تقدم القراءة:

كمال الانقطاع لرسول الله ﷺ

الأثنين 25 أكتوبر 2021صباحًاالأثنين

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

4
(2)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد ﷺ وآل بيته الطيبين الطاهرين.

للصّديقة الزهراء ولأمير المؤمنين ﴿؏﴾، والأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، سيّما خاتمهم (عج)، مراجعنا بشكل عام، قائد الأمة الإسلامية، العالمين الظاهر والباطن، الغيب والشهود أحلى وأهنئ وأبرك الأعياد بميلاد سيّد الخلق أجمعين ﷺ، وحفيده جعفر ابن محمد الصادق ﴿؏﴾، وكذلك أسبوع الوحدة الإسلامية.

توطئة

كل تلك المناسبات في حدّ ذاتها من النّعم الإلهية، والتي تستحق الشكر لله ﷻ والثناء والحمد، وحقيق لنا أن نعتني بها كلها، ولكن يبقى ميلاد منقذ البشرية النّبي الأكرم ﷺ أشرف تلك المناسبات وأجلّها وأسماها، والذي يتوجب علينا العناية بذكرى مولده المبارك ﷺ؛ وإحياء ذكراه العطرة، ومآثره وفضائله ومحاسنه ومحامده، ومفاخره ومكارمه ومناقبه والتي لا تُعدّ ولا تحصى، باعتبار أن هذا الإحياء مقدمة للتأسي به ﷺ، والاقتداء بسيرته وهديه؛ كما يلزم علينا التدبر والتأمل والاعتناء بهذه السيرة؛ فله ﷺ مقامات ومآثر مع الله ﷻ لا نعرفها ولا ندركها، ويكفينا من ذلك ثناء الله ﷻ على أشرف خلقه حبيبه ونبيه وصفيّه الأكرم ﷺ حيث يقول: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ القلم:٤.

كما شهد له ﷻ بالعبودية ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ الإسراء: ٨، حيث نسبه إليه ﴿أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ﴾، كما وقد قربه وأدناه ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ﴾ النجم: ٨.

وقد قرن الشهادة بوحدانيته بالشهادة له صلوات الله عليه بالعبودية والرسالة؛ “أشهد ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، وجعلها سببًا لطهارة، وصونًا للمال والعرض وحقنًا للدماء(١)، وما لا يحصى مما ذكره وشهد له به ﷻ، فانقطاع رسول الله ﷺ في هذا البُعد لله ﷻ واضح وبيّن.

انقطاع الأمة وغناها برسول الله ﷺ

حديثنا بعنوان “كمال الانقطاع لرسول الله ﷺ: وكقدمة لذلك نقول: كما أن رسول الله ﷺ قد انقطع لله ﷻ؛ فهو أيضًا يقطع المؤمنين لنفسه، فقد قطع الله ﷻ بمحمد ﷺ كل حاجة للمؤمنين، وكل أمنية ورجاء، يقول ﷻ في حق رسوله ﷺ: ﴿لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ﴾ آل عمران: ١٦٤

فالرسول ﷺ يشدّ المؤمنين إليه حتى يغنيهم بنفسه الكريمة عما سواه، وهذه هي المنّة من الله ﷻ، فالمنّة: هي العطية القاطعة للحاجة حيث تكفي النفس تمامًا وتغنيها؛ فرسول الله ﷺ لا يعطينا مجرد إرشادات وتعاليم سماوية أو يعلمنا أوامرًا وأحكامًا شرعية أو يعطينا مجرد جنة فحسب، فرسول الله ﷺ فسّر هذه المنّة -والتي تعني القطيعة التامة- بنحو عملي؛ حيث أعطانا وأغنانا بنفسه الشريفة ﷺ؛ فانقطعنا به عما عداه.

إن أفعال وتوجيهات رسول الله ﷺ كلها تفسير وتبيين للقرآن الكريم؛ ولذا نجده ﷺ عندما اختلف المهاجرون والأنصار في غزوة حنين على الغنائم، أعطى صلوات الله عليه المهاجرين من تلك الغنائم، ولم يعطِ الأنصار منها شيء، فحدث في نفوس المهاجرين شيء وقد ثقل الأمر عليهم، فقال لهم ﷺ “أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب النّاس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله ﷺ في رحالكم”(٢)، وهذا هو ذات معنى قوله ﷻ ﴿لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا﴾، فرسول الله ﷺ هو نفسه يقطع المؤمنين والنّاس أجمع عما سواه.

مزايا الانقطاع برسول الله ﷺ

الغنى به ﷺ عمّا سواه

ولببان المعنى نضرب لذلك مثالًا:

قد نوفق مرات لقراءة كتاب لا نجد فيه حاجتنا، ومرات قد يوفقنا الله ﷻ لقراءة كتابه الكريم، نجد أننا بهذا الكتاب لا نحتاج إلى كتاب آخر بعده، كما أنه قد يهيئ الله ﷻ لأيّ منّا أستاذًا أو صديقًا أو رفيقًا، كما قد يهيئ لنا رزقًا من الأرزاق، وقد أغنينا بهذه عما سواها؛ فنشعر أننا لا نستمزج -تغير مزاجنا- فلا نعدّ نرغب فيما هو دونها؛ فبذلك هي تقطع رغبتنا ورجاءنا وأمانينا تمامًا عما سواها، وهذه هي المنْية والعطية التي تقطع الإنسان وتغنيه عن أيّ شيء آخر دونها.

وكشاهد حيّ على ذلك من سيرة النبي الأكرم ﷺ حيث ينقل لنا التاريخ أن من كانوا يأتون مجلس ومحضر رسول الله ﷺ كانوا يقولون ما مفاده: كنا ندخل عليه وفادًا ونخرج ذواقًا، بمعنى أننا عندما نتذوق ذلك الإقبال من رسول الله ﷺ، وهذه النعمة العظمى فإن ذائقتنا تتغير، ولا تأنس إلا بمجلسه المبارك، والأمر في ذلك يعود لنفس رسول الله ﷺ؛ حيث أنه المفيض والمعطي والذي قطعهم إليه ﷺ.

إدراك عظمة منّة الله ﷻ

ورد من سنن نبينا الأكرم ﷺ أنه إذا تحدث مع أحدهم أقبل بوجه كله عليه (٣)، وجه الإنسان هو قلبه، وهو ذات قوله ﷻ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۞ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ القيامة: 22-23، إذ لا شك أنه ليس المراد من ﴿وُجُوهٌ﴾ هو صفحة الوجه، وإنما يراد بها القلب، إذ ما الفائدة المرجوة حين يقبل أحدهم علينا بصفحة وجهه وقد أدبر بقلبه وبرحمته وبكل ما لديه، فلا يُعدّ هناك قيمة إلى هذا الإقبال.

إن هذا الإقبال بوجه رسول الله ﷺ؛ فيها القطع التام عن أيّ حاجة خلا رسول الله ﷺ، وهذه مرتبة رفيعة وعظيمة وأمنية راقية عالية؛ لأن الإنسان إذا ما رأى رسول الله ﷺ؛ فهو بذلك قد رأى وأدرك المنّة الإلهية العظيمة من الله ﷻ.

ولذا نجد في الدعاء الوارد في مفاتيح الجنان وغيره من الكتب المعتبرة: أنه من صلى هذه الصلاة على محمد وآل محمد ٣ مرات صباحًا و٣ مرات في آخر النهار غفرت ذنوبه وأديم سروره وأستجيب دعاءه ووسع في رزقه وأعين على عدوه ورافق في الجنان محمد ﷺ (٤) والتي جاء نصها “اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ في الأوَّلينَ وَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ في الآخِرينَ وَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ في المَلاءِ الأعلى وَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ في المُرسَلينَ، اللهُمَّ أعطِ مُحَمَّداً الوَسيلَةَ وَالفَضيلَةَ وَالشَّرَفَ وَالرِّفعَةَ وَالدَّرَجَةَ الكَبيرَةَ، اللهُمَّ إنّي آمَنتُ بِمُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه و آله) وَلَم أرَهُ فَلا تَحرِمني في القيامة رُؤيَتَهُ وَارزُقني صُحبَتَهُ وَتَوَفَّني عَلى مِلَّتِهِ وَاسقِني مِن حَوضِهِ مَشرَباً رَويا سائِغاً هَنيئاً لا أظمأُ بَعدَهُ أبَداً إنَّكَ عَلى كُلِّ شيءٍ قَديرٌ، اللهُمَّ إنّي آمَنتُ بِمُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه و آله) وَلَم أرَهُ فَعَرِّفني في الجِنانِ وَجهَهُ، اللهُمَّ بَلِّغ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه و آله) مِنّي تَحيَّةً كَثيرَةً وَسَلاماً” (٥)

ومما لاشك فيه أن هذه الرؤية في يوم القيامة لا تزيد في مرتبة الإنسان أو طهارته وعلمه؛ ولكننا نسأل الله ﷻ ونبتهل إليه أن لا يحرمنا تلك الرؤية لمحيّا ووجه رسوله الأكرم ﷺ؛ فالنظر إلى محيّاه الشريف أمر مطلوب في حدّ نفسه، بل هو أمر في غاية الأهمية أن نرى وجه رسول الله ﷺ، ومما لا شك فيه أن للرسول ﷺ جمال ظاهري؛ ولكن لذات تلك الرؤية لوجه رسول الله ﷺ حيثية غيبية.

سمات إقبال رسول الله ﷺ

باسط يديه بالعطية

يقول أستاذنا الشيخ جوادي في تفسيره إلى هذه السنّة -الإقبال- من رسول الله ﷺ: إن هذا الإقبال يُعدّ من أبرز مظاهر الخلافة الإلهية؛ فكما أن الله ﷻ باسط اليدين بالعطية؛ فرسول الله ﷺ باسط اليدين بالعطية؛ حيث نجده يعطي من ماله ووقته وحبه ورأفته ورحمته وجاهه ووجاهته وكل ما لديه إلى النّاس كل النّاس، فلو إنسان أصبح في منصب ما كمدير أو وزير، فأعطى بعض وقته للنّاس، وانشغل في أثناء تأديته لوظيفته في بعض شؤونه الخاصة لُعدّ خائنًا لذلك المنصب وفق القوانين الوضعية وكذا الشرعية؛ إذ أن وظيفته الأساس المناطة به -في ذلك الوقت- هو قضاء حوائج النّاس، ولذا لا ينبغي له الانشغال بغير ذلك، ولو كان حاضرًا معهم وبينهم وقابلهم بوجهه، وبقيت روحه منشغلة ومدبرة عنهم، فهذا لا يُعدّ إقبالاً البتة.

ويقول والحديث للشيخ الأستاذ: هذه الخصوصية في رسول الله ﷺ فحسب، ليست فقط كونه رسول الله ﷺ يقابل الناس بوجهه كاملاً، وإنما كونه رسول كريم، مظهرًا لباسط اليدين بالعطية، إذ لم ينقل لنا التاريخ البتة إنه ﷺ في حديثه أو في مقابلاته إلى أحدٍٍ نظر إليه ملتفتًا بوجهه فحسب، بل كان يدير بكلّه نحوه، من قبيل ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الأنعام: ٧٩، فالمراد بالوجه هنا كامل البدن، أيّ نستقبل القبلة مقبلين على الله ﷻ بكلنا، بكل بدننا، فرسول الله ﷺ يقبل بوجهه أيّ بكلّه وبوجوده، ولا ينشغل عن ما يحدثه لا في باطنه ولا في وجوده، وهذا من شدة أمانته ﷺ وحرصه ورغبته بالمؤمنين.

حريص على المؤمنين

كما وقد وصف الله ﷻ نبيه الأكرم ﷺ بكونه حريص على المؤمنين ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ التوبة: ١٢٨،(٦)

فالحريص: هو الذي يرغب في الآخر ويلتهم ما عنده، والحرص قد يكون سلبيًا حين يلتهم أحدهم حقوق وملك الآخرين، وهذا فضلًا على أنه غير جائز بطبيعة الحال، فهو فعل قبيح ومذموم، وأحيانًا يكون الحريص على الآخرين حيث أنه ليس مجرد إلهام فكرة أو مسألة روحية، بل ليدخل الآخرين في قلبه وفي كمالاته؛ وقد رأينا بعض الأساتذة الأجلاء تشعر وهو يتحدث وكأنه قد ابتلعك كاملًا بقدر ما لديه من علم ومعرفة ونورانية، فكيف بخير الخلق أجمع رسول الله ﷺ فهو حريص على المؤمنين هذا النحو من الحرص الإيجابي.

الارتياب في شأن رسول الله ﷺ

ولذا فقد عاب القرآن الكريم على من يتردد أو يرتاب في شأن رسول الله ﷺ، ومن يبتعد عنه وعن نهجه ورسالته ﷺ يقول ﷻ: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ التوبة: ٤٥، وكما ورد في مضامين الآيات والروايات والأثورات إن الشقاء كل الشقاء لمن يرتاب في رسول الله ﷺ وفي رسالته، ولذا فإن هذه الآيات فيها إنذار للمنافقين كونهم في الدرك الأسفل من النار؛ فالمنافق ينشىء فساد أخلاقي وسياسي واجتماعي، كما يحدث مفاسد كثيرة، ولكن أسوأ ما في المنافق هو ذاته؛ كونها مرتابة في رسول الله ﷺ ﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾، ولو تأملنا قليلًا لوجدنا أن أقبح ما في هذا الموقف من المنافق هو عدم الاستغناء وعدم الانقطاع برسول الله ﷺ، بل هو دائم التردد في شأنه ﷺ.

الفرق بين الشك والريبة

هناك فرق بين من يشكك في مقامات رسول الله ﷺ أو يشكك في رسالته، ومن يشكك في الله ﷻ.

١- الشك موقف علمي، والمواقف العلمية تعالج بالبيان والتعليم والإرشاد، فمن لم تتم عليه الحجة والبيَنة والدليل والبرهان كالجاهل قد يشك.

ولذا ليس لدينا مشكلة إذا شك الشباب الباحث عن الحقيقة، على العكس من ذلك فكما يقال أن الشك قد يكون أول الطريق للحصول على حالة الظن، ومن ثم الحصول على اليقين وهذا طريق منطقي، فالشك بذلك يمكن أن يُعدّ مرحلة منطقية لوصول الإنسان للعلم.

٢- الريب ليس كالشك البتة؛ فهو ليس صرف مسألة أو موقف علمي أو تشكيك علمي؛ فالريب علاوة على أن الإنسان يعيش حالة تشكيك دائمة، هو موقف نفسي وروحي وأخلاقي.

والريبة والارتياب ليس مكانهما العقل، بل القلب ﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ﴾، ولذا نقول في الفقه لا يجوز للرجل النظر للمرأة نظرة ريبة، بل لا يجوز لأحد النظر للآخرين نظرة ريبة؛ لأن نظرة الريبة فيها موقف نفسي وأخلاقي، فيها تشكيك في الآخر.

وهذا أصل مشكلة المنافقين كونهم في حالة تشكيك وارتياب نفسي وأخلاقي من رسول الله ﷺ، وهذه الحالة في واقع الحال تسلب الإنسان اليقين، وتجعله مدبرًا مقابل إقبال رسول الله ﷺ ومنّية وعطية رسول الله ﷺ وانقطاعه بوجهه الكريم حين يتحدث معهم ويخاطبهم وهو حريص عليهم، يظلون في حالة ارتياب وتشكيك في رسول الله ﷺ، ولذلك الشقاء كل الشقاء للمنافقين ﴿فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾.

الانقطاع لرسول الله ﷺ باتباعه

في مقابل ذلك فإن السعيد كل السعيد من اتبع رسول الله ﷺ يقول ﷻ ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ آل عمران: ٣١، الاتباع معناه الانقطاع، والذي ينقطع وينقاد لرسول الله ﷺ ففي الحقيقة هذا يحبه الله ﷻ، وعند ذلك لا يبقى للعاقل أدنى مطمع بعد أن ينال محبة الله ﷻ ورضاه.

إذًا فمحمد ﷺ والذي منّ الله ﷻ به علينا، إذا ما انقطعنا له ﷺ أغنانا عن كل شيء؛ لأنه يقبل بوجهه وبروحه وقلبه ﷺ علينا، ويقطعنا عن ما عداه، فهو يغنينا ويثرينا ويروينا ويكسونا ويفيض علينا كونه مظهرًا لباسط اليدين بالعطية.

والقرآن الكريم عندما يتحدث عن بعض الأقوام كالأعراب يصفهم كونهم خفيفي علم حيث أنهم لا يدركون حقيقة تلك المنّية الإلهية العظيمة: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ الحجرات:١٧، والمنّية: إما أن تكون لفظية أو فعلية، أما المنية الكلامية اللفظية فتُعدّ قبيحة من أيّ أحد كان حيث يعطيك ومن ثم يذكرك أنه عطاك.

لكن هؤلاء منّيتهم ليست مجرد منّية كلامية، بل فعليه أيضًا ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ﴾، أيّ يريدون  مقابل إسلامهم، فهم يريدون من رسول الله ﷺ أن يعطيهم المواقع والمناصب والأموال أن دخلوا في الإسلام ﴿قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.

انقطاع المذاهب بالإمام الصادق ﴿؏﴾

إذًا وكما كانت هذه المنّية والعطية من الله ﷻ للبشرية أجمع ببعثة رسوله الأكرم ﷺ، والتي قطعتنا عن كل الجهالات، وعن كل اللوث النفسي والأخلاقي والروحي والاجتماعي والاقتصادي، ذات تلك الخصوصية وبالوراثة المعنوية هي من بعده لذريته وأبنائه من الأئمة المعصومين الأطهار ﴿؏﴾.

فإن الإمام الصادق ﴿؏﴾ والذي يتشارك مع جدّه المصطفى ﷺ في هذه المناسبة، قد تجّلت فيه صفة القطع، حيث أنه ﴿؏﴾ قطع العلماء، والمفكرين، وأصحاب المذاهب له، بل وإن انقطاع كل أصحاب المذاهب إليه أمر واضح وجلي، فقد احتوى علمائهم بتلطف وكرم منه ﴿؏﴾؛ وذلك للعمل على نشر الإسلام والحفاظ على وحدة المسلمين، والتي لم يعمل أحد على الحفاظ عليها كما عمل الأئمة الأطهار ﴿؏﴾.

الوحدة والتقية من آثار الانقطاع لمذهب جعفر بن محمد ﴿؏﴾

لذا نجد أن الإمام الصادق ﴿؏﴾ قد عمل بالتقية لذات هذه الغاية؛ إذ كان يداريهم؛ كونه ﴿؏﴾ يخاف على دينهم وعلى ضررهم ومصالحهم.

ومما لا شك فيه أن أهل البيت ﴿؏﴾ كانوا وما زالوا هم أولى النّاس بكل شيء مما في أيدي المسلمين؛ أولى بالمنصب والسلطان وبالمال والجاه، حيث اختارهم الله ﷻ ونصبهم وعينهم لهذا الموقع دون غيرهم؛ فلم يختارهم النّاس بنحو ما يسمى بالديمقراطية -بانتخابات أو إقرار أو بتعين من مجلس أو شخص أو ما شابه- كي يتنحون؛ رغم ذلك تركوا ما في أيدي النّاس للنّاس؛ فقط لأجل حفظ ورعاية وحدة المسلمين.

وهنا نقول: قد تكاد تكون من أكبر أحلامنا كأمة محمدية، وأكبر أمانينا ومطالبنا -نحن كمسلمين- أن يقبل بعضنا بعضًا، وتصبح فيما بيننا روابط وحدة ومودة؛ السنّي والزيدي والأباضي .. إلخ؛ ونرجو أن يغدو هؤلاء البعيدون عنا قريبين منا.

لذا وعليه، يجدر بمن يدعو للوحدة، ويدّعي طلب الوحدة مع من حوله من المسلمين، أن لا يعمد لذكر ما فيه تجريح للآخر المخالف، وتجنب وتجاوز النقاط الخلافية؛ سيما في الأمور والمسائل غير العقائدية. فعامة هؤلاء المسلمين من المستضعفين فكريًا وعقائديًا؛ لا سبيل من أجل الوحدة معهم إلا بالتقية(٧)، وهذا ما قد عمل به رسول الله ﷺ، وما عمل به ذريته الأطهار ﴿؏﴾ من بعده؛ وكما ورد عنهم ﴿؏﴾: “التقية ديني ودين ابائي”. (٨)

فإذا كنا نريد أن نذكر فضائل ومآثر ومحامد ومفاخر رسول الله ﷺ، وأهل البيت ﴿؏﴾، فلنذكر ونؤكد على هذه الحقيقة والحيثية كونهم ﴿؏﴾ كانوا ممن يقبلون بكلهم على الآخر؛ بقلوبهم ورحمتهم ورأفتهم، بعلمهم ومعارفهم ﴿؏﴾. وعليه إذا أردنا أن نتأسى بهم، وهم السادة والقادة، والشفعاء والعظماء فعلينا أن نتخلق بأخلاقهم ﴿؏﴾.

أسأل الله ﷻ أن يرزقنا وإياكم في هذه الدنيا محبتهم ومعرفتهم، وفي الآخرة شفاعتهم، وصلى الله على محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.


  1. قال جابر بن عبد الله الأنصاري: وإن شهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: يا جابر! كلمة يحتجزون بها أن تسفك دماؤهم، و أن لا تستباح أموالهم، وأن لا يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) السنن الكبرى ج٨ ص١٩٥.
  2. أن النبي صلى الله عليه وآله فتح مكة عنوة ولم يقسم أرضها بين المقاتلة. وقال قوم: فتحا سلما. وقسم كثيرا من غنائم حنين في المؤلفة قلوبهم دون المقاتلة حتى وقع من نفر من الأنصار في ذلك ما وقع، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله اما ترضون ان يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله، فرضوا وسلموا لله ورسوله. [الشيخ الطوسي التبيان ج٩، ص ٥٦٦-٥٦٧]. 
  3. عن جويبر عن الضحاك، عن ابن عباس قال: صلينا العشاء الآخرة ذات ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وآله فلما سلم أقبل علينا بوجهه ثم قال: … بحار الأنوار ج٣٥ ص٢٧٢.
  4. ومن سر آل محمد صلى الله عليه وآله في الصلاة على النبي وآله “اللهم صل على محمد وآل محمد في الأولين، وصل على محمد وآل محمد في الآخرين، وصل على محمد وآل محمد في الملاء الاعلى، وصل على محمد وآل محمد في المرسلين، اللهم أعط محمدا الوسيلة و الشرف والفضيلة والدرجة الكبيرة، اللهم إني آمنت بمحمد ولم أره، فلا تحرمني يوم القيامة رؤيته، وارزقني صحبته، وتوفني على ملته، واسقني من حوضه مشربا رويا سائغا هنيئا لا أظمأ بعده أبدا إنك على كل شئ قدير، اللهم كما آمنت بمحمد ولم أره فعرفني في الجنان وجهه، اللهم بلغ روح محمد صلى الله عليه وآله عني تحية كثيرة وسلاما” فان من صلى على النبي صلى الله عليه وآله بهذه الصلوات هدمت ذنوبه، ومحيت خطاياه ودام سروره، واستجيب دعاؤه وأعطي أمله، وبسط له في رزقه، واعين على عدوه وهي له سبب أنواع الخير، ويجعل من رفقاء نبيه في الجنان الاعلى، يقولهن ثلاث مرات غدوة وثلاث مرات عشية. بحار الأنوار ج ٨٣ ص٩٦.
  5. مفاتيح الجنان.
  6. لقد تم شرح الآية الكريمة ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾ بكثير من التفصيل في محاضرة سابقة للعالمة أم عباس الطاهر النمر.
  7. لو كانت هناك فتنة فعلى الإنسان حينها أن لا يتنازل؛ إذ يجب على الإنسان أن يقف في وجه الفتنة والبدعة ويحاربهما ويتقيهما.
  8. عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن ﴿؏﴾ عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر ﴿؏﴾: التقية من ديني ودين أبائى ولا إيمان لمن لاتقية له. الكافي، ج٢ ص ٢١٩.

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 4 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 4 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 99٬208 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (2)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها