تقدم القراءة:

العقيلة تدعوكم لما يحييكم الدرس ١١

الجمعة 3 سبتمبر 2021مساءًالجمعة

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

5
(2)

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ الأنفال:٢٤.

ما انجلت الغبرة، وهدأ سليل السيوف، وخرجت حمحمة الخيول، إلا والكل واجم يراقب أرض كربلاء، وهذا الجسد الطاهر لخليفة الله وحجته عار مسلوب العمامة والرداء لا تستره إلا ريح الصبا، تسفي عليه ترابها لتغطي معالمه المقدسة.

الجريمة أبشع من أن يحكى عنها، الصمت فيها هو الأبلغ، فقد اقتحمت خيم النساء والصبية والأطفال وهن يتفاررن وتتطاير قلوبهن، والله وحده العالم إلى أين؟ ولكن لا شك أن قبلة الجميع كانت زينب الكبرى ﴿؏﴾، زينب التي سبقت عصرها، ولحقتها كل العصور، فلم تبلغها ولم تصل إليها، إن زينب ﴿؏﴾ لا تترجم بالرجوع إلى كتب التاريخ؛ وإنما إلى آيات الله ﷻ فقط، وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم سنجد مثالاً لزينب ﴿؏﴾ وليس لحقيقتها.

يطلب أحد مراجعنا من ثلّة من طلبة العلوم الدينية أن يقايسوا بين أمرأة فرعون والسيّدة زينب الكبرى ﴿؏﴾؛ إذ أن امرأة فرعون بدورها طلبت من الله ﷻ نفس ما طلبته مريم ابنة عمران وهذا نص قوله أدام الله ظله:

“مريم بنت عمران في ابتلائها وامتحانها طلبت من الله ﷻ، وتمنت الموت، كذلك زوجة فرعون آسية ولكن بطريقة أخرى، كلاهما اختارتا الموت ولقاء الله ﷻ في ظرفيهما الخاصين فقالت امرأة فرعون” ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ التحريم:١١، حيث كان قلبها متعلقًا بموسى ﴿؏﴾ ونهجه وكلامه في الهداية.

ثم يقول:

امرأة فرعون لم ترى موسى ﴿؏﴾ سليبًا أو قتيلًا، ومع ذلك طلبت الموت، قالت: ﴿رَبِّ ٱبْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى ٱلْجَنَّةِ﴾،

ويقول سماحة آية الله حفظه الله:

كان عذابها بدني، ولم ترَ العذاب الروحي الذي رأته زينب ﴿؏﴾،

فقد رأت زينب ﴿؏﴾ هاديها ومرشدها وإمامها وأوليائها؛ صرعى ومجدلين، ولم تقل: ربيّ نجني؛ وإنما قالت ﴿؏﴾: “ربنا تقبل منا هذا القربان”(١)، “ما رأيت إلا جميلًا”(٢) .

مجتمع الكوفة (الظروف والملابسات والخصائص المجتمعية)

إذا أردنا أن نعرف عظمة المهمة التي قامت بها زينب بنت أمير المؤمنين ﴿؏﴾ والتي تحملتها؛ يجب أن نتأمل في المحيط الإجتماعي والظرف السياسي والأخلاقي والروحي الذي كان مهيمنًا على الكوفة وعلى طبيعته التي دخلت فيها زينب ﴿؏﴾ في اليوم الحادي عشر من سنة 60 للهجرة.

لم تكن الكوفة صحراء قبل أن تقع في أيدي المسلمين؛ بل كانت مدينة سريانية، وهي من الأصل كانت مدينة تبادل الأسرى، كذلك فقد أسسها المسلمون كمعسكر لهم لتجميع الجيوش، لم يكن في الكوفة بناء ولا بيوت ولا عوائل، بعد ذلك أقاموا قصر الأمارة؛ حيث بنيّ على طراز غير إسلامي، ثم بنيت إلى جانبه بيوت صغيرة، ولذلك عندما وصل أمير المؤمنين ﴿؏﴾ للكوفة وطُلب منه أن يسكن في قصر الأمارة قال: إنه قصر الخبال، لأن فيه نوع من الترف الزائد، والذي لا يتناسب وزهده ﴿؏﴾.

هذا من الناحية الجغرافية، أما من الناحية التاريخية؛ فقد أختلف الباحثون والمحققون في تفصيل مجتمع الكوفة؛ فمنهم من أراد أن يبرأ أهلها الأصليون، ويثبت وجود دخلاء عليها، ومنهم من قال إنه الطبع الأصلي لمجتمع الكوفة وما زال لم يتغير.

ولكن المهم أن نتحدث عن المجتمع الكوفي من جهة أخلاقية ونفسية وروحيه؛ فالبلد يحكم عليه بأهله؛ فقد يزينه أهله وقد يشينوه، ففي جانب من الكوفة يوجد هناك مجتمع بدوي، وقد وصفتهم السيّدة زينب ﴿؏﴾ بأنهم أهل الختل والغدر فقالت: “يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر”(٣).

ومن الصعب جدًا إنكار وجود تلك الشريحة من ضعفاء الإيمان والنفوس الميالين نحو الدعة والراحة، يقول ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ التوبة: ٣٨، فهؤلاء الذين إذا قيل لهم انفروا في سبيل الله اثاقلوا إلى الأرض، وهم يقولون ما لا يفعلون، ليسوا محبوبين عند الله ﷻ. يقول ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۞ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونًَ ۞ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ الصف:٢-٤

فنجد أن هؤلاء قد خاطبهم القرآن الكريم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾، أيّ أنهم ضمن المجتمع المؤمن، وهذا قد يكون حال بعض المؤمنين الموالين في زماننا هذا؛ إذ يوجد شريحة ضعيفه الإيمان والعقيدة؛ تتثاقل لو نودي واستلزم الحال للتضحية والجهاد والفداء، كما أنها تفرّ من مجرد الحديث، ولا تريد أن تستوعب هذه المفاهيم، هؤلاء موجودون في كل مجتمع، وهم ضمن فئة المؤمنين، إذ ليس المراد من الإيمان هنا هو الإيمان الحقيقي؛ لأن الله ﷻ يقول ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونًَ﴾.

ولربما هذا الوصف لمجتمع الكوفة هو ما يفسر كلام أمير المؤمنين ﴿؏﴾ في خطبه الكثيرة والمليئة بالتقريع لأهل الكوفة؛ فقد ورد في بعض خطبه فيهم ﴿؏﴾ يقول: أَيُّهَا اَلنَّاسُ اَلْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ اَلْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ كَلاَمُكُمْ يُوهِي اَلصُّمَّ اَلصِّلاَبَ وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ اَلْأَعْدَاءَ تَقُولُون َفِي اَلْمَجَالِسِ [مَجَالِسِكُمْ] كَيْتَ وَكَيْتَ (كلامهم في الجهاد والثورية) الواحد منهم يشجع المجاهدين في الوقت الذي لا يمسه أي بضرر، (فَإِذَا جَاءَ اَلْقِتَالُ قُلْتُمْ حِيدِي حَيَادِ مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ وَلاَ اِسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ وَسَأَلْتُمُونِي اَلتَّطْوِيلَ دِفَاعَ ذِي اَلدَّيْنِ اَلْمَطُولِ لاَ يَمْنَعُ اَلضَّيْمَ اَلذَّلِيلُ وَ لاَ يُدْرَكُ اَلْحَقُّ إِلاَّ بِالْجِدِّ يقول أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ وَمَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ(٤) وكأن لسان حال أمير المؤمنين ﴿؏﴾ يقول: قد يعطي الله ﷻ أحيانًا للأمة قيادة تمتلك كل الإمكانيات، فإذا كنت أنا أمير المؤمنين ﴿؏﴾، ولم تقاتلوا معي؟ فمع أي إمام بعدي ستقاتلون؟! فالمغرور من غررتموه، الى آخر كلامه الشريف ﴿؏﴾، وهو ذات معنى الآية الكريمة والتي تنطبق عليهم ﴿تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾. 

وهذا الأمر يجب الالتفاف له ومواجهته؛ فكما علينا أن نتأمل في ضفة الخير وأهل الخير، يجب أن نتأمل في ضعاف النفوس، لأنهم يتكررون دائمًا، ولعل هذا يفسر لنا بعضًا من شناعة ما قام به أهل الكوفة وغيرهم بحق أهل البيت ﴿؏﴾، فليس هناك أدنى شك من وجود أمثال تلك الشريحة والتي ولا بُدّ أن تكون مخابرات عمر بن سعد، وعيون بني أمية رصدتهم وعولت على غدرهم، وخورهم وعلى عدم صدقهم و آدائهم للمواعيد، وعدم وفائهم في المواقع. 

