تقدم القراءة:

فلما آسفونا انتقمنا منهم*

الأثنين 2 أبريل 2018صباحًاالأثنين

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)
لرسول الله ولعلي والصدّيقة الطاهرة وأهل بيت العصمة عليهم السلام عظيم الأجر وجزيل الذخر بوفاة عقيلة الطالبين فخر المخدرات زينب بنت أمير المؤمنين (ع).
قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ الزخرف/ 55
يحق لمن عرف علاقة الله بأوليائه، وعرف قدرة الله وشديد نكاله على الأمم التي تنكرت وظلمت واستخفت بآياته وهزأت بمحرماته؛ أن يتساءل: لمَ لم ينتقم الله للعقيلة زينب (ع) في عشية العاشر من المحرم وهو أشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة؟
 وفي مقام الجواب على ذلك نقول:
 إذا تأملنا في ظاهر قصص الأنبياء والرسل وبُنى هذه الآية التي صدّرنا الحديث بها؛ نعرف أنه لا يمنع أمة عن استحقاق العذاب الإلهي والنقمة الربانية إلا أسف الأنبياء وتفاقم آلامهم. وكأن قلوب الأنبياء (ع) هي مركز جريان القضاء الإلهي بالهلاك.
فهذه الآية تقول: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾. وحيث أن الله لا تجري عليه حالات الأسف؛ نسبَ أسف أوليائه الكمّل لنفسه كما في الآية. فالمعنى: فلما آسفوا أوليائنا انتقمنا منهم، أي أن سبب استحقاق نزول العذاب على قوم هو وصول قلب النبي للأسف والغضب؛ لهذا نلحظ أن القرآن يربط بين أحوال قلوب الأنبياء (ع) ونزول العذاب الإلهي، وكقاعدة دالة على ذلك نرى الله يخاطب نبيه (ص) ويقول: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴾ المزمل/ 11 وقد بينّا معنى الآية سابقاً، أي أن الله يطلب من نبيه أن يرفع عن هذا المجرم (الوليد بن المغيرة) جناح رحمته لكي ينزل الله عليه عذابه وكذلك في حق نوح (ع) قال: ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ القمر/ 10،11،12.
العقيلة زينب والعقاب الإلهي
كان ذلك بيان موجز للقاعدة الإلهية التي تربط بين أحوال الأنبياء (ع) ونزول العقاب الإلهي على الأمم العاصية. بيد أن اختراق هذه القاعدة في أحوال الإمام الحسين (ع) والسيدة زينب (ع) كانت لخصوصية فيهما؛ إذ كان بإمكان الإمام الحسين (ع) أن ينتصر بالملائكة – كما في الروايات – وكان بإمكانه أن يُنزل العذاب على قاتليه ومحاربيه وسالبيه والمستخفين بمقامه ومقام أهل بيته؛ لكنه عليه السلام حينما أرهق بالجراحات أخذ من دمه الشريف وخضّب به لحيته المقدسة وقال مامضمونه: هكذا أكون فألقى جدي رسول الله (ص)، وأيضاً كان يأخذ الدم النازف من جسده الشريف ويلقي به إلى السماء(١).
إن نفس هذا المنهج نلحظه في سيرة السيدة زينب (ع)، فكلما هدّد الأعداء بقتل الإمام زين العابدين (ع) كانت تلقي بنفسها عليه، ولعل هذا يكون لنفس السبب الذي كان الإمام الحسين (ع) يصبغ لأجله لحيته بالدم ليلقى رسول الله (ص)، ويشكو إليه ويريه كيف وفى له في النصح لأمته.
وكما أن الحسين (ع) بكل أفعاله حال بين الأمة وبين نزول عذاب الاستئصال، فكذلك السيدة زينب (ع)، فإنه لو قتل الإمام الذي هو حجة الله على الأرض لساخت الأرض بأهلها ولَم يبق منهم باقية.
فهل يمكننا أن نتصور أن قلوب الأنبياء كانت أكثر أسى وأسفًا وحزنًا واحتراقًا من قلب عقيلة الطالبين؟!
مقدمات انحدار أمة
السؤال المهم الذي نريد الإجابة عنه هو:
ما هي المقدمات التي تؤدي للوصول إلى هذا السقوط المدوي للأمم وهذا الانحدار المروع؟
وللإجابة لا بد أن نرجع إلى الآية السابقة على الآية التي صدرنا بها الحديث، فإذا كانت الآية الأولى تبين مدى أسف الأنبياء وفقدانهم أدنى الأمل في هداية أقوامهم، فإن آية ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ الزخرف/ 54 السابقة عليها تبين الأصول المهمة فيما ينطبق على كل الطواغيت وانحدارهم بأممهم وهي في:
1- طمعهم بالخفاف من الناس/ الذين استخفتهم الدنيا والشهوات والمطامع، فلقد خلق الله الإنسان كريمًا بالذات ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ الإسراء/ 70 وأرسل رسله بالمعارف التي تجعل الإنسان أشد كرامة، وأكثر وزنًا ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ المزمل/ 5. فهذا القول وهذه الحقائق ثقيلة  تزيد في كفة كرامة الإنسان وعلمه ورؤيته بحيث لا يكون محل استخفاف؛ لذلك فالحسين يخاطب أصحابه “صبرًا بني الكرام”.
2- إفراغ محتوى الناس الفطري/ كل طاغية يأتي ليسلب الناس ثرواتهم المادية والمعنوية؛ بل وأعراضهم وأداة تفكيرهم، ويحرفهم عن المركز الإنساني الأصيل… عندئذ يطيعونه بلا مانع وذلك لا لأنهم خفاف من الأصل وإنما لأنه يفرغ محتواهم الفطري ويحرف كرامتهم بحيث تصبح عقولهم وقلوبهم فارغة لا وزن لها. يقول الله تعالى: ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ الكهف/ 105، فالفارغ لا وزن له حتى يقام له وزن لأنه لا يملك حس المقاومة. إذن فالناس يطيعون الطاغية لأنه  فرّغهم من كل محتوياتهم عقليًا وروحيًا وماليا.
علاج الاستخفاف بالأمة
لقد عالجت السيدة زينب (ع) هذا الاستخفاف بعدة طرق:
١- إعادة العقول إلى نقطة المركز والفطرة الناصعة، وتبين أن علاج مثل هذا النهج من الاستخفاف أمر بسيط وهو التكبر، فالتكبر على المتكبر عبادة وهي عبادة شاقة جدًا؛ لذلك فمن يتكبر على الطغاة والجبابرة ويهينهم ويحطم صنميتهم قليلون جدا.
لاحظوا كيف عالجت السيدة زينب (ع) هذا النهج ودخلت على ابن زياد متكبرة ومتعالية حتى قال من هذه المتكبرة أو المتنكرة، وقد أوصاها الإمام الحسين (ع) بذلك حيث قال: “ولاتقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم”(٢) والتكبر على الطغاة يكسر هيبتهم الوهمية فيعيد للناس توازنهم واعتدالهم.
٢- عالجت زينب (ع) الأمة بنوع من خلط المطالَب السياسية بالعزة والكرامة. فحينما خطبت (ع) في الناس قالت: “الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار” فأعادت أذهان الناس إلى المجد الأثيل والبيت الأصيل وتاريخ الدعوة والانتصارات حيث نسبت الوحي والذكر والدين لبيتها الرفيع وهذه أعلى قيمة في نظر الحضور وذلك إعادة وتعبئة روحية ومعنوية للأمة؛ لأن إثقالهم بهذا الوعي سوف يخلق في أعماقهم حس المعاندة عن الاستجابة والطاعة لطلب الطاغية وهذا ماحدث  فعلا.
3- تحميل القوم والأمة المسئولية، يقول تعالى: ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ الزخرف/ 54 إن الطاغية لا يعمل بمنهج الاستخفاف بالأمة إذا كانت تقوم بدورها بشكل صحيح، ولم تخلع على نفسها لباس الذل والخوف. أما إذا تحول الناس إلى فاسقين، خلعوا مشاعرهم من قلوبهم وكانوا غمزة الأعداء، يكفيهم أن يغمز لهم الطاغية بالتهديد والوعد والوعيد ويرعد حتى يكتبوا عنه، ويقولوا ما في قلبه فيكونوا طرفا في أفعاله. ولهذا قالت السيدة زينب (ع) وهي تقسم طبقات هذا المجتمع: “يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر!! أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف، والصدر الشنف؟ وملق الإماء؟ وغمز الأعداء؟” هذا التقسيم كشْفٌ لباطنهم، فوصفتهم بملق الإماء لأن التملق لغير الله علامة الذل. كما وصفتهم بالصلافة والصدور المليئة بالأمراض، وهذه الأوصاف تكون سببًا لقرارات سخيفة وتسقط الناس في أوحال الظلم. وعلى هذا تأسف وتأسى زينب بنت أمير المؤمنين؛ إذ لم يرد عندنا أن الأئمة يعاتبون أحدًا أو يعنفون أحدًا على موقف شخصي أو تخلف عن أداء حق مالي أو نفسي، نعم الأمر في واقعة كربلاء يختلف فهي من القوارع التي يضج لها الكون، وإذا طلب أهل البيت (ع) من الناس أداء حق المودة فلكي يطهروهم به  كما في قوله تعالى:  ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾ التوبة/ 103 وقوله: ﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ﴾ سبأ/ 47 وها هي بنت النبي (ص) تسألهم هذا الأجر، ولكونها حفيدة النبي المباشرة، ولكونها فاقدة وأسيرة كان أرجى وأدعى وأولى لهم أداء حق الرسالة، ولكن هيهات أن يقدر على ذلك المجتمع الساذج المستخَفّ به والذي يركض لإشباع رغبات الطغاة. نعم هم يبكون فقط؛ ولذلك قالت لهم: “أتبكون وتنتحبون أي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة”
ألا لعنة الله على الظالمين.

* وفاة السيدة زينب (ع) 1439هـ.
١. رمى الحسين عليه السلام بدمه إلى السماء، ثم وضع يده ثانيا فلما امتلأت لطخ بها رأسه ولحيته، وقال: “هكذا أكون حتى ألقى جدي رسول الله وأنا مخضوب بدمي” البحار ج٤٥
٢. نفس المهموم.

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 118٬200 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها