تقدم القراءة:

كربلاء تصنعنا عرفاء ٩

الأحد 30 أغسطس 2020مساءًالأحد

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

5
(1)

السلام عليك يا أبا عبدالله عليك سلام مني أبدًا ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتك، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أصحاب الحسين. عظم الله أجورنا وأجوركم بشهادة سيدنا ومولانا أبي عبدالله الحسين ﴿؏﴾، وجعلنا وإياكم من الطالبين بثأره.

نكمل حديثنا بعنوان: (كربلاء تصنعنا عرفاء) ومقتضى نسق البحث العلمي أن نتكلم في هذه الجلسة حول مظاهر عرفان الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وجهاده الأكبر.

وحتى نمضي قدمًا في إثبات المدعى: “كربلاء تصنعنا عرفاء” نفترض النقيض فكما قيل “الأمور تعرف بأضدادها”، ماذا لو استثنينا كربلاء من حياتنا كيف سنكون؟! 

الخطر الأول: على صعيد حياتنا المعنوية، سوف نقع في العرفان الكاذب. وهو خطر عظيم جدًا.

الفرق بين العرفان الصادق والعرفان الكاذب:

عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه أن الإمام الحسين ﴿؏﴾ خرج على أصحابه فقال:“أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه” -بمعنى وصلوا إلى التوحيد-،  فقال له رجل: يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله؟ قال الحسين ﴿؏﴾: “معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته”(١)

بمقتضى الرواية نتبين:

  • العرفان الصادق:

هو الذي يمحور حياة الإنسان ويجعلها تدور بين التوحيد والولاية والآخرة، إذ يمتزج التوحيد بالولاية كوجهان لحقيقة واحدة؛ فظاهر التوحيد الولاية، وباطن الولاية التوحيد وهو ما دلّت عليه الآيات والروايات.

  • العرفان الكاذب:

المقولة الأساسية “البرهماتية(٢) المعتمدة في الهند وتفيد هذه المقولة؛ بإمكاننا الاعتماد على أحاسيسنا ومشاعرنا وما نتبنَّاه من مسالك في التهذيب وفي السير والسلوك وتضعيف القوى النباتية، بالرياضات الذاتية والطقوس.

  • مخاطر العرفان الكاذب:

لا يصمد هذا العرفان للإجابة على المسائل المصيرية لحياة الإنسان وحقائق العالم الغيبي كالأسئلة حول: “القيامة، اللوح المحفوظ، العالم الأزلي، القبر”.

والإنسان في عينه الظاهرة لا يُدرك ما قبل القبر غير أنه مجرد حفرة يوارى فيها جثمانه.

أما ماذا يجري داخل القبر؟ ما حقيقة سمعه وفهمه بعد الموت وعندما سيلقن الأذان والإقامة! وماذا عن من لم يرتبط وينسجم مع هذه الحقائق التوحيدية في هذه الدنيا؛ فهل سوف يفهم هذه الحقائق ويدركها بعد الموت وهو في ذلك العالم الذي يعبر عن لغة الحقيقة والواقع؟؟

فماذا ستكون النتيجة؟

أن يخلُد للأرض، وسيبقى سعيه وهمّه منحصر في هذه الدار، ويضرب بالعرفان صفحًا، فيستغني عن الوحي والولاية والتوحيد واليوم الآخر، لا بل يستغني عما هو أهون من ذلك؛ بحيث تختل عنده الموازين فيختل عنده فهم حقيقة الإنسان وغاية وجوده. 

فسطح العرفان الذي لا يرتبط بأهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام لا يمكنه أن يعطينا نظرة ونظريات نطمئن بها.

وما لم يعلمنا الله ﷻ بلسان الغيب القاطع ماذا سيجري في ذلك العالم فنحن سوف لن ندرك ذلك ﴿وَيُعلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعلَمُون﴾ البقرة:151 بل حتى رسول الله (ص) والذي هو العقل الكامل يخاطبه الله ﷻ: ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ علَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ علَيْكَ عظِيمًا﴾ النساء: 113 فالعرفان الحقيقي والكامل لا يمكن الوصول إليه بحال إلا عبر الوحي.

جاء في رواية صحيحة في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن عُمير عن هشام بن حاكم عن أبي عبدالله صلوات الله وسلامه عليه قال: “من كسب مالًا  من غير حله سلط الله عليه البناء والماء والطين”(٣) وفي السياق نفسه روي عن الإمام الصادق ﴿؏﴾: “من بات ساهرًا في كسب ولم يعطي العين حظها من النوم فكسبه ذلك حرام”(٤) -إشارة للحرمة الأخلاقية لا الشرعية-.

فالإنسان في سيره التكاملي يمرّ بعدة مراحل، وإحدى هذه المراحل “النباتية” -والتي تعدّ أخسّ  المراتب وأدناها- ينمو فيها بدنه، وهنا يشير العرفاء لمثال لطيف:

يقولون الإنسان كالشجرة، والتي نماءها نماء ترابي؛ لذا نجدها تتمدد في الأرض همُّها اتباع الماء والطين بحثًا عنهما، ولا نرى من تمدد لها في العلو -ما فوق الأرض- إلا بقدر محدود، ثم تتوقف. والإنسان إذا تسلطت عليه هذه المرحلة -النباتية- سيكون مثلها.

فمن تصور أن كرامته وتكامله يكمن في تمكنه المادي؛ سلط الله ﷻ على بناءه الماء والطين.

يعلق الأستاذ الشيخ جوادي الآملي على هذه الرواية فيقول: هناك من همّه أن يشتري أرضًا وينتظر متى ترتفع الأسعار ليبيعها، ثم ينتظر بعد ذلك متى ثانية، ومتى ثالثة في سلسلة لا متناهية؛ هذا الإنسان يرى وزنه وكرامته في ماله ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ۞ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ علَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ الفجر: ١٥-١٦ وهذا التعلق بالأرض يستدعي الظلم، فهو لا يلتفت لقبح المظلومية وما يتعلق برقبته من حقوق للآخرين، وإن دنا منه الموت، فالماء والطين هما ما سيجذبانه أكثر مما يجذبه الإمام الحسين ﴿؏﴾، وأكثر مما يجذبه الحق. 

وكلمة الإمام ﴿؏﴾ “سلط الله عليه” إذ لا يحتاج إلى سلطة ثانية فوق رأسه، سلط الله عليه الماء والطين، فهو أهون على الله ﷻ من أن يسلط عليه غير الماء والطين الذي أفنى ذاته وعمره في طلبهما.

الحسين يقتلعنا من الماء والطين:

من الملفت والجدير بالانتباه حثّ الأئمة صلوات الله عليهم على زيارة الإمام الحسين ﴿؏﴾ في كل مناسبة، والذي لم يرد في شأن رسول الله ﷺ!

لأن الحسين صلوات الله عليه هو من يقتلعنا من الماء والطين، فبمجرد سماع مصيبة الإمام الحسين ﴿؏﴾ المرء يفرغ من كل شيء إلا من الحسين صلوات الله وسلامه عليه، يقطع كل الروابط إلا ما يربطه بالإمام الحسين ﴿؏﴾.

أما إذا كان الإنسان همّه الماء والطين؛ فهذا لن يرعوي في أن يقوم بأبشع الظلامات، ومن حيث الواقع والمصداق الخارجي، التاريخ يذكر أن كثير ممن حارب الإمام الحسين ﴿؏﴾ كان الجاذب له الماء والطين، وسقط عند أول ابتلاء في المنحدر.

نموذج “عمر بن سعد”: ما الذي يضعه في كفة الإمام الحسين ﴿؏﴾، وبأي شيء يزنه صلوات الله عليه؟! وما المقابل الذي سيناله بقتله الإمام الحسين ﴿؏﴾؟!

عند عمر بن سعد الماء والطين؛ وهذه ليست صورة خيالية؛ يقول في شعره الذي قرأه على المختار:

أأترك مــلك الريّ  والريّ  منيتـي **** أم أصبح مأثومًا بقتل حسين  

حسين ابن عمي والحوادث جمة **** ولكـن لـي في الريّ  قرة عـين  

فوأسفاه أن تكون الأرض -وأيَّ  كانت هذه الأرض- لن تكون غير ماء وطين، فتكون نتاج قبالة قتل الحسين ﴿؏﴾.

عجيب أن يكون هذا موقفه؛ ولم يردعه على أقل تقدير الرحم؛ ومعروف أن الرحم للعرب ذو مكانة؛ فعمر بن سعد يجتمع مع الإمام الحسين ﴿؏﴾ في الجدّ الرابع (٥)، فالرحم عند الله ﷻ عرشية، تلوذ بالعرش(٦) كما جاء في الرواية، فكلما قرب الرحم، لزم الحفاظ عليها بشدّة، ثم الأقرب فالأقرب. 

فعمر بن سعد تشبع بهذا المعنى من خلال تربيته في مكة والمدينة. وما بينمها من رحم لا يمكن له أن يكون نسيه؛ فلماذا لم يكن الرحم له رادعًا عن قتل الحسين ﴿؏﴾؟!

لأنه حذف الإمام الحسين ﴿؏﴾ من حياته، كما حذف قدسية الرحم، وحذف كل المنظومة القيمية وبالكامل؛ بعدما صار يرى كرامته في الطين والماء فحسب.

ولهذا نجد أنه عندما كان اليوم العاشر، كان أول من برز من أهل البيت ﴿؏﴾ للقتال هو علي الأكبر ﴿؏﴾ وكأنما اقتطع من قلب الإمام الحسين ﴿؏﴾ قطعة، وإذا بعمر يستعدي عليه (يجيش الجيوش ويدعوهم لقتاله)، نظر الإمام ﴿؏﴾ إلى عمر بن سعد وقلبه يتلظى، وقال له ﴿؏﴾: “قطع الله رحمك كما قطعت رحمي” ألا يستحق لمثله أن يقول عنه الله ﷻ: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعذِّبُ عذَابَهُ أَحَدٌ ۞ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ الفجر: ٢٦.

ألا لعنة الله على الظالمين.



١. علل الشرائع – الشيخ الصدوق- ج1، ص9.

٢. كانت البوذية في الأصل حركة رُهبانية نشأت داخل التقاليد البراهمانية، تحولت عن مسارها عندما قام بوذا بإنكار المبادئ الأساسية في الفلسفة الهندوسية، بالإضافة إلى رفضه وِصاية السُلطة الكَهنوتية، كما لم يرد أن يعترف بأهلِية كتابات الفيدا، وكذا مظاهر وطقوس عبادة الآلِهات التي كانت تقوم عليها – (من البراهماتية إلى البوذية – طارق فتحي ،أكتوبر-2015م).

٣. ميزان الحكمة– الريشهري– ج4، ص9229.

٤. الكافي – الشيخ الكليني –ج5، ص.127.

٥. بينهما رحم قريبة  ليست بعيدة، عمر بن سعد بن أبي وقاص بن مالك بن أُهيب بن عبد مناف بن زهير بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.

٦. [ 27790 ] 6 ـ وعن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال: إن الرحم معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني وهي رحم آل محمد ـ إلى أن قال: ـ ورحم كل ذي رحم.

[ 27791 ] 7 ـ وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبدالله، عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو جعفر ( عليه السلام ): إن الرحم متعلقه يوم القيامة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني . [ وسائل الشيعة، ج ٢١، ص٥٣٤-٥٣٥]

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 114٬754 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها