تقدم القراءة:

اللهم تقبل منا هذا القربان ٨

الأحد 30 سبتمبر 2018مساءًالأحد

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

القاسم ابن الحسن قربان بقدر ما هو مؤلم هو ملهم أيضا، تتساوى فيه الآلام والإلهام، فاتح لكل معاني التقرب! هناك أسباب كثيرة تدعوا القوم لأن يحجموا عن قتله: قرابته الماسة من رسول الله (ص)، براءته وطفولته، يتمه، وإن جميع هؤلاء لا يطلبون الإمام الحسن (ع) لا بثأر ولا بمحجمة من دم! ولكن يجب أن لا نستغرب من التاريخ ولا نلتمس لهؤلاء الأوباش العذر، فإن قتل الطفولة والبراءة والإيمان صورة بشعة يكررها التاريخ.

هنا نناقش من يحاول أن يفترض أن الديانات والعقائد والمذاهب يتساوى فيها محقها ومبطلها وكذلك القناعات، وأنّها سبب لتعذير الإنسان دائما وفي كل حال. ـ وقد بحث هذا الموضوع في علم الأصول وعلم الكلام ولكن ينقل مبتورا ويخلط فيه بين الواقع وبين والفهم الخاطئ ـ .

سؤال مهمّ: هل يمكن للوهم أن يكون مبدءً للقيم والأخلاق؟!

هل يمكن للوهم أن يحرك في الإنسان الميل للقيم والمبادئ العالية؟!

بمعنى أن مبادئ هذه القناعات والتي نشأت عن ظنون وعن تجميع صور في الواهمة هل يمكن أن تحرك في الإنسان القيم الإنسانية؟ هل يمكن أن تصدر الأخلاق – التي من شأنها دفع الإنسان باتجاه الكرامة والحرية وطلب الخير – عن هذه الديانات والمذاهب التي لا تطابق الحق والحقيقة؟ هل يتولد هذا عن هذا؟! هذا سؤال مهم جدا.

القيم والأخلاق الإنسانيّة تنشأ عن العقل العمليّ والرؤية التوحيديّة

نجيب على هذا السؤال بإجابتين إحداهما عقلية والأخرى شرعية.

إذا رجعنا إلى فضائل الأخلاق والقيم والكرامة والغيرة سوف نجد أن مبدأها الأخلاقي هو العقل العمليّ، فالإنسان لديه عقل نظري يحل به المسائل الرياضية والعلمية ولديه عقل عمليّ يتخذ به المواقف العمليّة.

وإذا لم يحرك الإنسان عقله العملي هل يمكن أن ينشأ عنه أمر نسميه عبادة وطاعة وإن صبغناه باسم العبادات وباسم الطاعات والقيم؟ وهل نجد ذريعة لهؤلاء ونقول يستحقون المدح والثناء والأجر؟

الدين يؤكد أن العقل العملي فقط هو (ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان).

حتى يكون العمل مقربا لله يجب أن ينشأ عن عقل عمليّ بغرض اكتساب الرضا، والعقل العملي هو ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان ـ هذا من جهة نصّ شرعيّ ـ كل عمل يقوم به الإنسان ولم ينشأ من العقل، إنما نشأ من الوهم والاحتمال والظن ومن تركيب الصور الخاطئة من أيٍّ كان: بوذي أو مسلم أو زرادشتي أو مسيحي… حتّى لو صبغ العمل بصبغة إنسانية لكنّه ما دام لم تكتسب به الجنان ولم يطلب به رضا الرحمن، فهو لم يتحرك من منشأ العقل العملي وإنما تحرك من باحة الواهمة والتي لاتمتلك القدرة والاستطاعة على أن تحرك حس الكرامة والإنسانية والوجدان الصافي، هذه المرحلة هي أدون بكثير من مرحلة التعقّل العمليّ.

وأما من جهة الأبحاث الكلامية والعقلية فمحال أن تتحرك وأن تتعبّأ محركات الإنسان إلا من فكره ورؤيته. فالإنسان المشرك الذي لا يعرف الله سبحانه وتعالى لن تكون رؤيته توحيديّة، وإنما رؤية ناشئة من الهوى والشيطان ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ البقرة/165

لم يقل ندًّ بل أنداد! فكل ما هو لله يعطونه لهؤلاء الأنداد! هؤلاء الناس محال أن تتحرك فيهم معالي الأخلاق والفضائل، لأنها لا تُدرَك إلّا إذا طابقت الواقع، ولا تُدرك إلا عندما تتحرك من مساحة العقل الصافي الصرف. القرآن عندما يقول: (ولكن لا يعقلون) (لكنهم لا يعقلون) (لعلهم يعقلون) يريد أن يقول: أن الأعمال التي تنشأ من مرحلة العقل هذه الأعمال لها قيمة وتحرك في الإنسان الأبعاد القيميّة، فإذا نزل الإنسان من مرحلة العقل أصبح بهيمة!

مثال: يقولون عن الكلب أنه وفيّ، يُضفون عليه هذا التعبير الإنسانيّ في حين أنّ الكلب هو كلب! وهو يأتي بهذه الحركات كالآلة، إمّا عن دافع غريزيّ قاهر له باتجاه واحد لا ثاني له وإمّا عن تدريب وتكرار خالٍ عن الإرادة والاختيار والشعور والتمييز، فما يتوفّر فيه هو البعد البهيمي، نعم أنت ترى صورة تشبه الوفاء. وهكذا الحال مع الإنسان الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، أو المؤمن بمسمّى الله سبحانه وتعالى وبمسمى اليوم الآخر، أسماءً لا واقع ولا حقيقة لها، هذا الإنسان ـ أعلى الله مقامكم ـ  كالكلب يصدر عنه شيء نسميه وفاء، يصدر عنه شيء نسميه التزام بالقانون، الوفاء يحتاج إلى إدراك وإلى عقل ووجود خيارات مختلفة وبواعث خيّرة، يحتاج إلى إرادة رضا الله بالمعنى الإنساني.

لذلك فرق بين أن يتحرّك الإنسان من بعد الواهمة فتصدر عنه أفعال تعجبنا من حيث الشكل ـ كأن يلبس جيدا، ويأكل بالملعقة جيداً، ويتفاهم مع البائع جيداً… هذه كلّها أمور قانونية مفروضة عليه ـ وبين أن يتحرّك من بعده العقليّ العمليّ.

ومجمل القول:

أن الفعل الأخلاقي في النظريّة الإسلاميّة لا يمكن أن يصدر عن إنسان ليس عنده حسن فعليّ وحسن فاعليّ، أي ليس عنده عقل ناضج يُدرك التوحيد ويُدرك وجود الله ويرجو لقاء الله.

كلام جلال الدين الرومي ودعوى وحدة الأديان  

توجد مسألة أريد أن ألفت إليها وقد انتشرت انتشاراً كبيراً خصوصاً مؤخّراً، حيث انفتح الناس على أشعار وآداب العرفاء والفلاسفة وقرؤوا لابن عربي وجلال الدين الرومي ـ ولا شكّ أن المادة الموجودة مادّة عرفانية وجذابة جداً ـ فكلام جلال الدين الرومي لا يستشهد به الإسلاميّون والمتديّنون فقط، بل حتى البوذي والزرادشتي والكافر والمشرك… كلامه رائع وجذاب جدا. لن أستطيع أن أتكلم عن ابن عربي لكن يكفي أن أنقل كلمة صاحب الميزان الذي يقول: ما جاء أحد في الإسلام بسطر مما كتبه ابن عربي! ابن عربي عارف كبير ولا يفهم كلامه إلا المتخصّصون في العرفان، فمن بين كل ألف شخص يدّعي فهمه للعرفان هناك واحد فقط ممن يفهم كلام ابن عربي، الإمام الخميني مثلا وصاحب الميزان يفهمونه. هناك إعجاب كبير بجلال الدين الرومي، ليس عندنا نحن العرب، فنحن بشكل عام قليلا ما نقرأ ونتابع، والقليل من يطلع على هذه الظواهر من جهة ثقافية وفكرية.

لنتكلم عن جلال الدين الرومي لأنه أصبح فعلا كل من أراد أن يعمل برنامجاً أو مسلسلاً أو فيلماً أو شيئاً جميلاً يُدخل فيه جلال الدين الرومي، لأن نتاج جلال الدين الرومي عميق جداً وله تماس واتصال بالتوحيد الخالص الصافي، له ديوان باسم (ديوان مثنوي) وكتب فيه (مثنويّاته) أي أشعاره. يقول السيد القائد حفظه الله سألني الشهيد مطهري قال لي: ما رأيك في (ديوان مثنوي) لجلال الدين الرومي؟ ـ نلاحظ أنه لم يسأله عن رأيه في جلال الدين بل في ديوانه ـ السيد القائد لم يمتدح جلال الدين الرومي، قال للشهيد مطهري: أنا أرى أن ما قاله جلال الدين الرومي في المثنوي (أصل أصل أصول الدين!)، فردّ عليه الشهيد مطهري: أنا أوافقك وأتفق معك على أنّ هذا المدعى صحيح.

وفي هذا المقام نوضح ما ذهب إليه الكثيرون من أن هذا دعوى إلى وحدة الأديان والدين الحبّيّ والدين المتسامح والدين الرحمانيّ، وأنّ هذا كلّه مستفاد من المثنوي.

في الحقيقة هم لم يفهموا ماذا يقول المثنوي، المثنوي فيه من الشعر ما يتكلم عن ارتباطنا بالله سبحانه وتعالى وارتباطنا بالتوحيد فيقول مخاطباً الله سبحانه وتعالى: إذا كنا نحن موجودون فلأن روحنا قد مزجت بروحك، أي روحان ممتزجتان ببعضهما، وهذا المعنى مستفاد من الآية ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ الحجر /29 ثم يقول: طالما أنت موجود فنحن موجودون، نحن لم نوجد للتوّ، بل نحن وجدنا من الأصل، لأنّنا  لسنا سوى نفخة من روح الله سبحانه وتعالى، فقد عبر ـ سبحانه ـ بـ (روحي) وهذا التعبير ليس من العرفاء، وإنما القرآن يقول: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ الحجر /29 ثم يقول: إن مشكلتنا أننا لا نعرف ماذا ومن نحن؟ ـ علم إيران سابقا كان قد رسم عليه أسد ـ ، فيقول نحن الأسد المرسوم على العلم، أي نحن لسنا أسدا شجاعا قويّا حقيقيّا، نحن كلنا كالأسود المرسومة في العلم التي هي شعار. العلم لأي بلد يضعون عليه شعارا، هذا الشعار هل هو نفس البلد؟! هذا الشعار هل هو البر والبحر والأرض والسماء والإمكانيات الموجودة في البلد؟! هذا صرف شعار. فيقول: روحنا في الحقيقة ذاك الأسد المرسوم في العلم، نتخيل أنفسنا أننا نمتلك قوة والقوة الحقيقيّة لله جميعا، حركاتنا وشجاعتنا الموهومة هي ليست إلا بسبب الرياح التي تحرّكنا ولا نراها، الرياح هي أفعال الله ويُخيل للآخرين أننا أقوياء وأننا نزأر، قوتنا وزئيرنا ليس منا نحن، لسنا إلا رسمة وشعارا لهذا الأسد، كلّ حملاتنا وحركاتنا من هذه الرياح، وهذه الرياح غارقة في الغيب. ثم يقول: روحي فداء للخفيّ القويّ غير المرئيّ. ويقول: هذه هي عين اللذة! أنت يا إلهي أوجدت العشق فينا أوّلا فعشقناك. هذه الأشعار تحتاج إلى شخص يعرف المباني العرفانيّة الأساسيّة حتى يفهم أن ليس معناها أنّ كلّ موجود هو منسوب لله فيستحقّ الحبّ والتعلقّ، ليست المسألة كذلك.

حتى أوضح المسألة بصورة أجلى يجب أن أبيّن الفرق بين أصالة الحبّ الجاري والساري في هذه الموجودات الذي يتكلّم عنه العرفاء وبين الحبّ الذي نتصوّره. ـ الحبّ الذي نتصوره هو الحبّ الذي يقابله البغض ـ وإنما يتكلمون عن حب مطلق لا يقابله شيء. الخلاصة أننا إذا نظرنا إلى كل الأشياء والأحداث والموجودات ورأيناها في جانبها التكوينيّ ونسبناها لله سبحانه سنرى أن كل الموجودات حتى الكافر بدنه ساجد لله سبحانه يقول: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ۩﴾ الرعد/ 15.

المشرك الذي لا يعبد الله ولا يسجد له، الكافر، الملحد، البعثيّ، الشيوعيّ… إذا نظرنا له نظرة تكوينية بما هو متصل في وجوده بالوجود المطلق لله فيكون هذا الوجود ساجدا لله بالغدوّ والآصال، حتى ظلاله أيضا. ـ راجعوا هذا المعنى في الميزان ـ الموجودات وكلّ آثارها ساجدة لله تكوينا. نحن نطيع الله تشريعا وقد لا نطيعه أحيانا، ولكن فطرتنا واتصالنا بالله وتعلقنا به تكوينا ليس إراديّا وليس اختياريّا، والأمر غير الاختياري لا يثاب ولا يمدح ولا يشكر عليه الإنسان، هذه مسألة حقيقية. هذا التوحيد الصرف الخالص الذي لا يعطي شيئا حصّة من الوجود منفكة عن الله، فسواء كان الإنسان مؤمنا ومقتنعا بالله أو غير مقتنع بالله، راضيا بالحقائق أو غير راضٍ، فالكلّ من الله وخاضع لله.

حتى مسألة الكرامات ليست دليلا، فهذا الكافر أو البوذي الذي توسّل بآلهته وقضيت حاجته من الذي استجاب له وقضى حاجته؟ هو الله يمد هذا وذاك مدّا تكوينيّا ﴿كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ﴾ الاسراء/ 20 . الإنسان يثاب على انتخاباته التشريعيّة، الإنسان هذه مرحلته ومساحته،  وبمقدار ما يتحرّك في موقعه وفي انتخابه يثاب. أما ما يتكلم فيه العرفاء في جانب الحبّ فهو عن تلك المرحلة التوحيديّة التي لا يصل لها إلّا المعصوم الطاهر الصافي المنطبق تماما تشريعه على تكوينه. كلّ الموجودات هي ساجدة لله، والقرآن يؤكّد لنا أنّنا لا نفهم هذا المقدار من الانقياد لله سبحانه وطاعة الله وبروز الجمال والكمال عن هذه الأشياء في جانب اتصالها التكوينيّ بالله، يقول تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ﴾ الإسراء/ 44

 الذي يسبح لله ألا يستحق الحبّ؟! ألا يوجد به منظر جماليّ؟! ألا يعكس منظرا كماليّا جذّابا؟! لكن لا تفهمون ولا تفقهون تسبيحهم. الإنسان لا يفقه هذا التسبيح إلا عندما يُدرك ويصل إلى معنى التوحيد الخالص الذي يتكلّم عنه العرفاء، لذلك يقول العرفاء أنه حتى فرعون يسبّح بحمد الله وأنه مظهر من مظاهر الجمال! إذا حللنا هذا المعنى وفكّكنا بين الجمال التكوينيّ الموهوب من قبل الله سبحانه وبين حركة الإنسان الاختياريّة والجمال التشريعيّ سوف نرى أنّ العرفاء عندما يتكلّمون فهم يتكلّمون عن الجانب التكوينيّ ويثنون عليه.

     هذا الحبّ المنتشر في كلّ الموجودات لا يجعلنا نعذر الذين يقعون في الوهم والخيال ويقتنعون بالقناعات الباطلة باختيارهم. أستاذنا الجوادي يقول: وقد أشار الله سبحانه إلى سجود كلّ أجزاء العالم، حتى بدن الكافر ظله ساجد لله سبحانه! هذه المحبّة التكوينيّة الموجودة في الإنسان لا تعدّ من أفعال الإنسان الإختياريّة، متى يصبح الإنسان كلّه جمال؟ عندما تجتمع هذه الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة.

الحبّ المطلق والحب مقابل البراءة

      أوضح هذا المعنى بصورة أخرى. في مراحل السير والسلوك يبدأ الإنسان يعادي ويبغض شيئا ويحبّ شيئا: “وَلِىٌّ لِمَنْ والاكُمْ وَعَدُوٌّ لِمَنْ عاداكُمْ”(١)

أولا : مرحلة البراءة

   يبدأ أوّلا يسير في طريق البراءة، ثمّ يصل إلى وادي الأمن والسلام وإلى ولاية أهل البيت (ع) عند ذلك تسقط البراءة في ذاك العالم وفي تلك المرحلة.

البعض يدّعي جواز التعبد بكلّ الأديان وقبول كلّ القناعات، والتبرير لكلّ القناعات، وأنّ الكلّ هو حرّ فيما يرى، وأنّ من كرامة الإنسان أن يعمل بما يقتنع به…!

وهناك من يدافع عن هذا الكلام ويقول: أن هذا القول هو قول ابن عربي!

هو أصلا لم يعرف ماذا يقصد ابن عربي، ولم يعرف ماذا يقصد السيد القائد! السيد القائد يقصد هذا التوحيد الخالص الصرف، ولم يمدح السيد القائد كلّ ما عمله جلال الدين الرومي. وإنّما مدح المثنويّ الذي مُلئ بهذه المعارف العالية الراقية من التوحيد التي تجعل الإنسان يرى نفسه محاطًا من الله سبحانه ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا﴾ النساء/ 126

هذا المعنى يعود لأصل أساسيّ وهو أنّ الإنسان في سيره وسلوكه يسير أولاً بالتبرّي والطرد والإبعاد لأعداء الله سبحانه وتعالى، وكلّ ما يصدّه عن الله، وهذا في حدّ نفسه دفع لما يصدّه عن الله سبحانه وتعالى، فهذا قربان أيضا.

 ثانياً: الولاية ومحبة الله سبحانه وتعالى

     لكن الولاية والبراءة لا يتساويان، ليس في كلّ مكان هناك ولاية وبراءة، البراءة تسقط وتبقى الولاية فقط. البراءة ليست إلا سيفًا كما يعبّر أستاذنا الشيخ جوادي حتى يبعد به الإنسان من يصدّه عن القرب من الله سبحانه وتعالى، فإذا وصل الإنسان إلى باحة الأمن، لا يحتاج إلى براءة هناك، لا يوجد إلا تكوين وطهر، لا يوجد إلّا صحّة وسلامة وأولياء الله، لا يوجد إلّا جنان، هل يحتاج الإنسان إلى البراءة في الجنة؟ يتبرّأ ممّن؟! والجنة ليست إلا مظهرًا من مظاهر حكمة رسول الله وعلم رسول الله (ص)، فهناك لا توجد براءة.

   العرفاء يفترضون أن الإنسان في هذه الدنيا يحلق في البداية بهذين الجناحين البراءة والولاية، ثم يصل إلى الدين الحق، فإذا وصل إلى محض الدين والدين الحقّ وقوائم الدين سوف لا يرى إلا المحبة. والروايات تشير إلى هذا المعنى، عن أمير المؤمنين عليه السلام يقول: “ثُمَّ إِنَّ هذَا الإسْلاَمَ دِينُ اللهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ لِنَفْسهِ، وَاصْطَنَعَهُ عَلى عَيْنِهِ، وَأَصْفَاهُ خِيْرَةَ خَلْقِهِ، وَأَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ”(٢)

المبنى الأساسي الفوقيّ للإسلام مبني على دعائم المحبّة، مبنيّ على الولاية.

ما أجمل أن تجتمع الولايتين: التكوينيّة والتشريعيّة

﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ البقرة/ 257 الله وليّ كلّ أحد، لكن الذين آمنوا اجتمعت فيهم الولاية التكوينيّة والولاية التشريعيّة، لذلك ما أجمل الإنسان عندما يتلبّس بالولايتين! من حيث التكوين جمَّله الله سبحانه وتعالى بالولاية التكوينيّة والاتصال بالله ووضوح النفخ فيه من روح الله سبحانه وتعالى، ومن حيث الاختيار والإرادة ومن حيث إدراك الحقّ والتمسّك بالحق والارتباط بالحق أيضا صار جميلا وكاملا ومتّصلا بالحقّ.

القاسم بن الحسن (ع) واجتماع الولايتين!

     هذه المعاني قد اجتمعت في القاسم ابن الحسن، كيف تتصوّرون هذا الإنسان البريء الطفل الصافي النقي، الوجدان الإيماني التكوينيّ فيه غاية في الجمال، وغاية في الطهر، وغاية في البراءة، وكذلك ضمّ إلى ذلك البرهان والعمل الاختياريّ التشريعيّ، الذي هو غاية في الانقياد لله سبحانه وتعالى، فهو حبّ في حبّ، حبّ في تكوينه وفي مرحلته التكوينيّة، ولاية في ولاية، عندما تجتمع في إنسان هو في عمر القاسم! ـ كما ينقل المؤرخون: خرج علينا غلام لم يبلغ الحلم، وجهه كفلقة القمر ـ إذن هو غير مكلّف، صفحته بيضاء عن الخطايا والآثام والذنوب والعيوب، وربّما هذا يوضّح ما يكرّره الخطباء دائمًا أن القاسم ابن الحسن استحى أن يحتفي في الميدان، الحياء عنده أمر اختياريّ جماليّ، دلالة على أنّ الحبّ التكوينيّ فيه كامل لذلك يستحي.

وكذلك الحبّ للتشريع والإحساس بالكرامة وبالحرية وبالحق وتماسّه بالحق. يستحي أن يكون جنديًا لعمّه الحسين (ع) ويحتفي في الميدان لأنّ الاحتفاء في الميدان دلالة على الضعف ومؤشّر على أنّ عند الإنسان ضعف وخوف، ولهذا تصوّروا منظر هذا الطفل الذي امتلأ من رأسه إلى أخمص أقدامه شجاعة، كرامة، طهارة، طفولة براءة، جمالًا ظاهريّا وجمالا باطنيّا، انظروا إلى هذا الطفل العارف الغارق في وحدانيّة الله، وفي جمال الله، وفي جمال عمّه الحسين، بحيث عندما سأله عمه الحسين عليه السلام ليلة العاشر: كيف ترى الموت يا ابن أخي؟ قال: يا عم فيك أحلى من العسل! تعبير كاشف عن حقيقة وعن واقع، وعن صفاء وطهر، وممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام الحسين كان يرى في القاسم ذلك. ولهذا ينقل في صحاح الروايات والتاريخ أن كلّ من جاء يستأذن الإمام الحسين ويقول له : قد ضاق صدري… كان يأذن له، إلّا القاسم بن الحسن، فعندما جاء يستأذن الإمام الحسين للبراز نظر إليه وقال: يا ابن أخي أنت ريحانتي وشمّامتي من الحسن! فهوى الطفل على قدم عمّه الحسين يقبّلها ويقول: يا عمّ أئذن لي بالبراز… في الخبر فضمّه الحسين إلى صدره، يعني: يا قاسم خذ محبّة، خذ حنان الإمامة ورأفة الإمامة وتوحيد الإمامة – هذا هو الشاهد – فتعانقا وخرج القاسم بكل شجاعة وبسالة يقول:

إن تنكروني فأنا نجل الحسن!

من ذا ينكر قدرك وينكر مقامك؟!

ألا لعنة الله على القوم الظالمين.



١. زيارة عاشوراء

٢. الخطبة: ١٩٨

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 99٬205 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (2)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها