آلاف التباريك والتّهاني نزفها لمقام النّبي الأعظم صلوات الله عليه وآله ولمراجعنا العظام سيّما السيّد القائد والحضور الكريم لنزول النّور العلوي من عالم النّور إلى باطن الكعبة في صورة (الإنسان الكامل).*
ويكفيه سلام الله عليه فخرًا بأن كل الأضداد تتغنى باسمه؛ فالشجاع والمقدام، والمسالم المحجم، والعاشق العارف والفقيه الحاذق والممسك عن الرأي كلها تنسب نفسها لعليّ الفضيلة والكمال.
ولأنه (؏) خليفة الله ﷻ وعلى معرفته جُمعت العقول المتباينة، فالكون يضج بالانتماء إليه، وأنىٰ يُحصي آلاءه العادّون وهو نعمة الله التي لا تحصى ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ النحل: 18.
هذا علي (؏) في معرفته بحده الأدنى، أو المعرفة الصغرى، وأما علي (؏) في حده الأعلى ومعرفته الكبرى هو ما يفسّره قول النّبي الأكرم (ص): “إنك ترى ما أرى، وتسمع ما أسمع، ولكنك لست بنبيّ” وهو الذي يطابق
ما قاله القرآن في شأن النبي (ص): ﴿لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ﴾ النجم: 18 وأمام هذه المقولة للنّبي الأعظم نضع هنا هذين السؤالين:
الأول: ماذا يرى النّبي الأكرم (ص)؟
والثاني: كيف يمكن أن يرى ويسمع إنسانان مختلفان في العمر، والزمان والمكان والوجود، مطلق ما يسمعه ويراه الآخر؟!
وللإجابة على ذلك نقول:
ماذا كان يرى النبي الأكرم (ص)؟
لقد نصّ القرآن الكريم أن النّبي (ص) يرى آيات الله ﷻ الكبرى، وأنه عُرج به إلى السماء ﴿فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ… لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ﴾ النجم: 10_18، وهذه الآيات من سورة النجم تختلف تمامًا عن آيات سورة الشعراء والتي تتحدث عن تنزل القرآن من عالم اللوح المحفوظ إلى قلب النّبي الأكرم (ص) ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَىٰ قَلْبِكَ…﴾ الشعراء: ١٩٣- ١٩٤ والآيات في سورة القدر ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ القدر:4
الآيات من سورة النجم تتحدث عن أمر آخر، رؤية وسماع من نوع آخر، إذ لم يعد هناك واسطة بين النّبي (ص) وبين ربه، فهو المُسرى به، قد بلغ مقام قاب قوسين أو أدنى، يسمع فيه النّبي (ص) من الله ﷻ بشكل مباشر وبلا واسطة، ويرى بلا حجاب، وليس هناك إلا الربوبية المطلقة، والعبودية المطلقة.
ولفخامة هذا الوحي وعظمته وخصوصية معناه وعدم القدرة على اكتناهه فقد عبر عنه القرآن: (فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ)!.
وهذا المقام هو ما احتج به الإمام زين العابدين (؏) في مجلس الطاغية يزيد في الشام حيث قال: “أنا ابنُ مَن دَنا فتدلّى، فكان قابَ قوسَينِ أو أدنى، أنا ابنُ مَن صلّى بملائكة السماء، أنا ابن مَن أوحى إليه الجليلُ ما أوحى”. وإنما يصلح الاحتجاج وهذه الحال التي كان فيها الإمام زين العابدين (؏) – وهو المُقيّد بأغلال الظلم والجور والطغيان – بالاحتجاج بمقام (المطلق) عن جميع الأغلال وهو مقام رفيع ومنيع.
إنّ معنى أن يرى عليّ(؏) ما يراه رسول الله (ص) لا يعني ما يقوله أحدنا لمن يوافقه في الرأي و العقيدة:” أنا أرى رأيك، أورأيي من رأيِك”، ولا يعني ما يقوله أحدنا لمن يطيعه وينقاد له في الفكر والمسلك: “لا أرى إلّا ما تراه” فهذا كان ثابتا لسلمان وأبي ذر وكلّ من امتثل وانقاد لرسول الله (ص)، بل يعني أنّ عليّا (؏) الذي هو نفس رسول الله (ص) كان يرى واقعا ما يراه رسول الله (ص) من الحقائق الإلهية والآيات الكبرى. ويدل على ذلك:
أولا: السياق الذي جاءت فيه المقولة، فقد كانت هذه المقولة في غار حراء وحين ارتباطه (ص) بالوحي، يقول علي (؏): (أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم…)(1).
وثانيا: كان القول لعلي (؏) بنحو الإطلاق (إنك ترى ما أرى، وتسمع ما أسمع).
إذن نستخلص أن ما يراه علي (؏) أوج ما يراه النّبي الأكرم (ص).
إننا نُحاج بعلم علي (؏) في أنه حلّال المشاكل، وليس من معضلة إلا ولها أبو الحسن (؏) ولولاه (لهلك فلان وفلان .. )
أما في هذه الرؤية والمرتبة، فلولاه (؏) لهلك واحترق الوجود، ولم يعد له قيمة ولا هدفية، ولا غاية للخلق، ولا علّة ولا تبرير، ويسكت العقل عن طلب المزيد من إدراك حكمة الله ﷻ في الخلق، ويبقى البصير الفطن يبحث عن النقطة الأخيرة والنهائية لكلّ هذا الوجود، إلى أين؟
هذا هو علي (؏) في علمه الأكبر، وسمعه وبصره، فمن ذا لا يفاخر به، وكيف يُسَاوى به غيره؟!
باب من العلم يفتح منه ألف باب!
أما السؤال الثاني: كيف يرى ويسمع إنسانان مختلفان في العمر والزمان والمكان والوجود مطلق ما يسمعه ويراه الآخر ؟!!
وللجواب على ذلك نقول: إن هذه الأسئلة تتولّد من منطقة جهلنا بالأمور الواقعية، وأغلب تثقيفنا لأبنائنا – وللأسف – مداره حول مواقف الإمام علي (؏) وشجاعته وبطولاته، وزهده وعلمه العميق وقصصه في حلّ المشاكل والمعضلات الرياضية والفيزيائية والقضائية أو الأحجيات الغريبة، فيعجبون بها صغارًا، ولكن إذا ما كبروا ورأوا التّقدم العلمي والتكنولوجي والطبي ووو .. يصغر (علي) في نظرهم، ومن ثم وبالتدريج يفقدون حسّ الولاية النّوري، ويغرقون في بصيص نور العلم الذي ينتجه الإنسان فحسب.
وهنا نؤكد: يجب علينا أن نعود لتنقيح وتعلم وتعليم المباني والمؤهلات الواقعية التي جعلت من الإمام علي (؏) لا يرقى إليه الطير، وينحدر عنه السيل.
وللإجابة عن هذا السؤال الفلسفي الدقيق نقول:
إن محدودية علومنا جعلتنا نتصور أن الحواس الظاهرية؛ كالعين والسمع هي المنافذ الموصلة لرؤية الأشياء، أو معرفة حقيقتها، ونغفل ما ثبت في العلوم العقلية ومن خلال التجربة الروحية أن هناك أبوابًا للمعرفة وليس مجرد منافذ، وهي أكثر سعة ودقة، لا تخطئ الواقع، ففي داخلنا سمع آخر، وبصر آخر.
قال تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ الحج: 46، إذن فالقرآن يُقرّ أن هناك بصرا ظاهريا سليما، وهذا لا يعمى، نعم قد يصيبه الاغتشاش أحيانًا، لكنّه يبقى سليمًا بكل آلياته. وهذا السمع والبصر الظاهري هو ما قد يَرد عليه السؤال: فكيف يسمع شخصان أو أشخاص متعددون كلامًا واحدًا من مصدر واحد وبلا آلة مساعدة مع اختلاف مكانهما وزمانهما؟!
إن حقيقة السمع والرؤية أوسع من هاتين النافذتين الضيقتين؛ فهناك أبواب، وليست مجرد نوافذ، أبواب باطنية مجردة عن الحاجة لآلة السمع الظاهري، ومستغنية عن قوالب الكلمات الضيّقة، إنها تعتمد على صوت البصيرة وليس درجة الباصرة وسلامة البصر الظاهري.
هناك من تحيط به الخطيئة فتعمى بصيرته كما يعبر القرآن الكريم: ﴿بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ البقرة: 81، ﴿كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ المطففين: 14، وفي المقابل هناك من يكون سمعه وبصره صيقليّا، حاذقا لبيبا، لا تخفى عليه حادثة سماوية، فضلًا عن أحداث الأرض! وهذا ما فتحه رسول الله (ص) لعليّ (؏) حيث قال: (إنّ رسول الله ﷺ علمني ألف باب من العلم، يفتح كل باب ألف باب، ولم يُعلِّم ذلك أحدا غيري)(2).
السعيد كل السعيد حق السعيد
ولو تسائلنا: ما الفائدة للنّاس من هذا السمع، وهذه الرؤية؟
إنها لفائدةٌ أعظم من فتح باب خيبر، وقتل عمرو بن ودّ العامري، ونجاة المسلمين في خيبر وحنين وتخليصهم من حيل معاوية، وعمرو بن العاص في صفين.
فهناك معارك وعقبات كؤود خلفنا، عالم نستقبله نحتاج فيه إلى عضلات البصيرة، وقوتها وقدرتها على تشخيص الحق من الباطل، في ذلك العالم نحتاج علي (؏) وكما رُوي عنه (؏) قوله: “إن لي مع كل موالٍ عينًا باصرة، وأذن سامعة”.
هنا وهناك، لا نغدو في مكان إلا ونحتاج لعلميّ الإمام علي الأصغر والأكبر. وإذا اغتششنا في حواسنا المادية، سيفتح (؏) لُبنا لنوافذ المعرفة في هذا العالم، وبلا شك سنكون هناك أكثر حاجة ليفتح لنا (؏) أبواب الرحمة الإلهية لنرى جمال ذلك العالم وجلاله.
وفي خطبة له (؏) يقول: “وناظر قلب اللبيب به يبصر أمده، ويعرف غوره ونجده، داع دعا، وراع رعى، فاستجيبوا للداعي، واتبعوا الراعي”(3).
ومعنى ذلك أن قلب اللبيب -اللب هو أوج المعرفة والتعقل- له عين يبصر بها غايته. وواضح أن المقصود بالبصر هنا ليس آلة العين الباصرة المادية؛ فترى الغايات، وتغور في الأعماق، وترى المرتفعات والمنخفضات، فهذه العين ليست التي يجري لها قلب اللبيب، فيعرف من الأحوال المستقبلة ما كان مرتفعًا أو منخفضًا ساقطًا.
وأما قوله (؏): ويعرف غور نجده – النجد هو المرتفع من الأرض -، ومنه قولهم للعالم بالأمور: “طلاع أنجد”، هو إشارة إلى بركة وجوده (؏) المتحدة مع وجود النّبي الأكرم (ص) إذ قال (؏): “داع دعا، وراع رعى”، معبرًا بالداعي عن رسول الله (ص)، وبالراعي -وهو الذي يرعى الأغنام عن الذئاب، والمساقط والمهاوي- هو نفسه (ع).
فهذا علي (؏) والذي يرى ببصيرته، وعلو نجده ورؤيته لآيات الله ﷻ، والسعيد هو من عرف عليّا (ع) بهذه المعرفة ووالاه وأحبه لها كما روي عن الصدّيقة الزهراء (؏): “فإن السعيد كلّ السعيد حق السعيد من أحب عليًا في حياته وبعد مماته”(4) .
والملفت أن القرآن الكريم لم يستخدم مصطلح السعادة إلا في الجنة ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ هود: 108 ،وإن هذا لهو النعيم، حق النعيم.
* ذكرى ميلاد الإمام علي بن أبي طالب (ع) في عام 1440هـ
1. نهج البلاغة، الخطبة 190
2. الخصال: ص572، ج1
3. نهج البلاغة، الخطبة 154
4. الرياض النضرة في مناقب العشرة – ج٣ ص ١٦٤
0 تعليق