﷻ الأرض وما عليها، واستخلف آدم فيها ولا فقد هو أفجع وأمض من فقد رسول الله ﷺ، فعلى روحه وعلى جسده المسجى وعلى جسمه الناحل أشرف وأعظم الصلوات والتحيات،“اُصِبنا بِكَ يا حَبيبَ قُلوبِنا، فَما أعظَمَ المُصيبَةَ بِكَ؟! حَيثُ انقَطَعَ عَنَّا الوَحيُ، وَحَيثُ فَقَدناكَ”(١).

والحديث بعنوان (محيا محمد وممات محمد ﷺ) حيث نقرأ في الزيارات “اللهُمَّ اجعَل مَحيايَ مَحيا مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمَماتي مَماتَ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ”(٢)وهذا الدعاء يحملنا مسؤولية كبيرة أمام رسول الله ﷺ، ويضعنا تحت واجب التعرف على مضامين حياته الشريفة ﷺ؛ ولا نقصد بذلك مجرد معرفة السيّرة التاريخية للنبي الأكرم ﷺ كون السيّرة التاريخية ليست هي الحياة. والسيّرة تتغير من زمان إلى زمان، ومن ظرف إلى ظرف، أما محيا الإنسان ومماته لا يتغيران.

فالسيّرة هي ما تضمنت أفعال وأقوال النبي ﷺ، وأما حياته الشريفة ومحياه ﷺ؛ تعني الفضائل والعناصر المشتركة الداخلة في السيّرة النبوية أيّ مضمون تلك السيّرة.
ونحن بهذا الدعاء إذ نسأل الله ﷻ ونبتهل إليه أن نعيش بالمضمون والنحو والكيف الذي عاش به النبي الأكرم محمد ﷺ.
وبنحو مختصر نقول: عادة ما نشدد على ضرورة الإيمان بالعقائد الحقّة التي جاء بها رسول الله ﷺ، وكما نعلم أن العقائد لا تتغير؛ من الإيمان بالله ﷻ، وبأسمائه وصفاته، والإيمان بالشريعة الغراء، واليوم الآخر، والقيامة وأحوالها؛ كما أننا نولي عناية بالغة لضرورة الإيمان والاعتقاد بتلك العقائد، كون مضامينها وتطبيقاتها تُعدّ هي (المحيا)، ونحن إذا نركز دائمًا على وجوب معرفة المبدأ والإيمان بالمعاد، ولذا فإننا نعمد إلى البحث عن الشواهد وجمع الأدلة عليهما، كونهما -المبدأ والمعاد- يرسمان للإنسان خارطة كاملة؛ تُعدّ في واقع الحال مضمون السيّرة النبوية الشريفة، والتي إن سلكناها نكون بذلك قد حيينا حياة محمد ﷺ.
أيّ أن بين التوحيد والمعاد منهاج؛ هو ما يجعل من العقيدة فاعلة في حياة الفرد، ويعطيها الحيوية، ويرفدها بالحياة؛ لتصبح حياة الفرد منّا بهذه العقيدة هي حياة محمد ﷺ ومماته ممات محمد وآل محمد ﷺ.

الأنبياء ﴿؏﴾ تجلٍّ لصناعة الله ﷻ

عندما رأى السحرة موسى وهارون ﴿؏﴾ ولمسوا منهما الصدق النادر والشجاعة النادرة لم يقولوا آمنا بالله، أو آمنا بهذا الربّ الذي يدعونا إليه موسى ﴿؏﴾، بل قالوا: ﴿آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ﴾ طه: ٧٠، أيّ الربّ الذي صنع هارون وموسى ﴿؏﴾ بهذا النحو المختلف عن الآخرين تمامًا؛ لأنه في ظل حكومة كحكومة فرعون وسلطان كسلطانه، فعندما يهيمن ويتحكم في البلاد والعباد والثروات والمقدرات والثقافات واليوميات خصوصًا في سياسته مع المستضعفين من بني إسرائيل تمسي الحياة في ظله وأمثاله مهلكة، فقد يتصور الإنسان أو لا يعود ليخطر بباله أنه سيظهر شخص يمثل الإنسان الإلهي التام كموسى وهارون ﴿؏﴾ وقد جاءا ليستنقذوهم؛ فإذا ما تجلى لهم ذلك، ووجدوا أن لهما منهاج ونمط حياة مختلفة؛ كونهما قد صنعا على عين الله ﷻ ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي﴾(٣)طه: ٣٩ ويقول ﷻ: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ طه: ٤١، هو ما جعل السّحرة يؤمنون برب هارون وموسى ﴿؏﴾(٤).

يقول بعض أساتذتنا الأجلاء إن العصا التي ألقاها موسى ﴿؏﴾ ليست هي الآية الكبرى ﴿فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ﴾ النازعات: ٢٠؛ بل موسى ﴿؏﴾ ذاته؛ عقله وحكمته وتدبيره وعقلانيته، وحياته وشجاعته، وخروجه عن الضعف والوهن الذي كان يحياه بنو إسرائيل هو الآية الكبرى، لذلك قال السّحرة ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ﴾، وهذا له ارتباط بسنة تكوينية مرتبطة بهداية الناس؛ كما سوف يتبين لنا كونهم أدركوا حينها أن هناك صانع لهذا الكون، ولهذه البلاد والعباد غير ما كان يحاول فرعون إشاعته وتضليل النّاس به كونه ربهم الأعلى.

ولتقريب الصورة وبيان المعنى نقول:

عادة إذا ما عاش الفرد في مجتمع لديه اهتمامات خاصة؛ فإنه وبشكل طبيعي يتولد من هذا المجتمع أفراد من سنخ تلك الاهتمامات ونتيجة طبيعية لها.
فالمجتمعات التي لديها اهتمام بشكل خاص بالعلم وإعمال الفكر؛ يمكن أن نحدس أنه سيظهر فيها أناس من بين أفرادها علماء ومفكرون ضمن دائرة ذلك المجتمع، كونه هناك بوادر وإشارات نابعة ومتوافقة ومتناسبة مع هذا الاهتمام المجتمعي.
كذلك هو الحال مع المجتمعات التي تكثر فيها الصناعات أو المهارات اليدوية أو التقنية يمكن أن نخمن على نحو الجزم أنه سيتولد من بين أفرادها صناع ومتفوقون أو عاملون مهرة، وهكذا؛ وهذا بحث أساسي في علم الاجتماع؛ كون عناصر التغيير في مجتمع ما تأتي من حقل وإفرازات ذات المجتمع لا من خارجه، ولكن عندما يتولد فيها شخص ودون أدنى ارهاصات أو مقومات مجتمعية على أن توجد أو تولد مثله؛ فلا شك أن الذي صنعه وأوجده وأظهره هو القدرة والصناعة الإلهية، وهذا ما يسمونه حصول شيء من عناصر مضادة. فعندما يتجلى الإنسان القيمي الكامل في مجتمع كالمجتمع الجاهلي والذي لا يهتم بمنظومة القيم حتمًا سيكون صانعه هو الله ﷻ ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي﴾.

الكسر والانكسار منهاج وسيرة المجتمعات غير الإلهية

إن مجتمعات كالمجتمع الجاهلي -والذي بعث فيه رسول الله ﷺ- يكاد لا يهتم بالمنظومة القيمية، وإذا ما اعتنى بقيمة ما فذاك بغرض أن يقضي على قيمة قد تكون أهمّ منها.

ولتقريب الصورة نضرب مثالًا:

حيث نرى المجتمع الجاهلي وبعض أفراده وقد عرفوا بالكرم وحسن الضيافة، يقرون الضيف ويجيرون من استجار بهم، ولكن هذه القيمة تأتي على حساب قيم أهمّ؛ فالذي يتصدى للأمر من له الموقعية والوجاهة، بل تراه يقدم بلحاظ ذلك للحصول على مزيد من الوجاهة.

وهذا بحث لطيف يطرحه العلّامة صاحب الميزان تحت عنوان (الكسر والانكسار في القيم)(٥)،  وأمثال هؤلاء موجودون في كل مصر وعصر؛ فنرى على سبيل المثال تهافت الغرب في بناء المعاهد ودور العجزة، كما وقد يرفعون شعارات كالعدالة والإصلاح ومقاومة الفساد، بل أيّ شعار قد يجد طريقه للنفاذ إلى عقول النّاس، والغرض الأساس قد يكون الترويج لأنفسهم في انتخابات قادمة كونهم دعاة إصلاح، أو كونهم من دعاة السلام، أو كونهم ممن يحفظ ويراعي حقوق الإنسان أو المرأة أو الطفل بنحو خاص؛ فهذا العمل ولو بدا قيمًا؛ لكنه بغرض كسر قيمة أكبر وأهمّ منها، ولذا نراهم يدعون المرأة لطلب العلم، والخروج إلى سوق العمل، والتشدق بحقوقها؛ لكن كل ذلك يجيء على حساب استقرار الأسرة؛ فبناء الفضائل والتعامل معها دائمًا ما يكون من خلال القضاء على قيمة مهمة وكبيرة، وضمن قانون الكسر والانكسار؛ والنّاس عادة ما ينظرون نحو هذه الأمور بقشرية وسذاجة، وحسب ما يرونه في الظاهر؛ لذا تراهم يقبلون عليها كونها قيمًا، ولا يدركون أن غرض هؤلاء في الحقيقة هو ضرب وكسر قيمًا أهمّ وأجلى، وللأسف فالنّاس تصبح وبعد تقادم الزمن تقبل بتلك القيم المنادى بها ولو بالقضاء على بعض تلك القيم الأهم منها، إذ يأخذهم البرق الخاطف وهم يعيشون في الظلمة، فأمثال هذه المجتمعات لا يمكن أن يخرج منها إنسان قيميّ مطلقًا؛ القيم لديه كلها على حدٍ سواء وفي مرتبة واحدة.

نور محمد ﷺ الظاهر والباطن هو آية وحجة

وبالعودة لذلك المجتمع الجاهلي والذي كان قد نشأ وتربى وترعرع فيه رسول الله ﷺ، والذي لم يكن فيه أيّ ملامح كونه سيحتضن نور رسول الله ﷺ، أو تباشير لهذا النور المطلق والسراج المنير ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ الأحزاب: ٤٦، ولو أن السراج هو منير على كل حال؛ ولكن عندما يصف القرآن الكريم الرسول الأكرم ﷺ بذلك؛ فهذا إشارة على كونه ﷺ نورًا في باطنه ونورًا في ظاهره أيضًا، نور على نور؛ حيث تجلت فيه ﷺ كل المنظومة القيمية من أعلاها إلى مادونه كلها على حدّ سواء، وهذا بذاته دليل على صحة الدعوى وارتباط هذا الإنسان -المبعوث- واتصاله بالله ﷻ.

ولذلك نرى أن أهل البيت ﴿؏﴾ يتفاخرون بإيمان السيّدة خديجة أم الأئمة ﴿؏﴾؛ كونها آمنت به قبل أن يؤمن به النّاس(٦)؛ آمنت بمحمد ﷺ لذات محمد ﷺ، وقبل أن يبعث، وينزل عليه القرآن الكريم، وقبل نزول المعجزات والآيات على يديه الكريمة؛ لأنها رأت محيا محمد ﷺ، فمحمد ﷺ ذاته آية، في شخصه، سلوكه، وخلقه، وحياته كلها آية، كما أن ما يدعو إليه آية، والعقائد التي يدعو إليها حقّة وصحيحة وتامة وكاملة، كذلك الوسائل التي يسلك وينتهجها في سبيل الدعوة هي أيضًا في نفسها آية.
فهل كانت تلك الآية خافية على النّاس؛ بحيث لم يكتشفها إلا مثل علي ﴿؏﴾ وخديجة ﴿؏﴾ أم أنها كانت واضحة وجلية؟!
وفي معرض الجواب نقول: إن هذه الآية لا تحتاج إلى جلاءٍ كثير؛ كونها هي ذات محياه ﷺ، فهي غير مخفية على أحد، بل هي ذاتها حياة محمد ﷺ، ولذلك هي أيضًا مماته؛ لأنه كل إنسان كما يعيش يموت، والتي نسال الله ﷻ ونأمل ونرجو ونسعى ونطمح أن يهبنا أن نحيا حياته الشريفة ونموت مماته ﷺ.

والسؤال هنا يأتي: ما هو محيا محمد ﷺ؟

محيا وحياة محمد ﷺ تجلٍّ لمنظومة قيميّة ربّانية

تكون القيم في درجات ومراتب، حيث لا تساوٍ بينها، فكما أن هناك قيمًا تُعدّ الكبرى والعظمى والتي تأتي في أعلى مراتب القيم ومن أمهاتها، هناك ما هو أدون منها. فالعدل يأتي على رأس تلك القيم، ثم الصدق والأمانة، وبعدهما يأتي الكرم والجود، ثم تأتي حسن العشرة متأخرة.

وليس خافيًا على أحد أنه قد أجمع المشركون والمعادون والمخالفون والمؤالفون على أن هناك خصائص جليّة وواضحة تتوفر في مضامين سلوك رسول الله ﷺ ونمط حياته، وقيمًا تُعدّ هي الكبريات التي تحفظ وتجمع وتؤسس لكل المنظومة القيمية؛ وهي صدق الحديث، وأداء الأمانة؛ والتي كان قد شهد له بها المشركون كافة.

وما يميز هاتين الصفتين -الصدق وأداء الأمانة- في رسول الله ﷺ كونهما:

أولًا: قيمتان مطلقتان؛ بمعنى أن من يكون صادقًا يجب أن يصدق دائمًا وأبدًا، ويحب أن لا يكذب البتة، ولا بأيّ حال من الأحوال، وفي كل الظروف والأوقات، لأن الذي لا يكذب أبدًا وهو دائم الصدق تراه لا يفكر أو يتأمل ولو لبرهة أن يحسب حسابًا لحديثه بحساب الربح والخسارة؛ كون ما سوف أقوله أو هذا الموقف الذي سوف أتخذه قد يعود عليّ بالخسران، فقد أخسر هذا الصديق أو هذا المجتمع أو هؤلاء النّاس أو هذه العلاقة أو هذا المال أو الجاه.

ثانيًا: كونهما مضمون كل فعل وسلوك ووسيلة كان يسلكه رسول الله ﷺ؛ من أجل الدعوة للقيم الحقّة؛ فكما أن القيم التي يدعو إليها ﷺ حقة، فإن دعوته ورسالته والعقائد التي يدعو إليها النّاس، بل وكل تعاطيه في شأن الرسالة ومع شؤون الأمة، ونمط حياته الكريمة ﷺ ومسلكه، ومضمون ما في سيرته ﷺ الشريفة فإنها حقة.

بيان إن ما يميز الصدق والأمانة كونهما مضمون وسلوك رسول الله ﷺ

١-  تجلٍّ وظهور تام لنعم الله ﷻ؛ فعندما يخاطب الله ﷻ رسوله الأكرم ﷺ ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ الضحى:١١، ففي ذلك إشارة إلى معنى دقيق ولطيف للغاية؛ حيث أن رسول الله ﷺ لا يمكن أن يُخفي نعمة من النِعم الإلهية، حيث أنه يظهر كل نعمة.

أليس جميعنا نحب أن نظهر نِعم الله ﷻ علينا؟!

عندما يمتلك الإنسان الإمكانيات والأموال والعقارات، وإذا ما صاحب ذلك كله وجاهة ومكانة اجتماعية، وكان له من الموقعية والقيادة في المجتمع؛ هذا ما سيجعله دائمًا تحت المقارنة وتحت المجهر، وغالبًا أمثال هؤلاء سيما ممن يتصدى للشأن الاجتماعي سيسعى دائمًا لإخفاء ثرواته وعدم إظهار ما لديه، بل وسيعدّ ذلك غالبًا من أحد أسراره التي يتحفظ على ذكرها، والفطن هو من سيتجنب الإفصاح عنها، بل وقد تجده في الأعمّ الغالب يحاول أن يظهر على الأقل بمظهر المتوسط الحال من النّاس.

ولو أنه أظهر كل ما لديه من نعم وإمكانيات؛ حينها لن ينظر إليه كقائد ولن يصبح أو يصلح أن يكون كذلك بتاتًا، بل سوف يُعدّونه شخصًا غير مباليًا، ويمشي على آلام الضعفاء والفقراء والمحتاجين.

فغاية الصدق هو أن يتحدث القائد ويُظهر كل ما لديه من نعم الله ﷻ، وأن لا يُخفي على الجماهير من النّاس ما لديه، ولن يكون كذلك إلا أن يكون في أعماقه زاهدًا غاية الزهد، وهو في الحقيقة كريم حق الكرم، ودائمًا تكون له الأيادي البيضاء، لا أنه يخاف من عيون النّاس بتاتًا؛ بل هو دائمًا يجب أن يكون صادقًا غاية في الصدق، ويتحدث عما لديه من نِعم، ولذلك فهو يعالج النفوس الضعيفة، وحالة المقارنة غير الصحيحة.

وإظهار هذه النعم هي من آثار الصدق المطلق، فالصدق إذا كان مطلقًا سوف لن يخفي صاحبه عن النّاس ما يمتلك أو ما لديه من إمكانيات، وفي الوقت نفسه هو يحافظ على المحبة والود في قلوب النّاس من الضعفاء والمحتاجين، ولا يكون ذلك إلا أن يكون ذلك الإنسان بالأصل هو ينفق كل ما لديه، وهذا مقتضى الصدق في هذا البّعد.

بخلاف الكرم؛ حيث أنه قيمة نسبية؛ فقد يكرم أناس دون آخرين، وقد لا تجد النّاس مشكلة في ذلك، وإذا دققنا سنرى أن النّاس تتحمل وتقبل وتتعاطى مع الوجيه الذي يكرم الوجهاء؛ أما إذا جاءه أحد الفقراء أو المستضعفين تراه يعرض عنه؛ ولا يعامله كما يعامل الوجهاء والمتمكنين، والنّاس تعدّه وجيهًا كريمًا، فالمشكلة كما أشرنا سابقًا كون هناك قيمة تكسر بقية القيم.

أما الصادق عندما يكون كريمًا فسوف يكرم الجميع على حدٍ سواء؛ لأن الصادق صافيًا في ظاهره وباطنه.

٢- عدم انتهاز الفرص ولو من أجل قيمة روحية ومعنوية؛ فإذا ما قرأنا حياة النبي ﷺ وسيرته الشريفة نرى أنه لا ينتهز الفرص البتة، وكثيرة هي التي كان بوسعه أن يستغلها ويستفيد منها للترويج لدّين الله ﷻ على أقل تقدير، لكن الصادق الأمين ما كان ليفعل ذلك، وهنا نأخذ شاهدًا لذلك؛ حين توفي إبراهيم ابن النبي محمد ﷺ اقترن مع موته أن انكسفت الشمس(٧)، فقال النّاس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم، وقد أشيع هذا الأمر بين بعض المسلمين، حتى بلغ المشركين وقد تأثروا لذلك، وتوافقوا أن هذا الأمر لا يمكن أن يكون قد وقع صدفة، وأن هناك ارتباط بين الحدثين، وهذه كرامة لمقام النبي ﷺ وابنه إبراهيم ﴿؏﴾ تستدعي أن تنكسف الشمس لهذا الحدث.

وقد يحسبها البعض كانت لتُعدّ فرصة جيدة للنبي ﷺ كي يؤثر روحيًا على ضعاف العقول والقلوب من بعض المسلمين، كما كان يمكن له ﷺ أن يسكت على أقل تقدير ويستغل هذا التأثير الروحي الكاذب عليهم؛ لكن الصادق الأمين ﷺ ما كان ليسكت عن ذلك البتة، ماذا كان ليستفيد ﷺ من أناس وأتباع واهمين، يجرون خلف الخيالات، وماذا كان ليستفيد من إيمان يربط النّاس بما حولهم ربطًا غير عقلاني، وغير واقعي، ولا حقيقي، وإنما ربط خيالي ووهمي؛ فهذه لا تُعدّ وسيلة تنفع أن يستعين بها النبي ﷺ لنشر الدعوة، كما أن الوسائل التي كان يستعين بها ﷺ هي صادقة كما هو صادق تمامًا وبنفس مستوى وحجم الأهداف التي يدعو إليها ﷺ.

وهنا نشير لأمر هام؛ حيث لا يكتفي أن تكون نوايا النّاس حسنة وطيبة وكونهم من أهل الإيمان، نحن وللأسف دائمًا ما نركز ونعوّل على النوايا الحسنة وحدها، ونعذر من يخطأ، وهذه ظاهرة تحتاج إلى علاج؛ حيث تخترع مخترعات وتتولد ثقافات وأدبيات ننسبها للدّين والإسلام، باسم الطيبة وبدعوى حسن النية، وهذا أمر خطر للغاية؛ فالإسلام كما يريدنا أن نعيش أهداف حقيقية؛ فهو يريدنا أيضًا أن تكون الوسائل لهذه الأهداف أيضًا دقيقة.

ولذلك فنحن ليس عندنا مشكلة مع المخالفين والمختلفين معنا في العقيدة بالله ﷻ حيث يلزم معالجتها، وفي الأعمّ الأغلب تسعى النّاس لتصحيحها، كما هو الحال مع عقيدة الإيمان باليوم الآخر حيث تسعى النّاس للتحقيق فيها وتصحيحها؛ فالمشكلة ليست في الأهداف، لكن المشكلة تكمن في الوسائل ونمط الحياة، والعقلانية في مضمون الحياة مقابل الجهالات؛ وهذا في الحقيقة هو محيا رسول الله ﷺ، ولذا فقد جاء في الرواية: “إنَّ الْأَحْمَقَ الْعَابِدَ يُصِيبُ بِجَهْلِهِ أَعْظَمَ مِنْ فُجُورِ الْفَاجِرِ وَإِنَّمَا يَقْرَبُ النَّاسُ مِنْ رَبِّهِمْ بِالزُّلَفِ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ»(٨)، فالجهالات لا تقرب النّاس زلفى من ربهم، فما أفقد أمير المؤمنين ﴿؏﴾ ولايته وخلافته غير الغدر والفجور والمكر والوسائل الخبيثة.

٣- هناك ميزة أخرى تجعل للصدق والأمانة خصوصية في محيا محمد ابن عبدالله ﷺ، بل تُعدّ مطلبًا على هذا النحو لسائر الأنبياء ﴿؏﴾، وهذه الميزة ليست في ذات الصدق والأمانة، بل في الرسالة الإسلامية ذاتها وطبيعتها؛ والتي تجعل من صفتي الصدق والأمانة نافدتين في كل مناحي الحياة الإسلامية المحمدية.

هناك بحث دقيق في قيمة الحياة الاجتماعية في الإسلام للعلّامة صاحب الميزان، نقرأ وبنحو مختصر بعض مما جاء فيه حيث يقول:

لا ريب أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي أسس بنيانه على الاجتماع -يعني المجتمع- صريحًا، ولم يهمل أمر الاجتماع في شأن من شؤونه، فانظر إن أردت زيادة تبصر في ذلك إلى سعة الأعمال الاجتماعية التي تعجز عن إحصائها الفكرة -أيّ من خلال التفكير والنظر في حياة الإنسان الواسعة جدًا، سترى كما بحاجة إلى أفعال، وردود أفعال بقدرها- ويعجز عن إحصائها الفكرة وإلى تشعبها إلى أجناسها وأنواعها وأصنافها، ثم انظر إلى إحصاء هذه الشريعة الإلهية الإسلامية لها، -فالإسلام قد بين للنّاس تكليفهم؛ أكان واجبًا أو محرمًا أو مستحبًا أو مكروهًا من خلال رصد تصرفات الإنسان الاجتماعية- وإحاطته بها، وبسط أحكامه عليها، ثم ترى عجبًا، ثم انظر إلى تقليبه ذلك كله في قلب الاجتماع؛ ترى أنه أنفذ روح الاجتماع فيها غاية ما يمكن من الإنفاذ، ثم خذ في مقايسة ما وجدته في سائر الشرائع الحقة التي يعتني بها القرآن الكريم، وهي شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين ﴿؏﴾، حتى تعاين النسبة وتعرف المنزلة -أيّ أن هذه الحياة الاجتماعية والتي نفذت فيها روح الشرع تجدها فقط في الديانة المحمدية- أما ما لا يعتني به القرآن الكريم من الشرائع كالأديان الوثنية والصائبة والمانوية والثانوية وغيرها؛ فالأمر أظهر فيها وأجلّ، ويقرر على أن الإسلام هو الدين الإلهي الوحيد الذي تصدى للشؤون الاجتماعية على كثرتها وجعل لها أحكامًا -أحيا الحياة الاجتماعية إن صحّ التعبير-.

إذن فالإسلام دين لا يمكن تجريده من الحياة الاجتماعية -والتي تُعدّ هي المسرح الأول لظهور كبريات الفضائل كالصدق والأمانة- ولا بأيّ نحو كان، حيث يمكن للإنسان أن يتجرد من حياته الاجتماعية عندما يكون بوذيًا أو مسيحيًا أو يهوديًا أو علمانيًا أو رأسماليًا، أما أن يكون مسلمًا فلازمه أن يعيش إسلامه، وإذا أراد أن يعيش إسلامه فلا بُدّ من أن يعيش تلك الحياة الاجتماعية التي تسودها وتتجلى فيها صفات كالصدق والأمانة، فقد اختلط في هذا الدين شريعته بأبعاده الاجتماعية، فالمحيا الإسلامي ستراه منسوجًا ومتجانسًا مع هاتين الصفتين.

فصفات كالصدق والأمانة أين يمكن لها أن تظهر وتبرز؟! ومتى يحتاج لهما الإنسان؟

فهو حتمًا ليس بحاجة للأمانة إذا كان يعيش لوحده، كونه سيعمد بذاته على المحافظة على حاجاته وشؤونه وأسراره، وحينها لا يسمى ذلك أمانة.

الحياة الاجتماعية فحسب هي المظهر لصفتي الصدق والأمانة، وكون الشريعة الإسلامية مبتنية على النفود في الحياة الاجتماعية، ورفعها إلى أعلى مستويات الكمال؛ لذلك جاءت صفات النبي محمد ﷺ من سنخ صفات الدّين الذي جاء به ﷺ؛ ورسالته تطابق تمام التطابق مع الشريعة الذي جاء بها، فالنبي الأكرم ﷺ لم يكن له وجود مستقل يخالف تلك الرسالة الإسلامية فهو متلبس بتلك الخصال والصفات الإلهية والكمالات الربانية، ثم جاءت الرسالة الإسلامية فظهرت وتجلت تلك الصفات والتي لم يزل رسول الله ﷺ متلبس بما فيها فاتضحت وتكشفت للعيان؛ فلذلك نحن ندعو ونقول “اللهُمَّ اجعَل مَحيايَ مَحيا مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ”.

هل صانت الأمة أمانة الصادق الأمين ؟!

والآن لنا أن نتساءل: إذا كان هؤلاء القوم يرون ويدركون أن النبي ﷺ أمينًا وصادقًا في القول والفعل وبهذا القدر من الوضوح والجلاء، ويجدون في الارتباط به الأمان والرعاية والصون، أليس مقتضى السلوك الطبيعي والإنساني أن يحفظوا أمانته فيهم، وأن يصونوها ويرعوها حق رعايتها؟!  أيحتمل المنصف المتأمل في تلك اللحظات الأخيرة من حياته الشريفة ﷺ؛ كيف عمد هؤلاء القوم إلى أمانته وعزيزته ليسلبوها أمانها؟
لماذا تداكوا على النبي ﷺ وهو على فراش الموت، وفي شدّة مرضه وأصعب أحواله لينتزعوا منه كلمة؛ ليشددوا وطأة الضغوط عليه وعلى آل بيته ﴿؏﴾؟! يحفون حول فراشه كالشياطين؛ علهم يسرقون كلمة من هنا أو هناك، أهذا الإحتفاف حوله ﷺ حبًا له، ورحمة به، ورغبة في حفظ أماناته؟!

لو كان الأمر كذلك لما انشغلوا عنه بعد وفاته ﷺ، وتركوه مسجى على فراشه، وهم يجمعون أمرهم ضد أهل بيته ﴿؏﴾، وضد ابن عمه وخليفته وضد دين الله ﷻ الذي ارتضاه لهم، فما هي إلا لحظات بين الموقفين؛ أهذا جزاء رسالته الشريفة، وجزاء من كان يرعى أماناتهم ووعودهم ومواثيقهم؟! وأيّ أمانة تلك التي يتركها رسول الله ﷺ في تلك اللحظات العصيبة والحساسة من حياة الدّين؟!

جاء في الخبر أن علي ﴿؏﴾ عندما أثقل رسول الله ﷺ(٩) أخذ رأسه الشريف فوضعه في حجره، فأغمي عليه، فأكبت فاطمة ﴿؏﴾(١٠) تنظر في وجهه الشريف وهي تندب وتبكي وتقول: “ثمال اليتامى عصمة للأرامل”، ففتح رسول الله ﷺ عينه الشريفة وقال بصوت ضئيل: يا بنيّة هذا قول عمك أبي طالب فلا تقوليه، ولكن قولي: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ آل عمران: ١٤٤.

وجاء في الزيارة التي أوردها ابن طاووس في زاد الزائر: “فلما مضى المصطفى ﷺ اختطفوا الغرة، وانتهزوا الفرصة، وانتهكوا الحرمة، وغادروه على فراش الوفاء، وأسرعوا  لنقض البيعة ومخالفة المواثيق المؤكدة”(١١).
وقد وحش فلك الأعراب، وبقايا الأحزاب إلى دار النبوة والرسالة، ومهبط الوحي، ومستقر سلطان الملائكة، ومعدن الوصية والخلافة والإمامة؛ حتى نقضوا عهد المصطفى ﷺ في أخيه ﴿؏﴾ علم الهدى، والمبيض طرق النجاة من طرق الردى، وجرحوا كبد خير الورى في ظلم ابنته ﴿؏﴾ واضطهاد حبيبته، واهتضام عزيزته، وبضعة لحمه، وفلذة كبده، وقد خذلوا بعلها، وصغروا قدره، واستحلوا محارمه.
ألا لعنة الله على الظالمين.


  1. مفاتيح الجنان، زيارة النبي ﷺ في يوم السبت.
  2. مفاتيح الجنان، زيارة عاشوراء.
  3. ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي﴾ طه: ٣٩.
  4. كما لو وجدنا منتجًا استهلاكيًا رديء الصنع؛ فسندرك أنه محلي الصنع أو كونه مستوردًا كوننا نعلم أننا في بلد إنتاجه جيد أو سيء من هذه السلعة بالتحديد، وعلى العكس تمامًا حينما نرى منتجات استهلاكية ذات جودة عالية ووفق معايير فائقة؛ سندرك أن هذه الصناعة والمنتج مختلف كليًا. 
  5. للاستزادة يمكن مطالعة تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي سورة آل عمران الآية ٢٠٠ بحث المرابطة في المجتمع الإسلامي.
  6.  قالت: ” ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله، خديجة ذات يوم فتناولتها فقلت: عجوز كذا وكذا، قد أبدلك الله خيرا منها، قال: ما أبدلني الله خيرا منها، لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولده، وحرمني ولد غيرها… ” – وعن عائشة قالت: ” كان رسول الله صلى الله عليه وآله، لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام، فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزا، فقد أبدلك الله خيرا منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء… ” [السيد شرف الدين، المراجعات، ص ٣١٥]. – ففي اُسد الغابة عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة ، فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة ، فقلتُ: هل كانت إلاّ عجوزاً ، فقد أبدلكَ الله خيراً منها . فغضب حتى اهتزّ مقدم شعره من الغضب ، ثم قال : « لا والله ما أبدلني الله خيراً منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدّقتني إذ كذّبني الناس ، وواستني في مالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء».  [كتاب أعلام النساء المؤمنات، ص٣٥٨ ].
  7. قال الصادق عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياة أحد، ولكنهما آيتان من آيات الله تعالى، فإذا رأيتم ذلك فبادروا إلى مساجدكم للصلاة” [المقنعة الشيخ المفيد ص ٢٠٩]. – وعن محمود بن لبيد قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله حين سمع ذلك فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد – أيها الناس – إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى المساجد) ودمعت عيناه، فقالوا: يا رسول الله تبكي، وأنت رسول الله؟ فقال: (إنما أنا بشر، تدمع العين ويفجع القلب ولا نقول ما يسخط الرب، والله – يا إبراهيم – إنا بك لمحزونون). وعن خالد بن معدان، قال لما مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وآله بكى، فقيل: أتبكي يا رسول الله؟ فقال: (ريحانة وهبها الله لي، وكنت أشمها) [ الشهيد الثاني، مسكن الفؤاد، ص ٩٤].
  8. كنز العمال- ج٣ – ص٣٨١.
  9. وكان أمير – المؤمنين (عليه السلام) لا يفارقه إلا لضرورة، فقام في بعض شؤونه فأفاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) إفاقة فافتقد عليا (عليه السلام) فقال وأزواجه حوله: ” ادعوا لي أخي وصاحبي ” وعاوده الضعف فأصمت، فقالت عائشة: ادعوا له أبا بكر فدعي ودخل عليه وقعد عند رأسه، فلما فتح عينه نظر إليه فأعرض عنه بوجهه، فقال أبو بكر فقال: لو كان له إلي حاجة لافضى بها إلي، فلما خرج أعاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) القول ثانية وقال: ” ادعوا لي أخي وصاحبي ” فقالت حفصة: ادعوا له عمر، فدعي فلما حضر ورآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعرض عنه فانصرف، ثم قال: ” ادعوا لي أخي وصاحبي ” فقالت أم سلمة ادعوا له عليا (عليه السلام) فإنه لا يريد غيره، فدعي أمير المؤمنين (عليه السلام) فلما دنا منه أومأ إليه، فأكب عليه فناجاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) طويلا، ثم قام فجلس ناحية حتى أغفي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما أغفي خرج فقال له الناس: ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن؟ فقال: علمني ألف باب من العلم، فتح لي كل باب ألف باب، وأوصاني بما أنا قائم به إنشاء الله تعالى، ثم ثقل وحضره الموت وأمير – المؤمنين (عليه السلام) حاضر عنده، فلما قرب خروج نفسه قال له: ” ضع يا علي رأسي في حجرك، فقد جاء أمر الله تعالى، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثم وجهني إلى القبلة وتول أمري، وصل علي أول الناس، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي، واستعن بالله تعالى ” فأخذ علي (عليه السلام) رأسه فوضعه في حجره، فأغمي عليه..” [بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٢٢ – الصفحة ٤٦٩-٤٧٠].
  10.  فأكبت فاطمة (عليها السلام) تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل ففتح رسول الله (صلى الله عليه وآله) عينه وقال بصوت ضئيل: يا بنية هذا قول عمك أبي – طالب لا تقوليه، ولكن قولي: ” وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ” (1) فبكت طويلا فأومأ إليها بالدنو منه، فدنت منه فأسر إليها شيئا تهلل وجهها له[بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٢٢ – الصفحة ٤٧٠].
  11. بحار الأنوار – ج٩٩ – ص١٦٥.

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 4.4 / 5. عدد التقييمات 5

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 4.4 / 5. عدد التقييمات 5

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 118٬183 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها