تقدم القراءة:

الإمام الحسن ﴿؏﴾ من الدائرة الأوسع ٢

الأربعاء 15 سبتمبر 2021صباحًاالأربعاء

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

5
(2)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد ﷺ وآل بيته الطيبين الطاهرين.

لرسول الله ﷺ والصّديقة الطاهرة ولأمير المؤمنين وللأئمة المعصومين ﴿؏﴾، سيّما خاتمهم (عج)، مراجعنا بشكل عام، قائد الأمة الإسلامية، الأخوات المؤمنات أحرّ العزاء بشهادة أبي محمد الحسن السبط ﴿؏﴾.
إن هذه الليلة غريبة لا أنس فيها؛ فارغة من مظاهر الرحمة، ليلة عبوس خلاء على بيت علي وفاطمة ﴿؏﴾ وعلى الإمام الحسين ﴿؏﴾ والسيّدة الكبرى زينب ﴿؏﴾.

إن كل لحظة تمر على بيت النّبوة ﴿؏﴾ تستل منهم روحًا من روح رسول الله ﷺ، وفاطمة وعلي ﴿؏﴾، وأصعب من الفراق المرُ، هو توقيته المر وانتظاره الأمر، أما الإمام الحسن ﴿؏﴾ فكان -هو بأبي وأمي- في كل لحظة يرفع من فضائله ولطائفه، ومن روحه الكريمة صنيعة لأخيه الحسين ﴿؏﴾، وأخته زينب ﴿؏﴾، تذيب قلوبهم المملؤة رقة وعطفًا وتحننًا.

فقد جاء في الخبر أن الإمام الحسن ﴿؏﴾ عندما حضرته الوفاة قال: أخرجوني إلى الصحراء لعلي أنظر في ملكوت السماء، فلما أخرج بها قال: “اللهم إني احتسب نفسي عندك، فإنها أعزّ الأنفس عليّ”(١)، وفي هذه المقولة إشارة إلى أنه ﴿؏﴾ لا يريد أن يأخذ لنفسه من الله ﷻ شيء البتة، بل هو يحتسبها عند الله ﷻ، ولا يطلب القود إلا لرضا الله ﷻ، فيسأل الله ﷻ أن يجعل نفسه في محال القدس والعظمة؛ ومفاد قوله: أنني أرضى بذهاب نفسي وشهادتها على أن أكون قريب منك يا رب في محال قدسك.

نعم إنها روح الإمام الحسن ﴿؏﴾ التي هي بسعة محال القدس، وزنة عرش الله ﷻ، ومداد كلماته الإلهية ﷻ التي لا حدّ لها ولا منتهى؛ ولذلك يكون وداعه حارًا محرقًا مذيبًا للمهج؛ فعظم الله لك الأجر يا رسول الله ﷺ، عظم الله لكِ الأجر يا سيّدتي ومولاتي يا فاطمة الزهراء ﴿؏﴾، عظم الله لك الأجر يا أمير المؤمنين ﴿؏﴾، عظم الله لك الأجر يا أبا عبد الله ﴿؏﴾، عظم الله لكِ الأجر يا كعبة الأحزان زينب ﴿؏﴾.

الإمام الحسن ﴿؏﴾ والنظرة العرشية الأرحب

الإمام الحسن ﴿؏﴾ من الدائرة الأوسع لها شواهدها الكثيرة من سيرته المباركة ﴿؏﴾، والتي ترشدنا وتبصرنا إلى أننا إذا ما أردنا أن نرسم صورة للإمام ﴿؏﴾ فستكون كبيرة مترامية الأطراف؛ كما لو أردنا أن نرسم صورة للسماء على الأرض فإنها ستأخذ حجم الأرض بكاملها؛ لأننا أينما نرتفع سنرى أن السماء تتسامى وتعلو، وهذا مثال مُبعد من جهات عدّة؛ لأن السماء لا تغطي عالمنا فحسب، كما أننا لم نطلع على بقية العوالم؛ لذا فإن الجانب المُبعد في هذا المثال أن الإمام الحسن ﴿؏﴾ ليس سماويًا فحسب؛ بل هو عرشيّ، والعرش أوسع من السماء؛ فقد جاء في الخبر عن رسول الله ﷺ: “أن اسمي واسم أخي علي وابنتي فاطمة وابنيّ الحسن والحسين مكتوبة على سرادق العرش بالنور”(٢)، يقول العلّامة صاحب الميزان في كتاب الرسائل التوحيدية:

إن ما يكتب على العرش هي الكليات الحاكمة على عالم الوجود، إذ أن أحد أبعاد إمامة الإمام الحسن ﴿؏﴾ أنه إمام للنّاس كافة ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ﴾ البقرة: ١٢٤، ولكن ذلك لا يعني أنه ليس إمام للملائكة والكروبين، وكل ما هو تحت سرادقات العرش وتحت تدبير ربنا ﷻ، وكل الموجودات.

وإذا ما أردنا أن نقرأ سيرة الإمام الحسن ﴿؏﴾؛ توجب علينا أن نقرأها ضمن تلك السعة(٣).

التجرد من الصورة الضيقة وآثاره

وهنا يجب أن ندرك أننا لن ننتج فكرًا صحيحًا في شأن الإمام الحسن ﴿؏﴾ إلا إذا تجردنا من تلك الصورة المحدودة والخلفية المشوشة، والتي تضع صورة الإمام الحسن ﴿؏﴾ في إطارات ضيقة، وتنتج بذلك لدينا فكرة قاصرة عن إدراك كُنهه وحقيقته ﴿؏﴾؛ إذ لا شك أن الإمام الحسن ﴿؏﴾ وكونه يحمل مهمة أداء رسالة ربّانية عالمية؛ سيختلف مجرى عمله وسلوكه عمن يريد أن يصلح أو يحيي أسرة مثلًا، أو يقوّم مجتمعًا أو جيلًا أو طائفة أو حتى حزب، فلو كان الإمام الحسن ﴿؏﴾ يريد أن يكوّن حزبًا لعمِل وفق ما يريده ذلك الحزب، وتلك الجماعة وترغب فيه، لكنه وكونه صلوات الله عليه مسؤول عن الإنسانية أجمع -كونه إمام للنّاس كافة- من سلف منهم ومن سوف يأتي، هو مما يحول في واقع الحال دون مقدرتنا على قراءة واستيعاب شخصية الإمام الحسن ﴿؏﴾؛ إذ لم يكن بتاتًا شخصية انهزامية أمام التيارات كما وقد يتوهم أو يصور له الأعداء؛ كما أنه ﴿؏﴾ لم يضعف ويستكين لما يريده النّاس.

والنّاس دائمًا ما تريد أن تفرض قواعدها العملية من خلال منظورها الضيق والمحدود زمانًا ومكانًا، كما أنها تريد أن تلزم القيادات بتلك النظرة، وإذا لم تلتزم القيادة –عادة-بتلك النظرة القاصرة؛ فإنهم -النّاس- يخلون ظهر القيادة ويعمدون لتركها.

ولذا يجب أن يكون الإنسان عصامي؛ بل معصومًا كي يكون هو الفاعل؛ إذ أنه وكما جرت عليه العادة فإن الإنسان إذا ما ترك، ورفعت عنه أيادي المجتمع ومن حوله، ستظهر عليه مظاهره وطبائعه الإنسانية الأولية التي خلقها الله ﷻ عليها؛ كونه هلوعًا (٤)وجزوعًا وعجولًا(٥) وضعيفًا(٦) -قبل سعيه نحو التزكية والتكامل- فإذا ما أحاطت به قاعدة اجتماعية حتمًا ستجرّه نحو ما ترتضيه، وستقوده إلى نقاط ضعفه تلك، ولكن إذا كان القائد بموقعية الإمام الحسن ﴿؏﴾؛ عالمًا، وشجاعًا لم يأتِ ليشكل حزبًا ويتحرك ضمن تلك الدائرة الضيقة فيقّسم النّاس -من هم معه وآخرون ممن هم عليه وضده- إلى فصائل وطوائف. وقد أشار الإمام الحسن ﴿؏﴾ إلى هذا المعنى عندما اعترض عليه سليمان بن صرد وسأله لماذا صالحت معاوية قال صلوات الله عليه: ولكني أردت بذلك صلاحكم وكف بعضكم عن بعض(٧)، أيّ أن أحد أهداف الإمام ﴿؏﴾ أن لا يقسم المجتمع إلى فصائل متقاتلة ومتناحرة، وهذه سنة سنّها الإمام الحسن ﴿؏﴾ لكل الأئمة ﴿؏﴾ ولكل قيادات الأمة.

الكثير وللأسف قد يحول الخلافات إلى حروب طائفية ومحلية، وهذا ما لا يريده الإمام الحسن ﴿؏﴾.
وهذا المعنى هو من أحد الأمور الهامة التي تلفتنا لأهمية أن نتدرب على كيفية التعرف على الإمام الحسن ﴿؏﴾ من الدائرة الأوسع، والتي تليق به وبمقامه الكريم، وهذه في الحقيقة سنة رسول الله ﷺ؛ ولبيان وإيضاح ذلك ولكي نستطيع أن نفهم ونطلق لعقولنا العنان، والتوسع في هذا الفضاء الرحب لمعرفة الإمام الحسن ﴿؏﴾؛ ينبغي علينا أن نقرأ ذلك على ضوء معرفة ماذا يريد منّا رسول الله ﷺ.
يقول الله ﷻ: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ سبأ: ٤٦، أيّ بمعنى أنكم إذا تكتلتم كجماعات بحيث يغذي الواحد منكم تفكير الآخر، ويشبعه فكرًا ضحلًا ضيقًا ضمن دائرة تفكيره المحدودة؛ بحيث يخلص الجميع إلى نتيجة انفعالية، هنا القرآن الكريم يحثنا أن نفكر ونخرج من ضيق تلك الدائرة كي لا نعيش جو الضوضاء والغوغاء(٨) كما يعبر عن ذلك أمير المؤمنين ﴿؏﴾؛ ولذا نقول إن التفكير الصحيح في فهم الإمام الحسن ﴿؏﴾ هو التفكير الذي فيه نهضة وقيام.

﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم﴾ أيّ أعظكم بأن تنهضوا جادين تنفضوا الكسل عن أنفسكم، وأن تقوموا لله ﷻ ولأجل الله ﷻ فقط؛ لا للمجتمع أو الحزب، ويعبر صاحب الميزان: ﴿أَن تَقُومُوا لِلَّهِ﴾ أيّ أن تنهضوا لله ﷻ ولوجهه الكريم، ﴿مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ﴾ كناية عن التفرق، وتجنب التجمع والغوغاء والمحيط الانفعالي، ويقول صاحب الميزان: فإن الغوغاء لا شعور لها ولا فكر، وكثير ما تميت الحق، وتحيي الباطل؛ ولذا إذا أردنا أن نفهم ونقرأ الإمام الحسن ﴿؏﴾ يجب أن نخرج من إطارنا الطائفي -كما أسلفنا- لأن الإمام الحسن ﴿؏﴾ كجده رسول الله ﷺ كونه يريد أن يحيي الأمة، وقد تمت الإشارة لهذا المعنى في أبحاث سابقة(٩) ونوردها هنا لنستفيد منها كشاهد ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ الأنفال: 24، فالملاحظ أن الآية الكريمة لم تقل إذا (دعوكما لما يحييكم)، بل قالت ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ وأردفت بالقول: ﴿إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ لأن الرسول ﷺ والإمام ﴿؏﴾ يدعوكم إلى حياة واسعة؛ تتناسب مع الحياة التي يعطيها الله ﷻ، تفتح للإنسان أبواب التوحيد، ليتعرفوا على دينهم وربهم، ولازم ذلك أن لا يسلب منهم الحلم بل أن يوسع دائرة حلمهم وعلمهم؛ وهذه آثار الحياة الواقعية؛ أما العقول الغوغائية والانفعالية فهي تقتحم وتخوض موجة الجهل، وتريد من القائد الانجرار ورائها أيضًا، وهذا الأمر هو ما نريد أن نقرره ونصل له من خلال هذا البحث.

الإمام الحسن ﴿؏﴾ والتعاطي مع التيارات والتكتلات

لقد سنّ الإمام الحسن ﴿؏﴾ لكل الأئمة من بعده كيفية العمل للدعوة الإسلامية في ظروف انتشار النفاق، أو التي تتسم بكثرة التيارات والصراعات؛ وكشاهد على ذلك نقول: إن الإمام الحسن ﴿؏﴾ لم يستغل عواطف النّاس وتفاعلهم بعد مقتل أمير المؤمنين ﴿؏﴾؛ حيث كانت حينها متعاطفة ومتهيجة ومؤججة المشاعر، وكان من اليسير على الإمام ﴿؏﴾ أن يتظلم ويرفع مظلوميته، وبل هو قادر على ذلك دون أدنى شك؛(١٠) فلماذا لم يتظلم الإمام الحسن ﴿؏﴾؟ وهو ما نراه الآن من بعض القيادين أو بعض المسيطرين على الساحة الإسلامية في بقعة من بقع العالم الإسلامي بالتظلم واستغلال تلك المظلومية واستثارة مشاعر النّاس وعواطفهم!

حتمًا كانت النّاس ترى في دم أمير المؤمنين ﴿؏﴾ تلك المظلومية، سبب للتحرك والاندفاع للطلب بدمه الطاهر، كما لا ضير في إظهار ذلك، كما أن الإمام الحسن ﴿؏﴾ كان قادرًا على ذلك، لكن هذه ليست سيرة عقلائية، سيرة من ينظر للمسلمين كافة، من ينظر للأمة كل الأمة، ومن ينظر للنّاس أجمعين.

لكن القيادة الحقة والحكيمة تأبى على نفسها أن تقود النّاس بنحو تجعلهم منفعلين غوغائيين إذ لا يمكن له أن يمحور حركة النّاس الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين -وإن كان أمير المؤمنين ﴿؏﴾ حتمًا يستحق ذلك- فإن إثارة التظلم وتشكيل التحزبات يقود كل المجتمع البشري للتفكك، ولا يشكل معولًا للبناء.

وقد كان هذا هو موقف رسول الله ﷺ؛ فبرغم طرد قريش له من مكة، ومتابعته بعد أن هاجر إلى المدينة، وكسر رباعيته الشريفة، فإنه ﷺ لم يتظلم ويشتكي منهم بعد أحد، بالرغم من استطاعته ﷺ تهييج مشاعر المسلمين للهجوم على المشركين في مكة، وإبادتهم  لكنه يعلم أن هذا الفعل لن ينصر الإسلام، أو يحيي المسلمين، كونه ﷺ مرسلًا للنّاس كافة ويسعى لإحيائهم كافة، ومن بينهم أولئك الذين كانوا قد طردوه وحاربوه؛ لذا نجده ﷺ يقول: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”(١١).
وهنا نلحظ كيف أن رسول الله ﷺ اتخذ من جهل هؤلاء وعدم علمهم، فرصة لتعليمهم وإرشادهم، فالجهل نافذة تفتح لدخول النور، وهو فرصة ووسيلة للهداية؛ كي يسمع الجاهل ما لم يسمعه قبلًا، وهذا الموقف من رسول الله ﷺ لو نقايسه بالرواية الواردة عن الإمام الحسن ﴿؏﴾ حينما مر عليه الشامي(١٢) ورآه راكب؛ فلعن الإمام الحسن ﴿؏﴾، ولم يرد عليه الإمام ﴿؏﴾، ثم ألتفت نحوه الإمام ﴿؏﴾ وتبسم، وسأله أيها الشيخ لعلك غريب، وشبّه عليك؛ فظل يتحنن عليه ﴿؏﴾ إلى أن هداه؛ فالهداية ليست دائمًا ببذل العلم، وإنما تكون أحيانًا بالعاطفة والمحبة والمودة الصادقة؛ هكذا ينظر لها الإمام الحسن ﴿؏﴾.

أما المظلوميات التي يستغلها الآخرون ويرونها كفرصة -حسب دعواهم – ليسترجعوا عبرها حقوقهم؛ فهذه لا تبني مجتمًعا فضلًا عن أمة؛ بل تسن للنّاس سنة التظلم والتظالم.

الإمام الحسن ﴿؏﴾ والمظلومية التي تفرّد بها

وفي هذا المقام قد يرد إشكالًا إذا كان التظلم غير محبب، وله هذه العواقب الوخيمة على المجتمعات؛ فلماذا يستحب أن نقرأ مظلوميتهم ﴿؏﴾؟ كما لدينا أدعية وزيارات يتطرق فيها أهل البيت ﴿؏﴾ لتلك المظلوميات؛ ولكن نقول:

أولًا: أن الغرض منها ليس تحريك مشاعر النّاس كي يأخذوا حق أهل البيت ﴿؏﴾ من باب كونهم مظلومين، وإن كان ذلك يستحق حتمًا، ولكن تلك ليست سنتهم -كما أسلفنا- وإنما من باب كون الحق المطلق لهم لا إلى غيرهم، كما أن سكوت الأئمة عن مظلوميتهم سيجعلها تعاد وتتكرر؛ لذا فإنهم صلوات الله عليهم الرحمة المطلقة، ورحمة الله ﷻ وسعت كل شيء، ولذا فهم ﴿؏﴾ يعلّمون الأمة؛ كي لا يقعوا في هذا الذنب مرة بعد أخرى، وهذا المعنى وارد ما مفاد قول الإمام الصادق ﴿؏﴾ عندما سئل لماذا لا تتحرك قال ﴿؏﴾: “أفكل يوم لنا واعية؟!”.

ثانيًا: كي لا نكون مع الظالمين، ونتصفى -تصفو أنفسنا- من الظلم.

وهنا نورد معنًى يصلح أن يكون شاهدًا على ما نقول: إن معنى مقولة أمير المؤمنين ﴿؏﴾ عندما ضرب بسيف ابن ملجم -عليه لعائن الله-: “فزت ورب الكعبة” وهذه لها معانٍ عدة

1- أيّ أنني وبهذه الشهادة قد بلغت المقام المحمود، أذ أنه ﴿؏﴾ لم يمت ميتة على الفراش، أو في المعركة مغلوبًا؛ وإنما قتل غيلة، وهذا النحو من القتل لهو الفوز الحق، والقاتل جبان وهو شجاع، كما وأنه بلغ مظلومية على مظلومية ﴿؏﴾، وهذا هو أحد معاني الفوز.

وهناك معانٍ أخرى وصحيحة أيضًا،

2- ما رمز إليه الشهيد الصدر الأول؛ فقال: “فزت” أيّ أنني ضمنت بهذه الشهادة استقامتي؛ فمنذ ولدت وأنا مستقيم، والآن وقد بلغت إلى هذا الموقع ولا زلت مستقيمًا لم انحرف.

3- وهناك معنىً ثالث دقيق أيضًا، وقد أشار إليه أحد المراجع الأجلاء في تفسير مقولة أمير المؤمنين بحيث يستل منه مظلومية الإمام الحسن ﴿؏﴾ فيقول ما مفاده : “فزت ورب الكعبة”؛ أيّ قد عافاني الله ﷻ من امتحان صعب سيكون بعد مدة وجيزة؛ وهو امتحان تجرع الغصة في إبرام الصلح مع معاوية -عليه لعائن الله- فالأمير صلوات الله كان يرى مكر معاوية وخديعته، وقد خطب في جيشه ﴿؏﴾ وقال: “وإني والله لأظن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم”(١٣) ومعنى، يدالون منكم أيّ يغلبونكم ويستخدمونكم، كالدلو فتصبح دولتهم الأساس، وتمسون فيها أذلاء لهم، فإذا ما وصلت الأمور لذلك -كما استشرف بذلك الإمام علي ﴿؏﴾-، وحدث ذلك؛ فهو بسبب تفرقكم عن حقكم، وخيانتكم لصاحبكم، ومعصيتكم إمامكم الحق، في مقابل اجتماعهم على باطلهم، وأداءهم الأمانة لصاحبهم، وإطاعتهم إمام الظلم والجور في الباطل.

وكما قال أمير المؤمنين ﴿؏﴾ هو ما قد حدث بالفعل، فقد كفاه الله ﷻ بهذه الضربة تلك الغصة، وهو المؤتمن على كرامة النّاس، فما كان ليرضى ﴿؏﴾ أن يحاربهم بنو أمية، أو أن يدخل مع معاوية في حرب لينتصر فيها معاوية بغدره ومكره، ويجر فيها رقاب هؤلاء، ما كان ليقبل لهم الذلة والمهانة، فيضطر لمصالحة معاوية، ولو صالح ﴿؏﴾ يكون قد وقع في ما لا يريد أن يقع فيه؛ وهذه غصة كبيرة قد تنتهي بالتشكيك فيه ﴿؏﴾؛ كفاها الله أمير المؤمنين ﴿؏﴾، وكفاه ذلك البلاء، وفاز كونه لم يقع في هذا الامتحان، وتجرعها ولده الإمام الحسن ﴿؏﴾، وكما هو معلوم إن أشجع القادة هو الذي لا ينساق وراء النّاس؛ فلا يكون مقودًا لهم، ويفعل ما يريدونه ويحبونه ويطلبون؛ وعلى ضوء ما قام به الإمام الحسن ﴿؏﴾ فقد ابتلي وتجرع الغصة تلو الغصة، ووقع في تشكيك القاعدة الأساس في صلاحيته وأهليته؛ وكأنهم ما سمعوا بقول الله ﷻ، وما نزل في كتابه الكريم، وأقوال رسول الله ﷺ في حقه؛ فيهجم عليه نفر من النّاس في المدائن، ويقولون له: “أشركت كما أشرك أبوك من قبل”(١٤)، بل حتى بعض المقربين الخلص من أصحاب أمير المؤمنين ﴿؏﴾؛ كحجر بن عدي حيث يدخل على الإمام الحسن ﴿؏﴾ فيقول له: “ليتك مت يا حسن ومتنا معك، فقد رجعوا مسرورين بما أحبوا، ورجعنا مقهورين”(١٥)، ويدخل عليه عدي بن حاتم وهو أيضًا من المحبين المخلصين فيقول له:“يا أبا محمد لقد أخرجتنا من العدل إلى الجور، تركنا الحق الذي كنا عليه، ودخلنا الباطل الذي أنكرته وأنكرناه، أعطينا الدني من أنفسنا ورضينا بالعيش الذي لا يليق بنا”(١٦)، ويدخل عليه سليمان بن صرد فيقول له: “السلام عليك يا مذل المؤمنين”(١٧)، ومع كل ذلك كان الإمام الحسن ﴿؏﴾ ولم يزل بحلمه وعالميته وإمامته التامة لا يفرض عليه أولئك ولا تفرض عليه تلك الانفعالات موقفًا  تُنفى به حكمته صلوات الله عليه.

 


  1. اللهم إني أحتسب نفسي عندك، فإنها أعز الأنفس. [بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 2 ص 142 و 162].
  2. عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جاء فيه: “وتمام اسمي واسم أخي علي وابنتي فاطمة وابني الحسن والحسين مكتوبة على سرادق العرش بالنور” [الهداية الكبرى: ١٠١ – الباب ٢]
  3. وهنا ننوه لأمر: نلاحظ بعض المؤمنين حين يفعل أمر ما يقول: هو كما صنع الحسن ﴿؏﴾، أو كما فعل الإمام الرضا ﴿؏﴾، ونقول إذ لا يصحّ للإنسان العادي أن يطابق تصرفاته مع المعصوم ﴿؏﴾ بأيّ حال، ويستشهد بفعله على فعل المعصوم ﴿؏﴾، نعم يصح لنا أن نستشهد بأفعالهم؛ لا أن نطابق أفعالنا بأفعالهم ﴿؏﴾، لأن الأئمة الأطهار ﴿؏﴾ -كالإمام الحسن ﴿؏﴾- مزكون من قبل الله ﷻ منذ ولادتهم المباركة، وقد تحدثنا عن ذلك في الجلسة السابقة.
  4.  ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا۞ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾ المعارج: ١٩-٢٠
  5.  ﴿وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا﴾ الإسراء: ١١
  6.  ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ الروم: ٥٤
  7. ولكني أردت بذلك صلاحكم وكف بعضكم عن بعض، فارضوا بقضاء الله وسلموا الأمر لله … ترجمة الإمام الحسن من الطبقات ص٧٩
  8. وَقَالَ (عليه السلام): فِي صِفَةِ الْغَوْغَاءِ هُمُ الَّذِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا غَلَبُوا وَإِذَا تَفَرَّقُوا لَمْ يُعْرَفُوا وَقِيلَ بَلْ قَالَ (عليه السلام): هُمُ الَّذِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا ضَرُّوا وَإِذَا تَفَرَّقُوا نَفَعُوا فَقِيلَ قَدْ عَرَفْنَا مَضَرَّةَ اجْتِمَاعِهِمْ فَمَا مَنْفَعَةُ افْتِرَاقِهِمْ فَقَالَ يَرْجِعُ أَصْحَابُ الْمِهَنِ إِلَى مِهْنَتِهِمْ فَيَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهِمْ كَرُجُوعِ الْبَنَّاءِ إِلَى بِنَائِهِ وَالنَّسَّاجِ إِلَى مَنْسَجِهِ وَالْخَبَّازِ إِلَى مَخْبَزِهِ. [باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام]
  9. إشارة للبحث العاشورائي لهذا العام والذي تم عرضه على قناة مأتم سليلة الكوثر (العقيلة تدعوكم لما يحييكم للاستزادة الرجوع للبحث في موقع لجنة فكر وذكر.
  10. هذا كما فعل معاوية حين حمل مظلومية مقتل عثمان، وصنع الحروب، وأم المؤمنين حين حملت نعل رسول الله ﷺ، وأججت حربًا من خلال ذلك. 
  11. ميزان الحكمة،ج٣، ص ٢٢٤٢
  12. ما روى المبرد وابن عائشة أن شاميا رآه راكبا فجعل يلعنه و الحسن لا يرد فلما فرغ أقبل الحسن (عليه السلام) فسلم عليه وضحك فقال: أيها الشيخ أظنك غريبا، ولعلك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعا أشبعناك، وإن كنت عريانا كسوناك، وإن كنت محتاجا أغنيناك، وإن كنت طريدا آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لان لنا موضعا رحبا وجاها عريضا ومالا كثيرا.
    فلما سمع الرجل كلامه، بكى ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إلي والآن أنت أحب خلق الله إلي وحول رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقدا لمحبتهم. [بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٤٣ – الصفحة ٣٤٤].
  13. وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته. [شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد – ج ١ – الصفحة ٣٣٢].
  14.  فقام إليه رجل من بني أسد من بني نصر بن قعين يقال له الجراح بن سنان فلما مر في مظلم ساباط قام إليه فأخذ بلجام بغلته وبيده معول فقال: الله أكبر يا حسن أشركت كما أشرك أبوك من قبل. [مقاتل الطالبين، ص ٤١]
  15. وقال حجر بن عدي: أما والله لوددت أنك مت في ذلك اليوم ومتنا معك ولم نر هذا اليوم، فانا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبوا. [بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٤٤ – الصفحة ٥٧].
  16. أن عدي بن حاتم (وهو أحد الخواص) جاء إلى الإمام الحسن (ع) وقال: «يا بن رسول الله، لوددت أني مت قبل ما رأيت!! أخرجتنا من العدل إلى الجور، فتركنا الحق الذي كنا عليه، ودخلنا في الباطل الذي كنا نهرب منه، وأعطينا الدنية من أنفسنا، وقبلنا الخسيس التي لم تلق بنا». [كتاب الأخبار الطوال.الدينوري ص ٢٢٠].
  17. قال: وذكروا أنه لما تمت البيعة لمعاوية بالعراق، وانصرف راجعا إلى الشام، أتاه سليمان بن صرد، وكان غائبا عن الكوفة، وكان سيد أهل العراق ورأسهم. فدخل على الحسن، فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال الحسن: وعليك السلام، اجلس. لله أبوك، قال:
    فجلس سليمان، فقال: أما بعد، فإن تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مئة ألف مقاتل من أهل العراق، وكلهم يأخذ العطاء مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم، سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العهد، ولا حظا من القضية، فلو كنت إذ فعلت ما فعلت، وأعطاك ما أعطاك بينك وبينه من العهد والميثاق، كنت كتبت عليك بذلك كتابا، وأشهدت عليه شهودا من أهل المشرق والمغرب إن هذا الأمر لك من بعده، كان الأمر علينا أيسر، ولكنه أعطاك هذا فرضيت به من قوله، ثم قال: وزعم على رؤوس الناس ما قد سمعت، إني كنت شرطت لقوم شروطا، ووعدتهم عدات، ومنيتهم أماني، إرادة إطفاء نار الحرب، ومداراة لهذه الفتنة، إذ جمع الله لنا كلمتنا وألفتنا، فإن كل ما هنالك نحت قدمي هاتين، ووالله ما عنى بذلك إلا نقض ما بينك وبينه، فأعد للحرب خدعة، واذن لي أشخص إلى الكوفة، فأخرج عامله منها، وأظهر فيها خلعه، وانبذ إليه على سواء إن الله لا يهدي كيد الخائنين. ثم سكت. فتكلم كل من حضر مجلسه بمثل مقاتله، وكلهم يقول: ابعث سليمان بن صرد، وابعثنا معه، ثم ألحقنا إذا علمت أنا قد أشخصنا عامله، وأظهرنا خلعه. [كتاب الأخبار الطوال لدينوري – ص ١٤١].

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 114٬685 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها