لا زال الحديث تحت عنوان (كربلاء تصنعنا عرفاء)، وأن حركة الإمام الحسين ﴿؏﴾ لها أبعاد عرفانية عميقة، تنبع من طبيعة نظرة الإمام الحسين ﴿؏﴾ للتوحيد والكون والأحداث.
العرفان العملي في الحركة الحسينية
عرِّف العرفان العملي على أنه: مجموعة القوانين المرتبطة بأحوال وأعمال القلب، التي تورث الغايات والنهايات والكمالات النهائية، وهو لا شك بالنسبة للإنسان توحيد الله ﷻ.
التوحيد والعرفان العملي هو الطريقة التي ينتهجها السالك ليرى كل شيءٍ مُظهرًا لله ﷻ وآية له، يرى في قلبه أسماء الله ﷻ وصفاته، يُصبح قلبه ذو قوة ثاقبة في انكشاف ورؤية وحدانية الله ﷻ، فالعلم بمعنى العرفان النظري ما لم يكن محرّكًا للقلب لتلقي المعارف من الله جلّ شأنه، لا يُعدُّ علمًا نافعًا، ولذا يقول: “اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع” (١). فالواصل لله ﷻ لا يتعلم بواسطة المفاهيم والألفاظ أو بالتلقي من أستاذ، أي أنه ليس هناك واسطة في تلقي العلوم العالية، هو يتعلم تلك الحقائقمن الله ﷻ، يقول تعالى ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ سورة البقرة:٢٨٢. وثمرة هذه الحقائق هو الكشف أولًا عن وجه الدنيا وزخرفها وزبرجها، وأنها دار غرور قد تزينت لأهلها وتزخرفت، وهذا فعل الله ﷻ: ﴿إِنَّا جَعلْنَا مَا علَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا﴾ سورة الكهف: ٧. وهذا الفعل نوع من الاختبار والابتلاء، فالاختبار هو أن تضع في وجه هذا الإنسان عائقًا ليتجاوزه، والعارف هو الذي اجتاز زينة الدنيا، ورأى الوجه الحقيقي لها، فعرف أنها دار الغرور، جاء في دعاء الندبة: “بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك”، أي: التزموا عمليًا بذلك، ويقول: “وعلمت منهم الوفاء به فقبلتهم وقربتهم”، هنا حصل القرب الإلهي والجذبة القوية الإلهية، فالله ﷻ هو الذي قربهم وأخذهم إليه: “وقربتهم”، ونتيجة لهذه الجذبات الربّانية والإلهية؛ يُصان العارف من مغبّة محبة الدّنيا وحب الظهور للآخرين، يقول الإمام الصادق ﴿؏﴾: “حب الدنيا رأس كل خطيئة” (٢).
مقام لوجه الله ﷻ أعلى مقامات الانكشاف
يقول تعالى في حال رسول الله (ص) والأئمة الطاهرين والصديقة الطاهرة ﴿؏﴾: ﴿إِنَّمَا نُطْعمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ سورة الإنسان: ٩. فعندما يصف الله ﷻ عمل إنسان بأنه بلغ به مقام ﴿لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ فهذا دلالة على أنه وصل إلى أعلى مقامات انكشاف وجه الله ﷻ؛ لأنه لا يريد إلا وجه الله جلّ شأنه، يريد أن يبقى وجه الله ﷻ، بمعنى أن تبقى أسماء الله سبحانه، وما يظهر يرشح من التوحيد، وكل ما يقوم به إنما هو لوجه الله. والله سبحانه قرر هذه الحقيقة عن أولئك العارفين الكُمّل الذين وصفهم في كتابه بأنهم إنما يطعمون ويعطون ويفعلون ويتحركون ويزورون ويصلون ويجاهدون كل أعمالهم حفاظًا على رؤيتهم لوجه الله ﷻ ﴿لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ ولا مدحًا أو ثناءً من أحد؛ فالعارف إذا وصل لتلك المرتبة تنهال عليه المدائح العظيمة من الله سبحانه وتعالى.
يقول الشهيد المطهري في شأن الرواية: “الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة” (٣)، إذ لو لم يرد في شأن الحسن والحسين ﴿؏﴾ من رسول الله (ص) إلا هذه المقولة لكفت دليلًا في إثبات إمامتهما وعظيم مقامهما عند الله ﷻ وما وصلا إليه من الزلفى؛ بحيث يسيدهم الله ﷻ في جنته، ويجعل الأمر والنهي كله في يدهما في دار الحق، ولا شك أن ذلك العالم ليس إلا انعكاسًا عن مقامهما في هذا العالم.
علامات السالك في الإمام الحسين ﴿؏﴾
يطرح العرفاء عدّة علامات دالة على أن هذا السالك قد وصل لله ﷻ، سنذكر إحداها، سواء كان السالك في أول الطريق أو في وسط الطريق أو في آخره أو فلنقل قد بلغ منتهاه وهي:
الحصانة: لكل مؤمن محب لله ﷻ مريدًا السلوك لله ﷻ؛ حصانة وصيانة وموهبة من الله سبحانه وتعالى له، وكلما صعد وارتقى فسوف يحصل من هذه الخصوصية الربانية أكثر حتى يصل العارف إلى مرتبة يكون القائم بشأنه والمدافع عنه والذاب عنه؛ كي لا يقع في الخطايا والذنوب والمعاصي والبعد هو الله ﷻ.
يقول تعالى في سورة الفجر: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ سورة الفجر: ١٤، وقد يتصور معنى ﴿لَبِالْمِرْصَادِ﴾، أن الله ﷻ بالمرصاد للظلمة والفاسقين والظالمين والطواغيت، لكن الآية مطلقة وتقول كما أن الله ﷻ بالمرصاد لأولئك الظلمة؛ يخذلهم ويكشفهم ويبين خططهم ويقلب عليهم ما يتوقعون، هو أيضًا بالمرصاد للمؤمنين؛ يحفظهم ويزيل عثراتهم ويغفر ذنوبهم وآثامهم ويتجاوز عنهم ويطهرهم بشكل دائم، ويأخذ بأيديهم لكي لا يسقطوا، دائمًا ما نلتفت للشق الأول مع أن الآية ليس فيها حديث خاص عن الظلمة والفاسقين.
وعلى هذا فالإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه حتمًا له المراتب العالية كما سوف يأتينا أيضًا، وقطعًا الإمام ﴿؏﴾ يتلقى علمه من الله ﷻ وبشكل مباشر؛ وإلا لم يكن حجة الله، وأنه قد ضرب أشدّ وأقوى مثال لما اشترطه الله ﷻ في الزهد؛ ليس في درجة من درجات هذه الدنيا فحسب، وإنما في كل درجات هذه الدنيا الدنية، الزهد في كل شيء، وقد بلغ بذلك هذه المرتبة من الوفاء؛ بحيث جعلت كل ما اتصل بالإمام الحسين ﴿؏﴾ له قيمة وأصبح منسكًا.
لماذا لم تكن لكربلاء مناسك خاصة؟
ختامًا ومن خلال التساؤل المطروح نوضح بهذا البيان والذي يجيب عليه أحد العرفاء: لماذا لم تكن لكربلاء مناسك وقوانين والتزامات كما كانت في مكة مناسك تحاكي ما قام به نبي الله إبراهيم ﴿؏﴾؟
وذلك لأن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كانت له مواقف معدودة ومناسك محددة في تلك الأماكن؛ مثلًا في منى أراد أن ينحر ابنه فكان النحر، عطِش إسماعيل ﴿؏﴾ فأصبح السعي واجبًا…، وهكذا.. ولكن كربلاء لا يوجد عليها حبّة رمل ليس فيها موقف توحيدي للإمام الحسين ﴿؏﴾ وأهل بيته وأصحابه؛ فهنا وقف الحسين ﴿؏﴾ وهنا خطب، وهناك توقف الركب، وهنا سلم ابنه الرضيع للأعداء…، فعلى كل حبّة رمل في كربلاء جرت آلاف من المظاهر التوحيدية والكشف والشهود والانقطاع لله ﷻ، وبهذا أصبح كل موقف له منسكًا، وأضحى كل ترابها موضع سجود؛ لذلك حيثما كنا في كربلاء نأخذ من ترابها حفنة نصلي فنسجد عليها وبه تنكشف كل الحجب.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنا وعنكم وأن يرزقنا في الدنيا معرفة الحسين ﴿؏﴾ وفي الآخرة شفاعته وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
١. ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ٣، ص ٢٠٩٤.
٢. بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٧٠، ص ١١٩.
٣. بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٤٣، ص ٢٦٥.
0 تعليق