بسم الله الرحمن الرحيم
عظم الله أجورنا وأجوركم بمصاب سيدنا ومولانا أبي عبدالله الحسين ﴿؏﴾.
حديثنا بعنوان “كربلاء تصنعنا عرفاء“.
في هذا المحور سيكون الحديث في إثبات البُعد العرفاني النظري في حركة الإمام الحسين ﴿؏﴾ وذلك من خلال تصريحاته وأقواله.
البُعد العرفاني النظري في حركة الإمام الحسين ﴿؏﴾
لا شك أن لكربلاء أبعادًا واسعة جدًا، وهي بكل أبعادها طاهرة ومطهرة؛ لأن صانع كربلاء هو الإمام الحسين ﴿؏﴾ والذي كان طهرًا مُطهّرًا، ولذا نجد كل آثار الإمام ﴿؏﴾ لها جانب وأثر؛ من بطنان العرش إلى تراب كربلاء، نقرأ في الزيارة“أشْهَدُ اَنَّكَ طُهْرٌ طاهِرٌ مُطَهَّرٌ مِنْ طُهْر طاهِر مُطَهَّر، طَهُرْتَ وَطَهُرَتْ بِكَ الْبِلادَ طَهُرَتْ اَرْضٌ اَنْتَ بِها وَطَهُرَ حَرَمُكَ“. فكل هذا المحيط الذي حول الإمام الحسين ﴿؏﴾ من مادية ومعنوية طاهر، وسنركز الحديث عن الجانب العرفاني من حركة الإمام الحسين ﴿؏﴾.
ولكي ننتهي للنتيجة كيف أن كربلاء صنعت من الشيعة والموالين عرفاء؛ يأتي سؤال طرحه بعض الباحثين واختلف في الإجابة عليه:
هل أن حركة الإمام الحسين ﴿؏﴾ كانت خاضعة للضوابط الفقهية؟ سيما وأنه ﴿؏﴾ قد حدد أهدافه بنفسه في الكثير من أقواله ومنها قوله: “وأني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ﷺ أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر” (١)
وهذا الاستخدام من الإمام الحسين ﴿؏﴾ لمصطلح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخلنا في بعض الضوابط الفقهية التي نصّت عليها ظواهر الروايات الصادرة عن أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين.
فنحن نعلم أن هناك ضوابط فقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ منها سقوط وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حال تعرض الآمر بالمعروف أو من يحسب عليه للضرر، فضلاً عن الضرر الذي يفوق التحمل؛ كالقتل والسبي وسحق الأطفال وحرق الخيام، وهذه التداعيات لم تكن -وبلا شك- خافية على الإمام الحسين ﴿؏﴾، ولم تكن الأمور بالنسبة له مجرد صرف احتمالات، بل كانت هذه التداعيات واضحة وجليّة بالنسبة للإمام ﴿؏﴾، بل كان يؤكد لكل من يسأله من علماء الأمة وفطاحلها عن علّة ذهابه إلى كربلاء فيقول: “شاء الله أن يراني قتيلًا” (٢)؛ بمعنى أنه كان جازمًا بهذا الأثر الذي سيترتب على وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى حركته الإصلاحية.
إذ لم يُفاجأ صلوات الله وسلامه عليه ولا حتى أهل بيته بهذا القدر من الحقد الأموي، كما أنه ﴿؏﴾ لم يكن بعيد عهد عن العيش في كنف جدّه رسول الله ﷺ، كما عاصر عذابات أبيه الإمام علي ﴿؏﴾ الشديدة سيما من بني أمية.
فقد حمّل أمير المؤمنين ﴿؏﴾ قريش بشكل عام وبني أمية بشكل خاص المسئولية في التمادي والتعدي على حقه فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي ثُمَّ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَفِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ”. وزاد في نص آخر: “فَاصْبِرْ كَمَداً أَوْ مِتْ مُتَأَسِّفاً حَنَقاً، وَ ايْمُ اللَّهِ لَوْ اسْتَطَاعُوا أَنْ يَدْفَعُوا قَرَابَتِي كَمَا قَطَعُوا سُنَّتِي لَفَعَلُوا، وَ لَكِنْ لَمْ يَجِدُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيْلً” (٣).
عندما نرى سيرة الإمام الحسين ﴿؏﴾ نجد أنه ومن اللافت أن حركته ﴿؏﴾ وكأنها بمثابة إلقاء الحجة على القوم، وبالرغم من ذلك إلا أن القوم تصرفوا بوحشية تامة.
فقد أخذ الإمام الحسين ﴿؏﴾ معه رسائل القوم التي وصلته من أهل الكوفة وزعمائهم، وقد احتفظ بها في كل ذلك الطريق الطويل الذي قطعه واحتج بها عليهم في يوم العاشر.
وبرغم ذلك إلا أن بني أمية لم يتوانوا عن أن يهجموا في يوم العاشر من المحرم على الخيم، ولربما لم يكن غرضهم ترويع بنات رسول الله ﷺ فحسب، بل ربما يكون غرضهم في الحقيقة إحراق هذه الأدلة والحجج والمستندات التي من الممكن أن تهدد نظام بني أمية(٤).
فحرق هذه المستمسكات استلزم من القوم الطغاة حرق خيام بنات رسول الله ﷺ وحرارئر الرسالة. فهل من الممكن أن يكون الإمام الحسين ﴿؏﴾ لا يعرف هذه المعادلة جيدًا؟ وهل كان الإمام ﴿؏﴾ لا يعلم بأن نتيجة احتفاظه بهذه المستندات قد يؤدي إلى هذا الواقع الوخيم؟
التوجيهات الثلاث لحل الإشكال والتساؤل المطروح
لا شك بأن الإمام صلوات الله وسلامه عليه يعلم كل ذلك جيدًا، ويمكننا حلّ هذا الإشكال عبر ثلاث جهات ومبررات وهي:
١- الجهة الأولى واضحة وهي: نحن الشيعة في عقيدتنا الحقّة لا نقيس فعل الإمام الحسين ﴿؏﴾ بمعايير فقهية خاضعة لمقاييس فقهية نستظهرها من النصوص، بل إن الإمام الحسين ﴿؏﴾ لدينا هو المقياس.
وهذا المعنى نجده في قول أمير المؤمنين ﴿؏﴾ في وصيته لابنه الحسن ﴿؏﴾: “يا بني اجعل نفسك ميزانًا فيما بينك وبين غيرك” (٥).، فهم صلوات الله عليهم الموازين، لا يوزنون ولا يخضعون للمعايير الفقهية التي نفهمها نحن ونستظهرها من خلال النصوص الصادرة(٦)، وإنما حركات وسكنات وأقوال الإمام ﴿؏﴾ هي المستند الأهمّ الذي يخضع له الحكم الفقهي.
وكثيرون هم من وقع في هذه المغالطة، وتصوروا أن الضوابط الفقهية لديهم، وأرادوا بذلك قراءة حركة الإمام الحسين ﴿؏﴾ ضمن هذه الضوابط، في حين أن الأمر ليس كذلك، فالإمام ﴿؏﴾ فوق الفقه؛ فالفقه يكون له قيمة عندما تكون مرجعيته فعل الإمام المعصوم ﴿؏﴾ وقوله وتقريره. فنفس فعل الإمام الحسين ﴿؏﴾ هو المرجع والمقياس ولا يُعرض فعله ﴿؏﴾ على الأبحاث الفقهية والتحقيقات وقواعد الفقه؛ ولذا إذا قلنا بأن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب فيها مراعاة عدم الضرر كما يلزم فيها احتمال التأثير، فإننا حتمًا لا نقيس حركة الإمام الحسين ﴿؏﴾ بهذه الضوابط بتاتًا؛ وذلك لموقعية الإمام ﴿؏﴾ من الحجية؛ بمعنى أن الفقه حجة علينا وليس حجة على الإمام الحسين ﴿؏﴾.
٢- الأمر الثاني هو أن حركة الإمام الحسين ﴿؏﴾ لها أبعاد أوسع من التأطير بهذه الإطارات الصناعية الفنية الفقهية، فطبيعة حركته -صلوات الله وسلامه عليه- كما تنص على ذلك الروايات بما هو مكتوب على ساق العرش، وبما تبكيه الملائكة والحيتان في البحر..(٧)، والكثير من الحقائق التكوينية الوجودية التي تحتاج دراستها لآليات قرآنية وعرفانية ووجودية.
٣- الأمر الثالث والذي قد يحلّ لنا هذا الإشكال هو أننا إذا لاحظنا حركة أي إنسان وفاعليته نجدها تنشأ بالدرجة الأولى من مبادئه العلمية؛ فعلم الإنسان ومعرفته تشكل النواة التي تغذي عمله أو فلنقل الماء الذي يسقي عمل الإنسان، فلا يمكن دراسة عمل أي امرئ مجتزأ عن معارفه. فإذا كانت معارف هذا الإنسان قوية، ويتمتع بأعلى مراتب العلم والمعرفة سوف تعكس هذه المعارف ارتدادات قوية على عمل الإنسان كذلك، وإذا كان هذا الإنسان معصوم فسوف يكون عمله مطابقًا لعلمه أيضًا -وهذا ما سوف نتحدث عنه لاحقًا.
• فمعرفة الإمام الحسين ﴿؏﴾ ورؤيته ووضوح وإدراك معادلات هذا الكون هي أعلى بكثير مما ندركه بل هي تامة؛ ولذلك فهو ﴿؏﴾ يتحرك في سلوكه لله ﷻ من النقطة التي يعرف بها الله ﷻ.
تقسيم العرفاء للسالكين
والعرفاء يقسمون السالكين لله تعالى إلى:
-
سالك يجاهد الأضداد والأغيار، منجذب لله ﷻ، فهو يعاني للتخلص من العوائق الجمّة للوصول لله تعالى ويطلب من الله سبحانه أن يعينه على ذلك.
-
وهناك سالك مجذوب لله سبحانه جلّ شأنه، الله يطلبه، والله يريده.
وكشاهد على ما نقول فإن القرآن عندما يتكلم عن زوجة فرعون ﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾ التحريم: ١١، بينما في زيارة أمين الله نقرأ في شأن أمير المؤمنين ﴿؏﴾ هذا المعنى “حَتّى دَعاكَ اللهُ إلى جِوارِهِ فَقَبَضَكَ إلَيهِ بِاختِيارِهِ وَألزَمَ أعداءَكَ الحُجَّةَ مَعَ ما لَكَ مِنَ الحُجَجِ البالِغَةِ عَلى جَمِيعِ خَلقِهِ”(٨)
والفرق هنا أن زوجة فرعون آسيا هي من طلبت من الله سبحانه وتعالي أن يبني لها بيتًا عنده ﷻ في الجنة، بينما أمير المؤمنين ﴿؏﴾ فروحه الذائبة في الله ﷻ، الممسوس في ذات الله ﷻ؛ الله جلّ وعلا هو الذي يجذبه وهو سبحانه الذي يطلبه. وطلب الله له وجذبة الله له ودعوت الله لأمير المؤمنين ﴿؏﴾ “حَتّى دَعاكَ اللهُ إلى جِوارِهِ” فالزيارة لا تقول بأن أمير المؤمنين دعا الله ﷻ، وإنما الله ﷻ دعا أمير المؤمنين إلى جواره فقبضه إليه باختياره، وهذه حجة من أكمل الحجج في شأنية أمير المؤمنين ﴿؏﴾ “وَألزَمَ أعداءَكَ الحُجَّةَ مَعَ ما لَكَ مِنَ الحُجَجِ البالِغَةِ”.
وكذلك كان حال الإمام الحسين ﴿؏﴾ مجذوبًا لله ﷻ؛ لأن له كامل المعرفة بالله ﷻ، فالله يجذبه ويدعوه إليه، ولذلك جاء في دعاءه ﴿؏﴾ في عرفة “إِلهِي اطْلُبْنِي بِرَحْمَتِكَ حَتَّى أَصِلَ إِلَيْكَ وَاجْذُبْنِي بِمَنِّكَ حَتَّى أُقْبِلَ عَلَيْكَ”(٩)
كما أن هناك آيات تؤيد هذا المعنى وتعضده كما في قوله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ التوبة: ٤١، فهناك أُناس يذهبون لله ﷻ خفاف وهناك أُناس ثقال.
وقد اختلف المفسرون في معنى الخفاف والثقال فقال البعض: الثقال: هم المثقلون بالمسؤوليات والموانع الشاغلة والصارفة للإنسان عن الخروج إلى الجهاد؛ نظير كثرة المشاغل المالية وحب الأهل والولد والأقرباء والأصدقاء؛ مما يوجب كراهة مفارقتهم، ويتنازع عليهم الجهاد وارتباطهم بهذه المشاغل والعلائق وفقد الزاد والراحلة ونحو ذلك، بينما الخفاف هم خلاف ذلك؛ إذ ليست لديهم مسئوليات تجذبهم، ولم يتعلقوا بغير الله ﷻ وهذا المعنى هو ما أشار إليه العلّامة صاحب الميزان.
وهناك معنى أعمق أشار له سماحة السيد -حفظه الله- وهو أن الخفة والثقل تكون في الروح؛ فهناك أرواح خفيفة مجذوبة لله ﷻ، غير متعلقه بغير الله سبحانه، وهناك أرواح تنتزعها وتتجاذبها عدة هموم وأهواء. وعلى هذا يمكن أن نفهم تطبيق الآية الكريمة على الإمام الحسين ﴿؏﴾، كما يمكن توجيه تأويل قوله تعالى ﴿بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾ التكوير: ٩، فما ذنب الحسين بن علي ﴿؏﴾ إذا كان ربه قد جذبه إليه.
ما ذنبه؛ إذا كان الله ﷻ قد أحبه وجذبه؟!
ما ذنبه إذا كان يسارع في الوصول لله تعالى؟! فلماذا يقتل؟!
ألأنه السابق ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ۞ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ الواقعة: ١٠-١١
ما ذنب الإمام الحسين ﴿؏﴾ إن كان جدّه رسول الله؟!
ما ذنبه ﴿؏﴾ إذا كان أبوه علي ﴿؏﴾ وأمه فاطمة ﴿؏﴾؟!
هذه كلها مراتب ومقامات، فكيف يحاسب عليها ويطرد صلوات الله عليه من وطن جده (ص)؟!
ولهذا عندما خرج من المدينة ودّع قبر أحب خلق الله إليه (ص) فهو مجذوب لرسول الله (ص) ورسول الله (ص) مجذوب إليه.
ألا لعنة الله على الظالمين.
١. بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٤٤ – الصفحة ٢٢٩
٢. اللهوف، لابن طاووس، ص ٦٤، انتشارات جهان تهران، ١٣٤٨ هجري شمسي
٣. نهج البلاغة ج ٢، ص ٢٧٧
٤. وهذا عينه ما يحدث في كل حركة انقلابية ضد الطواغيت والظلمة فأول ما يقوم به الطغاة هو حرق المستمسكات كما حدث بعد إعدام صدام.
٥. بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٧٢- الصفحة ٢٩٩.
٦. بعض هذه النصوص تعدّ قطعية وبعضها الآخر غير قطعي الصدور.
٧. لما قتل الحسين ارتفعت حمرة من قبل المشرق وحمرة من قبل المغرب فكادتا يلتقيان في كبد السماء.
لما قتل الحسين مكث الناس أربعين يوماً تطلع الشمس بحمرة وتغرب بحمرة، وهذا بكاؤها.
لما قتل الحسين أمطرت السماء دماً، وإن الحباب والجرار صارت مملوءة دماً، وذهبت الإبل إلى الوادي لتشرب فإذا هو دم.
لما قتل الحسين بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن ومن يتقلب في الجنة والنار وما يرى وما لا يرى.
لما قتل الحسين بكى عليه كل شيء، حتى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحر والطير في السماء ، وبكت عليه الشمس والقمر والنجوم والسماء والأرض ومؤمنوا الإنس والجن وجميع ملائكة السماوات والأرضين ورضوان ومالك وحملة العرش.
لما قتل الحسين مدت الوحش أعناقها على قبره تبكيه وترثيه ليلاً حتى الصباح.
لما قتل الحسين بكته السماء أربعين صباحاً بالدم، والأرض بالسواد، والشمس بالحمرة، وإن الجبال تقطعت وانتثرت، وإن البحار تفجرت، وإن الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كل من في الهواء والسماء من الملائكة” [الملهوف على قتلى الطفوف ص ٢٨-٢٩].
٨. زيارة أمين الله – مفاتيح الجنان.
٩. دعاء عرفة – مفاتيح الجنان
0 تعليق