بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليك يا رسول الله ﷺ وآله، السلام على أمير المؤمنين ﴿؏﴾ وعلى الصديقة الطاهرة ﴿؏﴾، السلام عليك يا أبا الحسن ﴿؏﴾، السلام عليك يا أول مظلوم ظلم في الإسلام إذ لم يعرف الوجود مظلومية هي أوسع وأقرح للقلوب أشدّ وأنكى وأمض من ظلم علي ﴿؏﴾، في هذه الليلة يشهد تاريخ البشرية حادثة مؤلمة؛ هي أعظم وأكبر جناية؛ فحرمان الأمة من رأفة علي ﴿؏﴾ ومحبة علي ﴿؏﴾ ومعرفته هو في واقع الحال ما جرّ على الأمة إلى وقتنا الحاضر من المآسي والويلات.
ورد عن الإمام الرضا ﴿؏﴾: “إذا نزلت بكم شدة فاستعينوا بنا”(١)، وهذه الليلة تعدّ فرصة نادرة لنا لأن نتشبث بعلي (ع) أكثر، ونستعين به لنحصل على العتق من النار، وها نحن نقول: ياعلي لقد عجزنا عن علاج أنفسنا، وعن علاج مجتمعنا، عجزنا عن علاج وإصلاح حال هذه الأمة، كما عجزنا عن تنقية قلوبنا، وتهذيب نفوسنا، بل عجزنا عن معرفتك يا علي ﴿؏﴾، فنحن نستعين بك ونمدّ الأيادي نحوك يا علي ﴿؏﴾، الغوث الغوث يا أبا الحسن.
حديثنا في هذه الليال سيكون بعنوان: ﴿إِذِ انبَعثَ أَشْقَاهَا﴾ الشمس: ١٢ وسيكون حول العدو الأكبر لعلي (ع)، ولبيان ذلك نحن بحاجة لمقدمات:
القرن الأكيد بين علي ﴿؏﴾ ورسول الله ﷺ وآله مقتضى الحكمة:
كان الإمام علي ﴿؏﴾ ملازمًا لرسول الله ﷺ وآله منذ نعومة أظفاره وحتى مبعثه الشريف؛ ولم يكن هناك أحد في عرض علي ﴿؏﴾ البتة؛ لا في نظر المشركين، أو في نظر المنافقين، بل والمسلمين كافة؛ وأصبح هناك اقتران وارتباط أكيد في الأذهان بين علي ﴿؏﴾ وبين رسول الله ﷺ وآله بحيث صار علي ﴿؏﴾ هو الفرد الثاني بعد رسول الله ﷺ وآله، وهذه المسألة –كما يجدر- لم تكن بحاجة إلى تأكيد أو إلى تعيين أو إلى تنصيب فضلاً عن نزول الآيات القرآنية المدللة، ولإثبات هذه الحقيقة نستعين بما أقرّه الإنسان عقلًا، وقرره الأصوليون واصطلحوا على تسميته بعملية القرن الأكيد.
ومفادها:
عندما نرى عنوانين مترابطين بل ومقترنين بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ فإنه بمجرد أن تأتي صورة أحدهما تأتي صورة الآخر معها تلقائيًا، وهكذا الحال، فقد كان رسول الله ﷺ وآله الأب الذي يصطحب ابنه أينما ذهب معه، فكان يكنفه في فراشه ويمضغ الشيء ويطعمه إياه ليغذيه به رحمة وتحنانًا عليه(٢)، كي لا ينفصل علي ﴿؏﴾ عن النبوة والرسالة برهة، فيعيش همّها وهمّ والأمّة جمعاء. حينها يصبح القرن أكيد بين هذا الابن -الذي يختلف عن سائر الأبناء- وبين هذا الأب: رسول الله ﷺ وآله، بحيث لا يمكن لأحد عاش مع رسول الله ﷺ وآله منذ أن ولد علي ﴿؏﴾ أن يتصور رسول الله ﷺ وآله بلا إضافة علي ﴿؏﴾، وهذا ما يسمى بـِ (القرن الأكيد)؛ فهذا الاندكاك كان بمقتضى التدبير والحكمة النّبوية؛ وهذا الارتباط والاندكاك هو الذي جعل الحقّ لأمير المؤمنين ﴿؏﴾ في كل موضع كان لرسول الله ﷺ وآله، ولأنه رسول الله ﷺ وآله بعث رحمة للعالمين كان لزامًا عليه أن يترك من بعده من يبقى رحمة لهذه الأمة؛ لذلك لم تكن هناك أدنى فاصلة أو واسطة بين علي ﴿؏﴾ وبين رسول الله ﷺ وآله. وبالرغم إن أمير المؤمنين ﴿؏﴾ كان قد حطم الأصنام، وقتل صناديد قريش، وناوش ذؤبانهم وأبعدهم عن الرسالة ونقّاها وحفظها من عبث المشركين، لكنهم لم يكونوا أعداء علي ﴿؏﴾ بالدرجة الأولى ولا الكافرين بل كان المنافقين(٣)؛ ففي ذلك الوقت ومع وجود رسول الله ﷺ وآله كان من المحال أن ينكسر هذا القرن الأكيد، وأن يفترض أحدهم بوجود خليفة أو نائب له ﷺ وآله غيره ﴿؏﴾؛ لا العقل يفترض ذلك ولا حتى المجتمع ولا بالجريان الاعتيادي؛ والذي لا يفترض حتى مجرد افتراض جلوس أحد إلى جنب رسول الله ﷺ وآله غير علي ﴿؏﴾، وتفاصيل ذلك من الأحاديث ما زخر به التاريخ. وبذلك ندرك هنا مدى عمق قول علي ﴿؏﴾: “أنزلني الدّهر، ثم أنزلني حتى قيل علي ومعاوية”(٤).
المظلومية الكبرى لأمير المؤمنين ﴿؏﴾:
ومن خلال ماسبق ندرك أن أكبر عداوة ومظلومية يمكن أن تقع على علي ﴿؏﴾ هو نكران هذه البديهية وهي الإقتران الأكيد بينه وبين رسول الله ﷺ وآله.
فالجاهل الذي لا يعرف الحقيقة وينكرها يعدّ ظالمًا وجائرًا، ولكن المنافق الذي ينكر الحقيقة عن علم ومعرفة يكون أشدّ ظلمًا وأكثر جورًا؛ لأنه ينكر ذلك مع الترصد والإصرار، وعلى هذا؛ فإن ما يميزّ شيعة علي ﴿؏﴾ ويضمن لهم الجنّة هو إصرارهم وإيمانهم بهذا القرن؛ فهو ليس قرنًا اجتماعيًا فحسب، بل هو قرن إلهي؛ يقول تعالى في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعوا اللَّهَ وَأَطِيعوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ﴾ النساء: ٥٩
فعندما يتحدث القرآن الكريم عن إطاعة الله ﷻ وإطاعة الرسول (ص) يقرن بينها وبين إطاعة أولي الأمر؛ بحيث يجعلها في عرض واحد وإن لم يكونوا كذلك من حيثية الوجود، إذ لا يمكن أن يكون أحد في عرض الله جلّ وعلا في الوجود والقول بذلك يقتضي الشرك والعياذ بالله، أما في مقام الطاعة لله سبحانه يقول تعالى: ﴿أَطِيعوا اللَّهَ وَأَطِيعوا الرَّسُولَ﴾ فالواو حرف العطف تفيد الاشتراك في الحكم.
ثم تقول الآية الشريفة: ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ﴾ فالحديث هنا ليس عن الذات الإلهية، فلا شك أن الله سبحانه وتعالى الصمد الذي لا يرتفع إلى مقامه ومكانه وتجرده موجود، وإنما الحديث عن مقام الطاعة والانقياد. وهناك نكتة لطيفة في هذا القرن بين طاعة الله ﷻ وطاعة رسول الله (ص) وآله لأنه يمكن لكل أحد إذا جعل فاصلة بين طاعة رسول الله وطاعة الله أن يتخذ كل إله غير الله سبحانه، فحتى المشركين في عبادتهم للأصنام يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى: ﴿ألَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ الزمر: ٣
فإذا أردنا أن ننفي قولهم لا بدّ أن يكون هناك رسول واجب الطاعة، وهو يحدد لنا كيفية العبادة، وإلا لادعى الجميع العبادة والزلفى والوصول للمقامات الروحية والمعنوية؛ البوذي، والمسيحي، واليهودي، بل حتى المرتاضين من الهنود الذين يعبدون البقر سوف يدّعون ذلك، ولكن مع القرن بطاعة رسول الله (ص) سينكسر هذا الادعاء؛ وذلك لأنه (ص) قد جاء ليحارب كل أنواع هذا الشرك وصنوفه؛ لذا فإن نفس هذه النسبة من إطاعة رسول الله (ص) واجبة لأمير المؤمنين ﴿؏﴾ بمقتضى آية الولاية: ﴿إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعونَ﴾ المائدة: ٥٥، فالآية الشريفة قد حددت العمل المصداقي في الخارج لهذا الولي ﴿وَهُمْ رَاكِعونَ﴾.
وهذه الطاعة المفروضة لأمير المؤمنين ﴿؏﴾ من الواضحات عقلًا وسلوكًا وقرآنيًا؛ فمن القبيح جدًا أن تقرر أمة أن تفصل بين الله ورسله؛ كما جاء في الآية الشريفة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعضٍ﴾ النساء: ١٥٠، وعلى هذا فإن الفصل بين رسول الله (ص) وأمير المؤمنين ﴿؏﴾ قبيح في العقل العرفي الاجتماعي، وهو الذي فتح للعدو الأول -المنافقين- ثغرة ومنفذًا للتغلغل مما أدى إلى نفوذهم في جسم الأمة الإسلامية.
وكشاهد لبيان ذلك: فإننا عندما نخترع فضائل لفلان وفلان؛ وننسبها لغير أمير المؤمنين ﴿؏﴾؛ فسيكون ذلك مظلومية لأمير المؤمنين ﴿؏﴾، فمثلًا: إذا كان رسول الله (ص) قد فتح بابًا لعلي في المسجد وفلان له خوخة(٥)، فإذا نُسب ذلك لفلان؛ فسيكون نسبة فتح الباب لغير علي ﴿؏﴾ منفذًا وطريقًا لنسبة الفضائل لغيره، وهذه هي أكبر مظلومية لعلي ﴿؏﴾.
الفصل بين رسول الله (ص) وآله وأمير المؤمنين ﴿؏﴾ مفتاح المآسي والويلات:
المظلومية الكبرى التي حدثت في التاريخ وتحدثنا عنها هي التي فتحت مظلوميات مهولة؛ منها الطريقة التي قتل فيها أمير المؤمنين ﴿؏﴾، فقد جاء في الرواية الطويلة التي ذكرها رسول الله (ص) في شهر رمضان المبارك، فبعد أن ذكر بركات هذا الشهر الكريم، أخذ رسول الله (ص) الوجد(٦)، فبكى حتى تخضب بدموعه(٧) فقال علي ﴿؏﴾: ما الذي يبكيك يا رسول الله؟ فقال (ص): أبكي لما يستحل بك في هذا الشهر يا علي؛ لأن رسول الله يعلم أن الأمة إذا فصلت علي ﴿؏﴾ وأنزلته عن مقام طاعة الله ﷻ ورسوله (ص) وجعلت بينهم فاصلًا؛ فإن الأمور ستنتهي لا محالة إلى فرد علي ﴿؏﴾ وبقاءه وأهل بيته ﴿؏﴾ وحيدًا، حتى يصبح مسلوبًا منهوبًا حقه.
ففي مثل هذه الليلة(٨) علي ﴿؏﴾ كان عند ابنته أم كلثوم(٩) حيث جرت المقادير الإلهية أن ترى عيني علي ﴿؏﴾ ملأى بأحاديث وأمور كثيرة، فقد كان رامقًا في هذه الليلة(١٠) ثم خرج ونظر نحو النجوم وقال: “إنها الليلة التي واعدني رسول الله، إنها الليلة”، حتى قرب الفجر وهو قائم وراكع وساجد، أراد علي ﴿؏﴾ أن يخرج للمسجد فتوسلت به عقيلة الطالبيين ﴿؏﴾: يا أبتي ليصلي عنك الحسن أو الحسين ﴿؏﴾، وكأنها سلام الله عليها قرأت في عينه كل شيء، وعرفت كل شيء، وكأن بقلبها يخفق أو ربما (يخرج) من بدنها ويطوف حول علي ﴿؏﴾، فتح علي ﴿؏﴾ الباب لكي يخرج فتعلقت حديدة بإزاره فشدّ إزاره وقال:
اشدد حيازيمك للموت *** فإن الموت لاقيك
ولا تجــزع من المـــوت *** إذا حلّ بواديك
عظم الله أجوركم..
وإنا لله وإنا إليه راجعون ..
١. مسند الإمام الرضا (ع) – الشيخ عزيز الله عطاردي – ج: ١ – ص: ٣٣٥
٢. وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حِجره وأنا وَلدٌ، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويُمسُّني جسده، ويُشِمني عَرْفَه. وكان يمضغ الشيء ثمّ يُلقمنيه، وما وجَدَ لي كذبةً في قولٍ، ولا خطلةً في فعلٍ… ولقد كنتُ أتّبعهُ اتّباعَ الفصيل اثرَ اُمِه، يرفع لي في كل يومٍ من أخلاقه عَلَماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاورُ في كل سنةٍ بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيتٌ واحد يومئذ في الإسلام غيرَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجةَ وأنا، أرى نور الوحي والرسالة وأشمُّ ريح النبوة… (نهج البلاغة خطبة ١٩٢)
٣.”فأودع قلوبهم أحقادًا بدرية وخيبرية وحنينية وغيرهن، فأضبت على عداوته” دعاء الندبة.
٤. فرحة الغري – السيد ابن طاووس –
٥. الخوخة: القطعة المكسورة بالجدار.
٦. الوجد: أي وجد ألما في قلبه.
٧. تخضبت لحيته بدموعه: اصطبغت لحية رسول الله بدموعه.
٨. أمير المؤمنين عليه السلام عند ابنته أم كلثوم (قالت أم كلثوم رضي الله عنها: كان أمير المؤمنين عليه السلام يفطر في شهر رمضان الذي قتل فيه ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند أم كلثوم. فلما كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان، قدمت إليه عند إفطاره طبقا فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح جريش، فلما فرغ من صلاته أقبل على فطوره…. فأكل قرصا واحدا بالملح الجريش، ثم حمد الله وأثنى عليه، ولم يزل تلك الليلة قائما وقاعدا وراكعا وساجدا، يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كذبت ولا كذبت، إنها الليلة التي وعدت! ثم يعود إلى مصلاه ويقول: اللهم بارك لي في الموت، ويكثر من قول لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويصلي على النبي وآله ويستغفر الله كثيرا.
قالت أم كلثوم: فجعلت أرقب وقت الأذان، فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء وقام ولبس ثيابه وفتح بابه، ثم نزل إلى الدار وكان في الدار إوز قد أهدي إلى أخي الحسين، فلما نزل خرجن ورائه وصحن في وجهه، وكن قبل تلك الليل لم يصحن! فقال عليه السلام: لا إله إلا الله، صوائح تتبعها نوائح، وفي غداة غد يظهر القضاء، فقلت له: يا أبه هكذا تتطير، قال: يا بنية ما منا أهل البيت من يتطير ولا يتطير به.
ولما أراد الخروج تعلقت حديدة من الباب على مئزره، فشد إزاره وهو يقول:
أشدد حيازيمك للموت *** فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت *** إذا حل بواديكا. (نهج السعادة: ج: 7 / ص: 120).
٩. المقصود من ذلك ابنته السيدة زينب.
١٠. أي أنه يأخذ فراشه لحظة ويضع رأسه على الفراش لحظة.
0 تعليق