زينب ﴿؏﴾ ومواجهة أهل الكوفة

ولعل مما سبق من بيان وتوصيف لمجتمع أهل الكوفة يجعلنا نتصور كيف أن هذه الشريحة كان لها الأثر البالغ الكبير في رسم المشهد الذي حدث في تلك الفاجعة، وقد يكون الدليل هو ذات خطاب السيّدة زينب ﴿؏﴾ لهم، وهو بتمامه يتطابق مع سياق الآيات من سورة الصف في وصف أمثال تلك الفئة، لذا فإن القرآن الكريم يخاطبهم في سورة الصف يقول ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾.

وبلحاظ تتمة الآية الشريفة ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ الصف: ٥، سنجد أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ طبقت تلك الآيات وبكامل حدودها على أهل الكوفة وهي توبخهم وتقرعهم، لقتل الإمام الحسين ﴿؏﴾ بهذا النحو البشع، قالت لهم ﴿؏﴾: “ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدًا، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة، ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومدرة سنّتكم” (٥).

وكنحو قول موسى ﴿؏﴾ لبني اسرائيل حيث قال لهم ﴿لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ﴾ الصف:٥ إذ لم يقل ﴿لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾ وأنتم تعلمون بل قال ﴿وَقَد تَّعْلَمُونَ﴾، وذلك (للتأكيد)، كذلك زينب ﴿؏﴾ قالت: “لمَ تؤذونني في قتل سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة”

ثم ونحو ما قاله الله ﷻ: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا﴾، قالت لهن زينب ﴿؏﴾: “ألا ساء ما تزرون، وبعدًا لكم وسحقًا، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبأتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلّة والمسكنة”(٦). 

ثم إن الله ﷻ يصف قلوب هؤلاء التي تقول ما لا تفعل، وكيف بعد أن يحدث فيها الزيغ تتحول إلى قلوب فاسدة ﴿أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ قالت زينب ﴿؏﴾: “تبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلّة والمسكنة”.

وقد علمنا أن الكوفة التي دخلت فيها زينب بنت أمير المؤمنين ﴿؏﴾، ليست هي نفس الكوفة التي خرجت منها أبدًا، لقد قلبت الوضع ﴿؏﴾، فكما دخلت زينب ﴿؏﴾ مدخل صدق، خرجت منها مخرج صدق، دخلت الكوفة وهي تحت سيطرت شيعة آل أبي سفيان، وخرجت منها وهي منفلتة من آل أبي سفيان، وهي مركز الثورة والتغيير.

والسؤال الذي يطرح نفسه ونريد أن نجيب عليه!  

فعندما نلاحظ نمط خطاب السيّدة زينب ﴿؏﴾ في الكوفة نرى أن كله تقريع، توبيخ، وعيد، تهديد، ومثل هذا الخطاب عادة لا يصنع أنصارًا وأتباعًًا ومحبين كما أنه لا يؤسس لمؤتمين وممتثلين.

فكيف استطاعت زينب ﴿؏﴾ أن تصنع أتباعًا ومحبين، وأن تؤسس لمؤتمين وممتثلين؟ 

هناك نقطة مهمة ودقيقة جدًا، إذ كيف أثرت زينب ﴿؏﴾ في مجتمع الكوفة وقلبته، وخطابها ﴿؏﴾ خطاب تبكيت ووعيد وتهديد وتقريع؟! وكيف أوجدت مؤتمين ومطيعين ومنقادين وثوريين، والجواب قد أشار إليه سماحة آية الله والذي صدرنا حديثنا بمقولته عن العقيلة زينب ﴿؏﴾، وبالنظر لها تلفتنا لمسألة هامة -ربما لم تتضح في أذهان البعض منا-(٧)،  هو يُعدّ جوابًا على السؤال الذي طرحناه، والجواب وبنحو الاختصار لكونها امرأة.

زينب ﴿؏﴾ الإمرأة الأقدر على الإحياء 

لأن زينب ﴿؏﴾ امرأة؛ لذلك كان لها هذه القدرة على إحياء الضمائر، وتهييج المشاعر، ولهب الأحاسيس، الأمر الذي ما لا يستطع عليه الرجل، ويقول سماحة آية الله:

لأنها امرأة، فإن لها هذه المكانة العظيمة، فقد مزج وخلط فيها بين الثورية والحماس والعاطفة مزيج لا يجتمع عند رجل، إذ لا ترى في الرجال عاطفة باعثة على الحماسة مع رصانة الشخصية وثبات النفس.

وهنا نضرب لذلك مثالًا بسيطًا يبين الفارق بين المرأة والرجل، عندما يرى امرأة ورجل شخصًا وقد سقط على الأرض، سنرى إن المرأة تندفع بسرعة نحوه كي تنقذه، بينما الرجل يتريث قليلًا، ليفكر، وثم بعد ذلك يتصرف فالرجال والنساء كما بينهما تشابه فهناك أختلافات، وقد توجد فروق فردية كثيرة بين البعض والآخر، وكون حديثنا هنا بالخصوص حول شخصية المرأة التي قد تقوم بمثل هذا الدور، أشرنا لهذه الحيثية من الفوارق العامة والتي قد يختلف فيها الأعمّ الأغلب من النساء والرجال.

ويقول سماحة آية الله:

إن اجتماع هذا المزيج، الثورية والحماس والعاطفة مع الالتزام والثقل لا يتأتى للرجل، ثم يقول: أما زينب ﴿؏﴾ التي هضمت في كيانها هذه الأحداث العظيمة فقد داست بشجاعتها على النيران المؤججة وعبرت لتعطي للناس درسًا وثباتًا.

ومن الجيد هنا الإشارة لتجربة المرأة الحوزوية، إذ كان من المعتاد سابقًا أن من يتفرغ لدراسة العلوم الدينية والتبليغ هم الرجال،(٨)هنا نريد أن نلفت إلى مسألة: فإن ونتيجة لفتح المجال للنساء والتحاقها بالحوزة العلمية، تجلى هذا الإشكال إذ كيف ينبغي أن تتصرف النساء الحوزويات؟ أو عليها أن تتعامل؟  أو كيف تتعاطى مع الناس؟ فهل يلزم منها أن تأخذ ذات نمط رجال الدّين ومناهجهم؟! وإذا ما أردنا أن نقيم امرأة عالمة؛ أتقييم على النحو الذي يقيم عليه الرجال؟ لا شك أن هذا خطأ كبير جدًا، ولذا فقد أصبح النمط النسائي الحوزوي واقع في مشكلة!

ونتيجة هذه التساؤلات وذلك الأمر، وعليه فقد تقدم مجلس أمناء الحوزة بحث ودراسة، وقد خلص إلى نتيجة؛ أن الرجل له نمط  خاص وشخصية محددة، كما أن للمرأة شخصيتها ونمطها الخاص، فهي ذاتًا عاطفية وتتحرك بنحو أسرع، وكونها أمور ذاتية فمن غير الممكن تجاهله أو إلغاؤه أو تغييره أوتبديله، وعليه لا يمكن إلباس المرأة غير لباسها، فتتعثر، فلا هي تمشي على نحو فطرتها أو تسير خلافها.

زينب ﴿؏﴾ المرأة الرسالية تعطي درسا وثباتًا في الوعي

كثيرون ما يتحدثون عن دور السيّدة زينب ﴿؏﴾ الإعلامي، وهذا مما لا شك فيه، فالسيّدة زينب ﴿؏﴾ قد مارست هذا الدور وكما وكل الأنبياء ﴿؏﴾ يمارسونه، ولكن نريد القول إن هذا الدور ليس إلا رذاذًا وترشحًا عن وظائف وأدوار أساسية، وعارضًا من عوارض هذه الشخصية الأنثوية، ولذلك يصح أن نقول كان للعقيلة زينب ﴿؏﴾ دور اعلامي، ولكنه ليس منتزع أو منفك عن طبيعتها وعن خصائصها الذاتية.

نعم هي امرأة؛ وتحمل رسالة إحيائية للأمة أزلية، ولذا نجد أن الإعلام إذا كان ملبسًا بهذين الشأنين يصبح له تأثير استثنائي، لذلك يقول ويعبر سماحة آية الله عن دور العقيلة زينب ﴿؏﴾ بقوله: عبرت على النيران المؤججة لتعطي للناس درسًا وثباتًا في الوعي وهذا هو عظمة الجانب الإنساني في المرأة، يقول جعلت الرجال خانعين حقراء صغراء أمامها لا شيء.(٩)

زينب ﴿؏﴾ تحيي الأمة وتميت وتلغي وهم السبعية الضارية

خلاصة كل ما مرّ ذكره، وبعد كل ما قامت به العقيلة زينب ﴿؏﴾ من دور إحيائي، فقد رأى النّاس كيف أنها ﴿؏﴾ قد أذابت جليد الخوف، وكشفت أن السبعية الضارية التي كان يبديها عبيد الله ابن زياد بخوله بصوته وعصاه لا يزيد على حقيقته شيء غير كونه فزاعة وهمية، وهذا هو حال وواقع كل الطغاة والجبابرة، والذي قد يخاف منهم الأطفال، وكما يعبر عن ذلك أمير المؤمنين ﴿؏﴾: “حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال”(١٠).

فالطفل قد يخشى ويخاف من الوهم الذي يوهمه ويصوره له من حوله على أنه حقيقة؛ وذلك لقلة أدراكه وربما بساطة تفكيره، وهذا هو تمام حال سبعية ابن زياد التي لم تكن إلا وهمًا، وأهل الكوفة عندما تخيلوا أن وعيد ابن زياد مرعبًا ومخيفًا، إنما ذلك لقلة إدراكهم وقصور أفهامهم عن إدراك وتمييز العقلاء، وهذا الوضع يتكرر دائمًا، لأنه حينما يجمد العقل على الظواهر، يسقط في الخيالات والخزعبلات؛ ولذلك يقول الله ﷻ: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ آل عمران:١٧٥

فالشيطان لا يمتلك سوى اللعب في الوهم، وهو ما كشفت عن زيفه زينب بنت أمير المؤمنين ﴿؏﴾، فإنها وبخطابها هذا فقد تآكلت تلك الأوهام، وفتحت بذلك ﴿؏﴾ المجال لتغذية وإحياء شريحة جديدة، وأزالت الوهم، وهذا الغشاء والقناع الزائف الذي وضعه بني أمية، ولنا أن نقول أن زينب ﴿؏﴾ هي وحي العقل وممات الجهل والتي تصاغر أمام عظمتها الرجال. 

هذا وهي صلوات الله وسلامه عليها يُسار بها خلف رأس أخيها الحسين ﴿؏﴾ المرفوع على القنا، إذا نظرت إليه استحالت جبال صبرها إلى رمل محدودب، كثيب مهيل؛ كأنها صلوات الله عليها تقبض كبدها بيدها لكي لا تلفظها، وهي تخطب في أهل الكوفة أو كأنها تمسك روحها براحتيها لتبقى في جسدها، وقد نقل العلّامة المجلسي في بحاره إنها حين رأت الرمح وهو يميل قالت:

يا هلالًا لما استتم كمالً غاله خسفه فأبدا غروبًا
ما توهمت يا شقيق فؤادي كان هذا مقدر مكتوبًا (١١)

ألا لعنة الله على الظالمين.


  1. وروى عن زين العابدين ﴿؏﴾ قال رأيتهما تلك الليلة تصلى من جلوس، وكراماتها كثيرة وناهيك لما خطبت بتلك الخطبة فبمجرد ما أومأت للناس ان اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس وأما صبرها على النوائب ناهيك منها لما وقفت على جثة أخيها يوم الحادي عشر من المحرم قالت: “اللهم تقبل منا هذا القليل القربان” . شجرة طوبى ج٢ ص٣٩٣
  2. اللهوف، ص١٦٠. انتشارات جهان تهران، ١٣٤٨ هـ ش.
  3. المصدر السابق
  4. نهج البلاغة – خطب الإمام علي ﴿؏﴾ – ج ١ – الصفحة ٧٣ الخطبة ٢٩
  5. اللهوف، ١٤٧-١٤٨، انتشارات جهان تهران، ١٣٤٨ هـ ش.
  6. المصدر السابق
  7. سعى الشاعر -الذي كتب قصيدة الشعار الخاص ببحث هذا العام وهذا الموسم العاشورائي- أن يركز على هذا المعنى؛ فأثاره كتساؤلًا! حيث قال: صج امرأة لكن الله بأمرش قدره)، وبغض النظر عما يرتبط بخصوص هذا اللفظ، لكن المعنى صحيح في حد نفسه، وقد اعتاد مجلس سليلة الكوثر الذي يعرض البحث السنوي العاشورائي بطرح شعارًا إنشاديًا أو قصيدة عزائية؛ تتضمن خلاصة مفاد البحث، ومعانيه بإشراف وتوجيه من الأستاذة الفاضلة.
  8. الأستاذة الفاضلة من أوائل من التحق بالحوزة العلمية من النساء
  9. نهج البلاغة – خطب الإمام علي ﴿؏﴾ – ج ١ – الصفحة ٧٠ الخطبة ٢٧
  10. ومن خلال التجربة في هذه الخمسين سنة الماضية لاحظنا أهمية الدور الإعلامي للمرأة
  11. بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٤٥ – الصفحة ١١٥

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 114٬523 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها