بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ الأنفال:24.
آخر من بقي في معسكر الحسين ﴿؏﴾، أخوه وابن والده وحزام ظهره، الأمان للمخيمات، ولعقيلة بني هاشم ﴿؏﴾، وللأطفال؛ العباس بن أمير المؤمنين ﴿؏﴾.
كان العباس ﴿؏﴾ بالنسبة للحسين ﴿؏﴾ كفقرات الظهر التي يتقوم بها الإنسان ويستند عليها كي لا يسقط، فكل فقْد ووداع يسكنه وجود العباس ﴿؏﴾، وأما بعد رحيله ﴿؏﴾، لم يعدّ في الحسين ﴿؏﴾ جرحٌ موجع؛ فقد بلغت جراحات العباس ﴿؏﴾ في الحسين غاية الوجع، حيث هان عليه كل جرح مصيبة.
هوّنت يا بن أبي مصارع فتيتي | والجرح يسكنه الذي هو آلم |
مرتكزات سابقة
المدعى:
الصدّيقة الصغرى سلام الله عليها لم تكن صرف مشارك في هذه الملحمة الكربلائية، وهذا الإحياء بل كانت شريكة لأخيها الحسين ﴿؏﴾.
وقد تقدم الحديث في المحاضرات السابقة حول ما يثبت صحة هذا المدعى ويمكننا إجمال ذلك في:
١ السيطرة على الحواس والانفتاح على المعارف
مما هو بيّن أن هناك ارتباط بين السيطرة على الحواس والانفتاح على المعارف؛ إذ أن إيقاف الحواس على الحق مما يفتح للإنسان أبواب العلوم والمعارف، وكمثال لتقريب الفكرة؛ نجد أن (النائم) يستطيع أن يرى في المنامات الصادقة وفي غير الصادقة ما لا يراه (المستيقظ)، وقد يكون ذلك (المستيقظ) جالسًا إلى جانب هذا (النائم) الذي يتمثل له -في تلك اللحظة- عوالم الغيب، بينما هذا (المستيقظ) وكونه قد فتح حواسه الظاهرية؛ لذا فهو لا يرى ما يراه ذلك (النائم)؛ لأن (النائم) بعدما أغلق بصره وسمعه وأوقفهما على الباطن، أشرف على علوم ومعارف وحقائق، لا يدركها الإنسان في حال اليقظة، فإذا كان الإنسان بعفته وباختياره يستطيع السيطرة على حواسه، سوف يشرف على جزء من العلم النافع، وإذا ما بلغ مرتبة عالية جدًا من العفاف، وكان صادقًا في القول وفي الفعل، حتمًا سيتمثل له عالم الغيب وسيشرف على العلوم والمعارف، وهذا مما قد تمت الإشارة له في المحاضرات السابقة.
٢ العفة مؤهل لتلقي الإلهامات
وكما ورد في الأثر فإن الصدّيقة الزهراء ﴿؏﴾ وفي آخر لحظات حياتها المباركة سألت أمير المؤمنين ﴿؏﴾: هل عهدتني كاذبة؟ (١)هي لا تعني (الكذب) بحال في القول أو الفعل -حاشا لله؛ إن انقطاع الحواس عن المشوشات الخارجية، هي التي تجعل الزهراء ﴿؏﴾ محدّثة وتتلقى الوحي(٢).
كذلك حال كل إنسان عندما تعفَّ نفسه سيكون مؤهلًا لتلقي الإلهامات، وبل وتُعدّ العفّة هي المسألة الأهمّ بالنسبة للمرأة؛ والتي يمكن لها أن توصلها لذلك، وتبقي لديها حالة الإلهامات فاعلة وناشطة؛ والحجاب مظهرًا لها؛ ولذلك لا يحق ولا يصح قول بعض النساء كونها عفيفة في الباطن -ومظهرها لا يحكي حال العفاف- وتدعي أنه لا يلزم منها التقيد بالستر والحجاب، فهذا حال متناقض! إذ أن هناك ملازمة بين الظاهر والباطن لا انفكاك بينهما؛ يلزم أن تنعكس إحداهما على الأخرى.
التمثلات في كربلاء:
إذا قمنا بدراسة معمقة لأفكار ومبادئ الثورة الحسينية، سنجدها وقد مُلئت بعالم التمثلات والإلهامات، فما حدث للإمام الحسين ﴿؏﴾ في أول باكورة وانبثاق الحركة الحسينية -كما تنقله كتب السيرة- أنه ﴿؏﴾ وعندما ذهب ليودع جدّه رسول الله ﷺ، فقد تمثل له رسول الله ﷺ حيث أمره بالخروج(٣).
يقول الشيخ جوادي الآملي:
هذا التمثل لا يعني أن الإمام الحسين ﴿؏﴾ قد رأى جدّه المصطفى ﷺ في المنام وعالم الرؤيا، بحيث انقطعت حواسه تمامًا! إذ لم ينم ﴿؏﴾، فالنوم كما هو معلوم أحد نواقض الوضوء، وهذا التمثل الذي حدث للإمام الحسين ﴿؏﴾ لا يؤدي لنقض الوضوء.
ففي واقع الحال هي رؤية وحيانية؛ فقد تمثل رسول الله ﷺ للإمام الحسين، وإن هذا التمثل شبيه بالتمثل الذي يحدث للإنسان المسيطر على تمام حواسه، حين يغض سمعه وبصره عن هذا العالم.
ينقل الشيخ جوادي الآملي عن صاحب الميزان ما يفيد ذات المعنى حيث يقول: إن ما رآه الإمام الحسين ﴿؏﴾ حين وصوله كربلاء، حيث قال لأصحابه: “القوم يسيرون، والمنايا تسير إليهم”(٤)، -والقول لصاحب الميزان-: إذ ليس معنى ذلك أن الإمام الحسين ﴿؏﴾ قد نام وانقطع تمامًا عن هذا العالم! بل في الحقيقة هذه تمثلات للإمام الحسين ﴿؏﴾، حيث يكون يقظًا عندما حدثت له.
كما أنه ومن خلال التتبع سنجد أنه وبعد شهادة الحسين ﴿؏﴾ بقيت كل كربلاء ملحمة وحيانية، فهي ملأى بالتمثلات، والأحداث الكبرى التي جرت في كل العرصات، تجعلنا لا نقبل أن يكون الهدف النهائي لهذه الثورة هو صرف إسقاط عرش يزيد -وإن كان هذا غرض سياسي ومقصود وقد حدث بالفعل- لكن الهدف الغائي والنهائي والأصيل لها؛ هو رجّ الضمائر، وإيقاظ الفطرة، وتثبيت التوحيد والولاية في قلوب النَّاس وعلى مر الأزمان.
من أولى من زينب ﴿؏﴾:
لو تأملنا في أصحاب الإمام الحسين ﴿؏﴾ -مع عظيم شأنهم- لوجدنا هناك مَن لو لم يكن في كربلاء لبقيت كربلاء وأركانها قائمة، كالفرق بين الركن والواجب في الصلاة، فالسجود حال الصلاة يُّعدّ من الواجبات، أيّ لو نسي المكلف إحدى السجدتين، أو سجد ولم يأتِ بالذكر، أو كبّر ولم يقرأ الحمد وركع ونسي ذلك، ولو تذكر بعد حين من الزمن! فصلاته لا تُعدّ باطلة، ولا يجب عليه الإعادة؛ فهذا الواجب وإن كان جزءً لا يتجزأ من الصلاة، لكنه لا يذهب بماهية الصلاة؛ في مقابل ذلك نقول: هناك من كان ركنًا في كربلاء لا يمكن أن تتلى كربلاء بدونه(٥).
وإذا ما بحثنا في شخصيات الركب الحسيني، والتي كانت قد أُعدت واستعدت وتهيأت لتلقي هذا الدور الوحياني، لن نجد هناك من هو أولى مِن زينب الكبرى ﴿؏﴾، بنت رسول الله ﷺ، وابنة الصدّيقة الزهراء وعلي ﴿؏﴾، إذ لو كان هناك من يسمع ويرى؛ لن نجد من هو أكمل وأكثر أحقية من السيّدة زينب ﴿؏﴾، التي كانت ترى وتسمع بكاء الحيطان والحيتان كما جاء في الرواية، أن يناط بها هذا الدور، فتكون شريكة الإمام الحسين ﴿؏﴾.
فعن أبي عبدالله الصادق ﴿؏﴾: “أن الإمام الحسين ﴿؏﴾ لما قضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن ومن يتقلب في الجنة والنار من خلق ربنا وما يرى وما لا يرى”(٦).
وقد يكون من الطبيعي جدًا لو سمع كل النّاس بكاء الحيطان والجدران والحيتان والجن والإنس ومن في البحر ومن يسبح في الأفلاك وفي السموات العُلى، فإنهم سيؤمنون وبنحو قسري ولن يكون للعقيلة زينب هذا الدور الإحيائي(٧).
زينب ﴿؏﴾ ومقام الإلهام
وكما أسلفنا وبيّنا فإن كربلاء ما كان ليكون لها هذا الأثر وهذا الدور الإحيائي؛ لو لم تكن زينب ﴿؏﴾، ليست واجبًا بل ركنًا وشريكًا وفاعلًا مع أخيها الحسين ﴿؏﴾، لا يمكن بحال حذفه أو إلغائه، ولو دققنا في قول السيّدة زينب ﴿؏﴾ في مجلس الطاغية يزيد: “فو الله لا تميت وحينا”(٨)، قد يتبادر للذهن ويتصور إنما كانت ﴿؏﴾ تقصد بذلك الوحي النازل على رسول الله ﷺ، وعلى أمير المؤمنين ﴿؏﴾، والصدّيقة الزهراء المحدثة ﴿؏﴾، لكن كما نعلم فإن الأصل في المباني الأصولية أخذ الكلام على نحو الظاهر، وظاهر “وحينا” أن العقيلة ﴿؏﴾ تشير إلى نفسها ضمن أهل هذا البيت ﴿؏﴾، فالوحي جزء من وجودها ﴿؏﴾.
ولتوضيح ذلك نقول هناك نوعان من الوحي: التشريعي والإلهامي
الوحي التشريعي:
الذي ينزل بالتشريعات الإلهية، وهو زماني، وقد انقطع بموت خاتم الأنبياء والمرسلين ﷺ، “انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك من النبوة والإنباء”(٩)، وهذا النوع من الوحي يتنزل على الأنبياء والرسل فحسب.
الوحي الإلهامي:
فهو سرمديّ لا ينقطع البتة، وهذه مسألة فضلًا عن كونها أساسية فهي عرفانية -وهو وجود من يتلقى الوحي والإلهام، ويتلقى ما هو في عالم الغيب، ويفاض عليه من السماء، وهذا الإنسان الملهم يكون على مستويات؛ فعلى مستوى عالٍ، يكون الإمام المعصوم ﴿؏﴾، ولولاه لساخت الأرض بأهلها؛ أيّ إن استمرار هذه الحياة على هذه البسيطة من الأرض والسماء والأفلاك والأملاك مرتهن بوجوده المبارك، وحسب كونه درجات ومستويات؛ ففي مستوى ثانٍ تكون زينب ﴿؏﴾، حيث أنه ومما لا شك فيه أن التبليغ والإعلام لبيان وأهداف حركة الإمام الحسين ﴿؏﴾ مسألة هامة، وقد قامت بها السيّدة زينب ﴿؏﴾، ولكن هذا الدور؛ علمي وفكري وعقائدي ذو بُعد بشري؛ كان من الممكن أن يناط بغير زينب ﴿؏﴾؛ لكن زينب ﴿؏﴾ الملهمة والمحدثة، والتي يتمثل لها الوحي بحيث تستطيع أن توجد أمرًا روحيًّا ومعنويًّا؛ وتقوم بدور إلهامي ووحياني يتمثل في إحياء الأمة ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ المائدة: ٣٢، وإدخالهم في جنة الحسين ﴿؏﴾، وزحزحة الضمائر عن نار بني أمية وجحيمهم؛ ليبقى هذا الحدث أبديّ وسرمديّ لا يتغير ولا يتبدل في نفوس المؤمنين، وتبقى تلك الجذوة والحرقة في القلوب مستعرة لا تنطفئ أبدًا؛ حرقة وحيانية تدلل على أن هذه المصيبة وصاحب هذا المصاب هو فحسب من يوجب إيجاع القلوب والضمائر لأجله وبكاءه وندبته؛ فقد جاء في زيارة الناحية المقدسة المنسوبة للإمام (عج): “لأندبنك صباحًا ومساءً”(١٠)، ففي هذا البكاء دليل على صدق الإيمان؛ فكما جاء في الرواية: “من بكى على الإمام الحسين ﴿؏﴾ لم تبكِ عيناه يوم القيامة”(١١)، وكما جاء “إن للحسين حرقة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا”(١٢).
الإماتة في مقابل الإحياء
وكما أن الأشياء تعرف بأضدادها فحديثنا سيكون عن الإماتة؛ أيّ الإهلاك، وهو مقابل الإحياء؛ فإن من أهم التحديات التي تحيط وتحاك ضدّ أيّ مجتمع أو ضد أيّ إنسان في كل زمان ومكان؛ هو إهلاك الحرث والنسل، غير -الجسم والبدن-؛ أيّ الروح والفكر والعقل من خلال إغواءه وتضليله، يقول ﷻ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ۞ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ البقرة: ٢٠٤- ٢٠٥.
وكما هو معلوم فإن الأمة الإسلامية والمجتمعات المؤمنة بالعموم تمر بتحديات كثيرة وكبرى؛ لكن أشدّها ودون منازع أن يتسلط عليها ﴿أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾، ولو أعجب النّاس قوله، ويصبح عليها متوليًا ﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ﴾؛ أيّ متمكنًا من الولاية؛ وكونه يخفي عداوته، يكمن الخطر.
ولو تساءلنا من هم الحرث والنسل؟ في الأعم الأغلب هم الأبناء من فئة الشباب؛ فهم المستهدفون غالبًا في مثل تلك البرامج أكثر من غيرهم، وهم الفئة التي يراد إهلاكهم وإهلاك أرواحهم وإفساد عقولهم وعقيدتهم، فكما هو ثابت فإن الشباب ومرحلة الفتوة تمتاز عمومًا بمزايا وملكات تجعل الشاب مؤهلًا لبلوغ الكمالات والترقي فيها؛ ومنها الوثبة وعلو الهمة؛ إلا أن الشباب قد يمتاز بعدم نضج ملكة الحُلم بعد، والعجلة عمومًا؛ فكما أنه يرى أن ليس لديه متسع من الوقت، هو يريد الحصول على كل شيء وعلى نحو السرعة، وفي ذات الوقت قد تجد البعض منهم يتمنع عن قبول وتحمل المسؤوليات، بل وقد يرفض العلم الذي يضعه موضع المسؤولية؛ بل وقد يرفض الدّين الذي يدعوه لتحمله مسؤوليته الفردية والاجتماعية، ويحثه على مجاهدة النفس والأهواء؛ ولذلك نجد أنه يغدو هدفًا للعدو أكثر من غيره؛ وذلك من خلال صناعة الشعارات-المزيفة- وزخرف القول التي تعجب تلك الفئة، بل وقد تروق للإنسان المؤمن كذلك؛ من خلال الإعداد لبرامج جذابة ولو بدت مفيدة؛ فإن هدفها غير المُعلن هو إهلاك الحرث والنسل؛ والتي قد لا تكلف العدو المال والجهد والوقت، لكنها تؤتي أكلها وتحقق الأهداف والغايات المنشودة.
فهذه الشعارات وإن بدت جميلة في إطلاقها؛ كالحرية، والعدالة، والمساواة، والفن، ووحدة الأديان، وتصحيح التراث، والتجديد الديني؛ لكن في واقعها صنعت وصممت لهدم وضعضعة الحياة والدّين معًا، لقد وضعت الشعارات وصممت تلك البرامج بنحو تدغدغ المشاعر وتجذب نحوها كلّ سامع، ولا يقتصر الأمر على مسألة صناعة الشعارات فحسب؛ وإنما يمتد ليشمل جميع أنماط الحياة.
وهذه مسألة قد أشار لها القرآن الكريم في أول الدّعوة النبويّة؛ فعندما جاءت قريش لرسول الله ﷺ، وكانوا قد قدموا له عدّة عروضات، عبّر عنها القرآن الكريم ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ القلم: ٩، بمعنى أن لا مانع لدى مشركي قريش أن يقوم رسول الله ﷺ بما يعتقد به، ولكن على أن يؤديه بنحو رخو وليِّن –إن صح التعبير- أيّ عبادة -صلاة وصيام- بلا روح العبادة، وحجاب يخلو من العفّة والاحتشام.
كما أن الدعاوى كالتي يرددها البعض بأن الدّين لا يعادي أحد، قد تكررت ولا تزال تُكرر، وهذه في الحقيقة تقابل وتعارض النظرة القرآنية ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّاللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ المجادلة: ٢٢، إذ يجب أن يكون هناك عداوة واقعية؛ ف (الموادَّة) ﴿يُوَادُّونَ﴾ هي العلاقة بين طرفين؛ بخلاف (المودة) التي تكون من طرف واحد، والمعنى: كما يجب أن لا تكّن للعدو مودة، أيضًا لا تُطمع فيك عدوًا وتمنحه فرصة أن يكّن لك مودة؛ وهذا هو معنى (البراءة) في الواقع؛ أيّ: كما تكّن الكره والبغضاء للعدو في نفسك، يجب أن تجعل العدو يبادلك مشاعر الكراهية تلك، وهذا ما نص عليه القرآن الكريم ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ الممتحنة: ٤، ولذا فنجد إن مراجعنا العظام واعون لهذا الأمر، ولذا فهم ودائمًا ما يؤكدون القول في قلب العدو ووجهه بأننا أعداء ولا يمكن أن تكون بيننا وبينكم أيّ نحو من المودة والعلاقة.
من مظاهر الإماتة تمييع العقل العملي
ولذا يتعين على المؤمن الالتفات لشعارات أعداء الله ﷻ ورسوله ﷺ ومدعاهم وتظاهرهم بالمحبة؛ مما يمكن أن نطلق عليه بالشعارات والحرب الناعمة، وهذا لا يعني أن نمتنع عن التعاملات التجارية كنحو البيع والشراء معهم؛ فالتجارة والمتاجرة لا تكوِّن محبة؛ بل يجب التعامل معهم على أنهم غريم؛ في حين يجب الالتفاف لدغدغة العدو للمشاعر، وسيطرته على الأدمغة والتي تمرر الكثيرمن الأفكار الفاسدة والتي قد تنتهي بالسيطرة على العقل العملي.
وبالرغم من وجود الدعوات الإلحادية إلا أنها لم تعدّ تؤثر كما هو أثر تمييع العقل العملي.
ولبيان ذلك نقول:
كانت مجتمعاتنا الإسلامية في السابق تعيش حالة سوء ظن من المستشرقين والأجانب، وربما مع كل إنسان لا يدين بالدّين الإسلامي؛ فكل ما يقدمه ويمرر من خلاله يخشون التعاطي معه؛ فننطلق معه من حيثية كونه مستشرق؛ لذا فهو يدأب على دراسة ديننا وثقافتنا وآدابنا وأعرافنا وتاريخنا، كما يدرس عناصر القوة والضعف لدينا لينفذ لنا منها؛ وهذا الحاجز ربما هو ما شكل سور أمان -فالأصل هو عدو ولا يريد بنا الخير- ولكن أريد لهذا الحاجز أن ينكسر؛ بل أصبحت الحركة عكسية؛ فكما كان هناك مستشرقون في السابق؛ أضحى لدينا اليوم مستغربين.
فعندما نرسل أبناءنا وبناتنا للدراسة في الغرب؛ رويدًا رويدًا ومع مرور الزمن بدأ هذا الحاجز النفسي بالإنكسار ومن ثم الزوال سيّما بين فئة الشباب، وباتت تلك الحضارة الغربية تتزين بزينتها وتغري بزخرفها؛ وتزول معها مكارم الأخلاق؛ فكل قبح أخلاقي وسلوكي يزول بمجرد النظر إليه وعدم غض البصر عنه.
وبالرغم من كون الغرب يدَّعون الأخلاق السلوكية؛ ولكن آلياتهم وأهدافهم تستخدم لغايات أخرى؛ تقول إحدى المفكرات: إن الأخلاق الغربية تستخدم للتبرير للأذهان، وهي في الحقيقة تدعم فكرة تفوق الغرب على المجتمعات الإسلامية في كل شيء.
لذا بتنا نستورد من الغرب كل شيء حتى الأخلاقيات وهذه هي الاستراتيجية التي عملوا عليها.
وتضيف تلك المفكرة: آخر مفاد دعاوى الغرب أنهم علّموا المرأة في الشرق كيف تغرس الفضائل الغربية المسيحية في أطفالها، وهذا مما اتفق عليه المجتمع الغربي أجمع، وعلى اختلاف أطيافهم رجالًا ونساءً، ومستعملين وسواحًا وفنانين ومبشرين وباحثين؛ فقد اجتمعت كلمتهم على رأي واحد مستندًا إلى قاعدة فكرية تقول: لا يمكن أن تترقى المرأة المسلمة بتعاليم غير تعاليم المسيحية؛ لذا فقد ارتأوا أن أحسن شيء هو أن تبتنى أخلاق المسلمين وفق أخلاق المجتمع الغربي.
ولسنا هنا في معرض الحديث عن فلسفة الأخلاق؛ لكننا نتعجب كيف تغيرت قناعات النّاس وأعيد تشكيل بنائها الديني والفكري والثقافي والأخلاقي؛ فنرى كيف تمرر إدعاءات وافتراءات ويروج لها نحو قولهم: إن الغرب المسيحين عند دخولهم الكنيسة يدخلون بهدوء وسكينة؛ بينما يدخل الفرد المسلم في بلاد العرب للأماكن المقدسة بفوضى وصراخ، يتحدث بصوت عال. وهناك من يصدقها ويرددها، وهنا نقول ونؤكد: إن كل هؤلاء الفوضويون لا يمثلون الدّين الإسلامي ولا تعاليمه وشريعته ولا بقدر أنملة، ولا يمثلون منهاج أهل البيت ﴿؏﴾؛ فالقرآن الكريم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ الحجرات: ٢، ومن لا يطع ولا يلتزم بهذا الأدب فهو في الحقيقة خرج عن طاعة ما جاء في الآية الكريمة.
كما أن هناك مسألة أساسية وجوهرية قد يغفل عنها الكثير؛ وهي أن تركيز الغرب قائم ومبتني على حقوق الإنسان لنفسه؛ حقه كطفل على والديه، حقه في التعليم وحقه الفكري وحق النقد، والكلام، وإعمال الرأي، وغيرها من تلك الحقوق التي تتمحور جلها حول الذات والأنا، وتعزز النزعة النرجسية لدى كل إنسان.
ومما يؤسف عليه اليوم أن نجد بعض الشباب اليافع المؤمن لم يعدّ ليطيع والديه، ولا يقدم احترامه لعمّه، أو خاله، وجاره، كما لا يؤدي حقوق أحد؛ لأن روحه وفكره قد أشبعا وتعبأ بحقه هو لا غير، بينما الإسلام يبني في المؤمن أن يغض طرفه عن حقوقه مقابل حق أخيه المؤمن، وفي مقابل ذلك هو يحثه على أخذ حقوقه من الطغاة؛
فالدّين الإسلامي دائمًا ما يحثّنا على أداء الحقوق وتحمل المسؤوليات نحو الآخرين واتجاه المجتمع في آن معًا؛ فالوالدان لهما حقوق وعليهما واجبات، والزوج والزوجة لهما حقوق كما أن عليهما واجبات أيضًا تجاه بعضيهما، كذلك الأولاد، الجار، المؤمن، النّاس عمومًا الجميع لديهم حقوق وعليهم واجبات يكفلها الشارع المقدس والدّين الإسلامي(١٣).
وهنا نخلص لحقيقة مفادها؛ إذا ما تفتقت في الإنسان محورية الأنا وغلبت عليها النزعة النرجسية؛ أضحت سهام بيد إبليس؛ وغدا الإنسان مرتعًا للشيطان؛ لأن العقل العملي هو من يضع قدم الإنسان على معرفة الحسن والقبح العقليين، وهذا هو معنى الإلهام، وإذا ما أُغلق عليه بات الإنسان يتلقى من الشيطان.
النزغ والإلهامات الشيطانية
ولنطرح سؤال يتكرر على الألسن؛ أين هو الشيطان؟
وفي معرض الجواب نريد أن نلفت لمسألة مهمة جدًا يؤكد عليها القرآن الكريم أن النفس الإنسانية ملهمة للتقوى والفجور﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ الشمس: ٨، ويقول ﷻ: ﴿وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلْإِنسَٰنِعَدُوًّا مُّبِينًا﴾ الإسراء: ٥٣، فكما أن الشيطان ينزغ بين عموم النَّاس؛ تتحدث الآيات الشريفة عن نزغ(١٤) الشيطان لرسول الله ﷺ: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ الأعراف: ٢٠٠، وهناك فرق بين نزغ الشيطان لعموم النَّاس وبين نزغه لرسول الله ﷺ، فهذا ليس معناه أن الشيطان يمكنه أن ينزغ في روح رسول الله ﷺ أو يؤثر في نفسه ﷺالشريفة؛ فالشيطان لا يمكن أن يصل أو يؤثر في باطن رسول الله ﷺ؛ كما لا يمكن التصور بحال من الأحوال أن رسول الله ﷺ، والذي لديه مشروع إلهي وإصلاحي وروحي ومعنوي واجتماعي مع الناس في الخارج؛ وثم يمكن القول أن هناك من يمكنه أن يفسد مشروعه ﷺ الإلهي هذا عبر التأثير في باطن رسول الله ﷺ.
ففي الآيات السابقة كما نجد أن هناك تأكيد على أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين، هناك تأكيد على أن الشيطان ينزغ أحيانًا في مشروع رسول الله ﷺ؛ بمعنى أن الشيطان إذا لم يؤثر في باطن المؤمن وينزغ فيه، فهناك طرق أخرى يلجأ إليها ويحدثها في الخارج؛ وما يحدثه النَّاس من إفساد في الخارج هو نزغ لمشروع رسول الله ﷺ.
ومثال ذلك قول نبي الله أيوب ﴿؏﴾: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ ص: ٤١، إن معنى مس الشيطان لأيوب ﴿؏﴾ وهو النبي المعصوم مسّه في باطنه؛ أيّ شوه بعض النَّاس مشروعه الإلهي.
فالشياطين لا تنفك وهي تحوم حول الإنسان ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ مريم: ٨٣، وقد منحهم الله ﷻ تلك المكنة لحكمته ﷻ في إيقاع البلاء والامتحان على النّاس.
ومما يوضح مصاديق نزغ الشيطان وتأثيره في الخارج على مشروع رسول الله ﷺ ما يحدث من قبيل إثارة الفتن والمسائل الإلحادية والشبهات وغيرها من تشويه لصورة المؤمنين، والعلماء والمراجع العظام، والاستغناء عنهم ووضع البدائل غير الصالحة وغير المؤهلة، إن أمثال تلك الثقافة والتي باتت وللأسف رائجة في المجتمعات الإيمانية، هو نوع من الحرب الناعمة والتي يتأثر بها الناعمون -من النساء والصبيان والشباب-، وإن كانت خطط الأعداء تستهدف الجميع؛ لكن تلك الفئة هي الأسرع تأثرًا في الغالب الأعمّ؛ ففي الحقيقة هذا يُعدّ نزغًا وعبثًا في المشروع الإلهي لرسول الله ﷺ(١٥).
فمن ذا الذي يستطيع أن يُذهب بكل مخططات الشيطان؟!
وهنا علينا أن ندرك أننا لسنا بأوعى من رسول الله ﷺ والذي يلقي الشيطان في أمنيته ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَامِنقَبْلِكَ مِن رَّسُولٍۢ وَلَا نَبِىٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلْقَى ٱلشَّيْطَٰنُ فِىٓ أُمْنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِى ٱلشَّيْطَٰنُ ثُمَّيُحْكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ الحج: ٥٢، ﴿فِىٓ أُمْنِيَّتِهِ﴾، ولا يعني ذلك في أمانيه الباطنية، وإنما في الواقع الخارجي، أيّ في مشروعه الإلهي، فهل نظن أننا بعيدون عن كل هذا أو إننا مستثنون عما يحاك ضدنا.
وقد نلاحظ ونشاهد كيف أن الشياطين قد تمكنوا من طرح أمور بعضها عجيب وللأسف؛ وقد تمكنوا من تمريرها على مجتمعتنا الإيمانية وللأسف؛ كدورات الطاقة النفسية والبرمجة اللغوية والعصبية، وما هذا إلا غيض من فيض، وكذلك ما حدث فيما يتعلق بالابتعاث وقد تم التحذير من ذلك سيما أننا الآن نرى آثار ذلك، حين لم ينفع التحذير؛ لذا يتوجب علينا أن نلتفت لهذه الحرب الناعمة التي يراد منها إهلاك الحرث والنسل، كما يلزم منا أن نكون على قدر من الوعي، وأن ندرك خطرها المحدق والمتربص بنا وبشبابنا؛ فإن قطع حبائل الشيطان بأشكالها وأنواعها لا يتصور أنها مسألة بهذه البساطة والسذاجة والسطحية.
لا سبيل لنزغ الشيطان على العباس ﴿؏﴾
بملاحظة الروايات التي تتحدث عن العباس ﴿؏﴾ وإخوته من كونهم كانوا قد تلقوا عرضًا -قد يُعدّ مغريًا- من قِبل جيش عمر بن سعد، وذلك قبل المعركة بيوم؛ حيث قدم عليهم الشمر ونادى: أين بنو أختنا العباس وأخوته، فلم يجبه أحد، ولكن الإمام الحسين ﴿؏﴾ طلب من العباس ﴿؏﴾ أن يجيب عليه، فعرض عليهم الأمان -وهو أشبه بما نعدّه اليوم بحرب ناعمة- فأجابه العباس ﴿؏﴾: “لعنك الله ولعن أمانك تُؤمنّا وابن رسول الله لا أمان له و تأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء” (١٦).
إن العباس ﴿؏﴾ وبجوابه هذا قد وغز قلب عدوه بغضًا وسخطًا، وقطع العقد كاملًا بينه وبين عدوه؛ فهو لا يُطمع عدوه في نفسه، بل بجوابه هو يرهب عدو الله ﷻ وعدوه، وفي مقابل ذاك الصد للعدو يكون العباس ﴿؏﴾ قد أضرم نيران العداوة من قبل جيش بني أميه؛ كونه ممن لا يساوم ولا يفاوض، وبذلك فقد أدرك العدو أن التعامل مع العباس ﴿؏﴾ أشدّ وأقسى، وهنا نقول: إن مثل العباس ﴿؏﴾ ممن لا ينخدع بحبائل الشيطان ومكائد أعداء الله ﷻ؛ يصلح أن يكون بحق حاملًا للواء الحسين ﴿؏﴾ في معركة الحق ضدّ الباطل﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ الأنفال: ٦٠.
ولهذا نجد أن لحظات وداع العباس ﴿؏﴾ على الحسين ﴿؏﴾ تُعدّ من اللحظات الحاسمة والقاسية جدًا على قلب كليهما، وهذه مسألة جديرة بالتأمل: حيث سيرى الناظر البصير أن الحال في معسكر الإمام الحسين ﴿؏﴾ ككل، وخصوصًا بين الحسين ﴿؏﴾ وأخيه العباس ﴿؏﴾ مما يوجع القلب؛ فقد بلغ الحال بالإمام الحسين والعباس بحيث يكون البراز والقتال وحرّ السيوف وقطع الأيديّ أقل ألمًا وضراوة وربما أقل توجعًا وعذابًا من المخاض الذي كانا فيه ﴿؏﴾، ولذا -فكما ينقل في السيرة وأغلب الكتب التحقيقية- كان الإمام الحسين ﴿؏﴾ يرجئ خروج العباس ﴿؏﴾ للمبارزة.
إن أهم ما تفرّد به العباس بن أمير المؤمنين ﴿؏﴾ في معركة الطفّ -كما يذكر أهل الاختصاص- ليس في قتلته المفجعة؛ بل في ألم تلك اللحظات الأخيرة التي أمضاها بعد شهادة جميع أهل بيته، فمن المحن التي تجرعها العباس ﴿؏﴾؛ أنه لن يبقى لهؤلاء النسوة والأطفال -المذعورون من وقع السيوف وضجيج الأعداء، والعطش الذي كان قد قضى عليهن جميعًا، وعلى رأسهن زينب الكبرى ﴿؏﴾، والذي لم يكن لهن من يداريهن غير العبّاس ﴿؏﴾- من خيار غير ترقب التشريد والأسر والرعب، والذي قد أحاط بهن من كل جانب.
ولربما كانت أكبر محنة تذيب وتفتت قلب العباس ﴿؏﴾ أنه كان يشاهد وحدة أخيه الحسين ﴿؏﴾، وهو يسمع نداءه “واقلة ناصراه”؛ لذلك وفي تلك اللحظات كان النظر إلى عيني العبّاس ﴿؏﴾ من أشدّ الآلام على قلب الحسين ﴿؏﴾، ولربما كان في انطفاء عيني العباس ﴿؏﴾ بالسهام في سبيل الحسين ﴿؏﴾ هو خيار أهون على العبّاس ﴿؏﴾ وأقل تفجعًا من النظر في وجه الإمام الحسين ﴿؏﴾ وحيدًا فريدًا كسيرًا حائرًا؛ لذا اختار الإمام الحسين ﴿؏﴾ ما هو أهون الألمين والوجعين على قلبيهما؛ حين غدا الإذن للعباس ﴿؏﴾ من أجل البراز هو رحمة به؛ لذا أعطاه الأذن بلسانٍ لم يكن هناك أرأف منه، ولوكانت هناك عبارة أشدّ لطفًا وعطفًا ليفهم منها العباس ﴿؏﴾ كل تلك المعاني والإذن له بالقتال لقالها الحسين ﴿؏﴾ حتمًا؛ حيث قال ﴿؏﴾: أركب بنفسي أنت يا أخي، وكأنه أراد أن ينهي بذلك عذابات أخيه العباس ﴿؏﴾(١٧).
ألا لعنة الله على الظالمين.
- مرضت فاطمة (عليها السلام) مرضًا شديدًا ومكثت أربعين ليلة في مرضها إلى أن توفيت (صلوات الله عليها)، فلما نعيت إليها نفسها دعت أم أيمن وأسماء بنت عميس ووجهت خلف علي وأحضرته، فقالت: يا ابن عم إنه قد نعيت إلي نفسي وإنني لا أرى ما بي إلا أنني لا حق بأبي ساعة بعد ساعة وأنا أوصيك بأشياء في قلبي.
قال لها علي (عليه السلام): أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله! فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت ثم قالت: يا ابن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني فقال (عليه السلام): معاذ الله أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفًا من الله [من] أن أوبخك بمخالفتي… بحار الأنوار ج٤٣ ص١٩١. - ففي كتاب المحتضر: أن فاطمة (ع) لما توفي أبوها (ص) قالت لأمير المؤمنين (ع): إني لأسمع من يحدثني بأشياء ووقائع تكون في ذريتي، قال: فإذا سمعتيه فأمليه علي، فصارت تمليه عليه، وهو يكتب. وروي أنه بقدر القرآن ثلاث مرات، ليس فيه شئ من القرآن.
فلما كمله سماه ” مصحف فاطمة ” لأنها كانت محدثة. مأساة الزهراء للسيد جعفر مرتضى العاملي ج١ ص١١. - ثم أتى الحسين (ض) إلى قبر جده (ص) وبكى وقال: يا جدي إني أخرج من جوارك كرهًا، لأني لم أبايع يزيد شارب الخمور ومرتكب الفجور. فبينا هو في بكائه أخذته النعسة، فرأى جده (ص) وإذا هو قد ضمه إلى صدره، وقبل ما بين عينيه، وقال:
” يا ولدي، يا حبيبي، إني أراك عن قليل مرملًا بدماك، مذبوحا من قفاك، بأرض يقال لها كربلا، وأنت عطشان، وأعداؤك يرجون شفاعتي، لا أنالهم الله ذلك. يا ولدي، يا حبيبي، إن أباك وأمك وجدتك وأخاك وعمك وعم أبيك وأخوالك وخالاتك وعمتك هم مشتاقون إليك، وإن لك في الجنة درجة لن تنالها إلا بالشهادة، وإنك وأباك وأخاك وعمك وعم أبيك شهداء تحشرون زمرة واحدة حتى تدخلون الجنة بالبهاء والبهجة “.
ثم أتى الحسين (ض) إلى قبر جده (ص) وبكى وقال: يا جدي إني أخرج من جوارك كرها، لأني لم أبايع يزيد شارب الخمور ومرتكب الفجور. فبينا هو في بكائه أخذته النعسة، فرأى جده (ص) وإذا هو قد ضمه إلى صدره، وقبل ما بين عينيه، وقال:
” يا ولدي، يا حبيبي، إني أراك عن قليل مرملًا بدماك، مذبوحا من قفاك، بأرض يقال لها كربلا، وأنت عطشان، وأعداؤك يرجون شفاعتي، لا أنالهم الله ذلك. يا ولدي، يا حبيبي،… ينابيع المودة ج٣ ص٥٤. - سمعت هاتفًا يقول: ” يسير القوم والمنايا تسير معهم “.
فقال له ابنه: يا أبتاه ألسنا على الحق؟
فقال: بلى والذي مرجع العباد إليه يا بني.
فقال: إذا والله لا نبالي بالموت إذا كنا على الحق والهدى.. ينابيع المودة ج٣ ص٦٢. - الفرق بين الركن والواجب (الركن هو الجزء الذي تبطل الصلاة بزيادته ونقصانه عمدًا وسهوًا، بينما الواجب هو الجزء الذي تبطل الصلاة بزيادته أو نقصانه عمدًا لا سهوًا.
- ان أبا عبد الله (عليه السلام) لما مضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن، وما ينقلب في الجنة والنار من خلق ربنا، وما يرى وما لا يرى… كامل الزيارات ص١٦٧.
- وهذا ما سيتمثل في يوم القيامة دون شك أو ريب: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾ السجدة: ٣٢.
- “فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي إلا لعنة الله على الظالمين… أعيان الشيعة ج٧ ص١٤٠.
- ومن كلام له عليه السلام قاله وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وتجهيزه: بأبي أنت وأمي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء… نهج البلاغة ج٢ ص٢٢٨.
- بحار الأنوار ج٩٨ص٢٣٨.
- يا فاطمة! كل عين باكية يوم القيامة، إلا عين بكت على مصاب الحسين فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة…. بحار الأنوار ج٤٤ ص٢٩٣.
- نظر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الحسين بن علي (عليهما السلام) وهو مقبل، فأجلسه في حجره وقال: إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا،… مستدرك الوسائل ج١٠ ص٣١٨.
- فبعض النَّاس وللأسف الشديد لا يعرف كيف يربي طفله أو كيف يوجهه نحو الصواب؛ إذ لا بُدّ وأن يتربى ويتعلم كيف عليه أن يتحمل المسؤولية؛ فلو كسر شيء ما كمثال: تعين على وليّه شرعًا أن يدفع حق ما كسره طفله، وإذا ما أخطأ لزمه عدم التستر عليه -وليس فضحه-، نعم الرحمة لازمة، كما الأدب والتربية أمران لازمان؛ لأنه إذا ما أصبح هناك محورية للذات ترعرع عليها الطفل؛ لن يمكن السيطرة عليه فيما بعد، وسيصبح في موضع الشكاية.
- “النَزْغُ: شِبْه الوخْز والطعْن. نَزَغَه: طَعَنَه ونَخَسَه .. بيدٍ أو رُمْح أو كلمة، حَرَّكَه أَدْنَى حَرَكة ” المعجم الاشتقاقي – محمد حسن جبل (١٤٣ هـ)
- وسوف يأتي التفصيل في الجلسات القادمة.
- فكتب عبد الله من ابن زياد أمانًا للعباس وعبد الله وجعفر وعثمان بني أم البنين، وعرض غلام عبد الله الأمان عليهم، فقالوا: أمان الله خير لنا من أمان ابن مرجانة. وأيضًا أقبل شمر بن ذي الجوشن حتى وقف على معسكر الحسين (عليه السلام) فنادى بأعلى صوته: أين بنو أختنا عبد الله وجعفر والعباس وعثمان! بنو علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟
فقال الحسين (عليه السلام) لإخوته: أجيبوه وإن كان فاسقا فإنه من أخوالكم.
فنادوه فقالوا: ما شأنك وما تريد؟
فقال: يا بني أختي! أنتم آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين (عليه السلام)، وألزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد بن معاوية!
فقال له العباس بن علي: تبا لك يا شمر! ولعنك الله ولعن ما جئت به من أمانك هذا، يا عدو الله! أتأمرنا أن ندخل في طاعة العناد ونترك نصرة أخينا الحسين (عليه السلام)!؟
قال: فرجع الشمر إلى معسكره مغتاظا. بحار الأنوار ج٤٤ ص٣٩١. - يا أخي! أتاك القوم، فنهض الحسين (عليه السلام)، ثم قال:
يا عباس! اركب بنفسي أنت – يا أخي! – حتى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جاء بهم؟… اللهوف في قتلى الطفوف ص٨٨.
0 تعليق