تقدم القراءة:

أصول موضوعيّة في تعامل المرأة الواعية مع المتغيرات

الأربعاء 7 مارس 2018مساءًالأربعاء

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

بسم الله الرحمن الرحيم

أبارك للنّبي الأعظم (ص) ولأمير المؤمنين والأئمة (ع) سيما خاتمهم، ولمراجعنا بشكل عام وقائد الأمّة الإسلامية، وللأمّة جمعاء وللنساء على وجه خاص ميلاد الصديقة الطاهرة والذي يصادف أيضا ميلاد الإمام الخمينيّ (رض).

ورد عن الفريقين قول النبي الأعظم (ص): “أَنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ وَ يَرْضَى‏ لِرِضَاهَا”. إنّ لظاهر هذه الرواية بعدين:

البعد الأول: تبرز فيه المرتبة الوجوديّة العالية جدّا للصديقة الزهراء (ع)، بحيث قُرنت أحوالها القلبيّة بقانون الرضا والسخط الإلهيّ، والذي هو غيب ومخفيّ ومخبأ كما جاء في الخبر: “إِنَّ اللَّهَ خَبَأَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ خَبَأَ رِضَاهُ‏ فِي طَاعَتِهِ…” فكأنّ الطاعات كلّها والسخط كلّه كامن في العنصر المكنون في أحوال الصديقة الطاهرة (ع)، وهو أشبه بتجلّي الله لعباده في قرآنه، فإنّ رضاه المحجوب عن العالم الإنسيّ يتجلّى في رضاها الحوريّ. وكما “أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ‏ الَّذِي‏ لَا يَغُشُ‏ وَ الْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ وَ الْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ وَ مَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى” كذلك رضا الزهراء (ع) ناصح وناصع يشرق لمن أرضاها، هاد لمن يتحسّس ويتجسّس ما اختبأ من رضى الله من بين الطاعات، وربّما أضناه التعب وأمضّه السعي فلا يرى إلّا وسيلة عواطف رأفتها ولا يجد ذريعة إلّا عوارف رحمتها.

البعد الثاني: وهو ما يتناسب وعنوان هذه الورقة، وهو ما سيتضح لاحقا، وهو أنّ النبيّ (ص) جعل فاطمة (ع) محورًا ومدارًا ومعيارًا ومعلمًا واقعيًّا لانتخاب الدور والعمل القيميّ الذي ينطوي على المصالح الواقعيّة. وما أحوج المرأة التي تبحث هنا وهناك، في القديم والحديث، وفي الواقع والطموح، وبين المدارس والمناهج المختلفة المتضاربة والمتلاطمة، وفي أقوال وآراء ووصايا المفكّرين والباحثين والاجتماعيّين والفلاسفة عن معيار ومدار يصون مسارها من اتباع المفاسد وتضييع المصالح… أقول ما أحوجها إلى محور وقطب تدور عليه، ومنطلق يحدّد لها طبيعة مسارها. من هنا اتضح عنوان الورقة التي أقدّمها بين يدي الأخوات: (أصول موضوعيّة في تعامل المرأة الواعية مع المتغيّرات). وأقصد بالموضوعيّة: ما يقابل الذاتيّة، وبالمتغيّرات: ما يشهده عالمنا من تطوّر معرفيّ وقانونيّ في كافّة المجالات، وخاصّة بعد ثورة الاتصالات الحديثة التي هيّأت فرصة فريدة ونادرة في التاريخ للتوسّع في الإمكانيّات الهائلة في الارتباط بالعالم، وفي طريقها دفعت المرأة – التي هي غالبا العنصر اللطيف المنفعل – دفعتها وبقوّة باتجاهات ومناهج وطرق ربّما لم تكن قد تعبّأت وأعدّت واستعدّت لها من قبل. وهي بين من تضعف أحيانًا أمام هذا الموج الهادر بلا وعي، وبين من استطاعت أن تطوي المراحل وأن تضيف إلى رصيدها المعرفيّ والعلميّ والإيمانيّ اقتدارًا وثباتًا وتقدّمًا وتطوّرًا وتجديدا.

إذن لدينا مسألتان لا بدّ من تنقيحهما:

المسألة الأولى: ما هي المحاور الموضوعيّة التي يجب أن تتحرّك المرأة بوعيها في ضمنها لتحقيق المصالح الواقعيّة ولتجتنب بالمسير وفقها المساوئ والمفاسد؟

المسألة الثانية: كيف تتعامل المرأة في ظلّ هذه الأصول الموضوعيّة مع المتغيّرات المتسارعة ـ والتي تكاد تكون أسرع من دقّات القلب القوية في قلب رقيق وظريف ـ مع تدافعات على جميع الأصعدة العلميّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة؟

المسألة الأولى: الأصول الموضوعيّة في تحديد المصالح الواقعيّة:

إن تحديد معيار تشخيص المصلحة والحسن والقبح الأخلاقيّ لهو من الأهميّة بمكان بحيث يعدّ هو المضمون والمحتوى الذي ينعكس بآثاره ويلقي بظلاله وينفذ في كلّ التغيّرات الفعليّة والمحتملة ويعطيها الوجهة الصحيحة ويحدّد مدى قبولها أو رفضها. وأوّل ما يجب علينا هو التأصيل لعنصر موضوعيّ ثابت يتّفق عليه العقلاء تنتفي به النسبيّة والتشكيك في الفعل الاخلاقيّ، ويكون ميزانًا مستغنيًا عن كلّ الأصول المعرفيّة وتكون كلّها بحاجة إليه، ويعطي القيمة الأولى والأعلى للكمال الإنسانيّ بحيث يوصل للمصالح الواقعيّة، أو رضا الله، أو الإشراق الروحيّ والسعادة الواقعيّة. ويجب أن يكون الطريق المتّبع لإثبات هذا الأصل الموضوعيّ هو البرهان العقليّ.

آراء في العلاقة بين الأخلاق والدين

اختلف الفلاسفة والمتكلّمون في إمكانية إدراك العقل للأصل الحاكم والأصيل والمحور الأوّل الذي له المرجعيّة الأولى لحسن وقبح الفعل الانسانيّ، فمثلا ذهب الأشاعرة إلى أنّ الدين هو القادر على تحديد الغايات الأخلاقيّة أو العمل الموصل إلى القرب الإلهيّ، وأنّه يستحيل على العقل إدراك السعادة الواقعيّة وما يوصل إليها. ولذا فحقيقة الأخلاق تعود الى أصل واحد لا أكثر وهو وجوب طاعة الله. وحينما عجز الأشاعرة عن ردّ إشكالات العدليّين اضطروا إلى إدخال تعديلات ذكرت في كتبهم الكلاميّة.

ولقد اختار هذا المنهج من الفلاسفة المتأخرين (رابرت أدامز)، فقد اعتبر أمر الله هو المنبع للأصول والقيم الأخلاقيّة، فما حسّنه الدين حسن وما قبّحه الدين فهو قبيح، وفي الحقيقة هذه النظريّة بذاتها هي نظريّة الأشاعرة انتقلت للغرب عبر الترجمة الكلاميّة لكتبهم

وأهمّ إشكال على صلاحيّة هذا المنهج: هو عدم قدرته على إبراز معيار واضح للعمل الأخلاقي. إذ يعود السؤال نفسه مرة ثانية، كيف أدركنا وجوب إطاعة الشارع؟

نظريّة أخرى مشهورة عند الغرب: هي نظريّة (كانْت) والذي له عدة رسائل في فلسفة الأخلاق ووصل إلى نتائج قيّمة ولكن لم تكن كلّها صائبة، ومفاد نظريّته أنّنا نستطيع عبر التجربة الأخلاقيّة والوجدانيّة أن ندرك الحسن والقبح، وكل هذه الاكتشافات الوجدانيّة لا تحتاج لإثبات وجود الله مسبقا. فالحاكم هو وجداننا وإذا تكاملنا نفسيّا سنكتشف الله. إذن الدين محكوم بالأخلاق، وبحاكميّة الأخلاق سنصل للخير الأعلى وهو الله، ويلزم من كلامه بأنّ الأصالة للأخلاق، والله هو غاية قد يصلها الانسان وقد لايصل.

وأهمّ إشكال على هذه النظريّة: هو عدم إمكانيّة إثبات وجود الله بالعقل النظري، بل هي تسقط العقل النظريّ كلّا وأحكامه عن إصدار أحكام فوقيّة وقبليّة. ثم الأصالة للفعل الأخلاقي حتى لوجرّدناه عن المعتقد.

أما في النظريّة الأخلاقيّة الإسلاميّة – وهي المختارة – فقد عُرّف العمل الأخلاقيّ بأنّه ما أوصل إلى رضا الله وقربه. وقد تمّ إثبات ذلك بالدليل والعقل المبرهن بعد التأكيد على أنّ العقل العمليّ يمكنه أيضا أن يدرك الحسن والقبح فيما يجب أن يعمل. فبعض المقدّمات اللازمة لتشخيص الحسن والقبح الأخلاقيّ عقليّة، كإدراك حسن العدل وقبح الظلم، وهذه هي أم القضايا الأخلاقية التي تندرج تحتها بقية القضايا. فبعض القضايا يستقل العقل بإدراكها وبعضها ملفّقة من العقل والنقل، ولكنّها جميعا مؤيّدة من قبل النقل، والأصل الموضوعيّ لهذه النظريّة أنّ هناك عليّة ومعلوليّة بين الفعل الاختياري والنتيجة سواء خيرًا كان أو شرّا. والعقل العمليّ قادر على إدراك هذا الأصل الموضوعي، وبيان ذلك : إنّ التغيّرات والتحوّلات الأخلاقيّة التي تحدثها الأفعال الاختبارية للإنسان تحصل في روح الإنسان وتسير في حركة جوهرية اشتداديّة غايتها وكمالها في رضا الله والقرب منه. ودليله العقلي أنّ الفصل المقوّم للإنسان ناطقيّته، وغايتها إدراك مبدئه ومنتهاه، أو معرفة علّته الوجوديّة وعلّته الغائيّة وما ينفعه في الوصول إليها، وهي سعادته، والغايات الوجوديّة النهائيّة لا تعلّل.

إنّ إدراك هذه الحقيقة و السعادة الواقعيّة والسعي في طلبها كمال نفسيّ وذاتيّ، بغض النظر عن ترتب حركة فيزيائية عليه، وهذا الإدراك النفسيّ يحتاج إلى شفافيّة روحيّة وتجرّد ووجدان قويّ، وامتازت المرأة به، بكونها مخلوق مدرك شفّاف رقيق يتحسّس باطنه، فيجد نتائج البراهين الأخلاقيّة ويميل إليها أسرع.

وتأتي هنا قيمة الإرشاد الدينيّ ليضع قدم الإنسان على المحور المطابق للواقع في العمل المطلوب والذي يؤمّن هذا الهدف، ولقد حدّد هذا المحور في إحراز رضا الصديقة الزهراء (ع) لمعرفة الفعل الحسن، وكذلك تحديد المحور الأصيل للفعل القبيح. فقد جاء في حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني من محدثي السنة، ونقلته أيضا بعض المصادر الشيعية مثل البحراني في غاية المرام والقاضي المغربي. “حدثنا محمد بن المظفر، حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا علي بن عباس، عن سالم بن أبي حفصة، وكثير النواء، عن عدي بن حاتم، عن زر بن حبيش، عن علي بن أبي طالب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابنتي فاطمة يشترك في حبها الفاجر والبر، وإني كتب إلي – أو عهد إلي – أنه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق“. فعليّ (ع) لا يحبّه إلا مؤمن، وأما الزهراء فيحبها البرّ والفاجر، وهذا ما يتناسب وكون رضاها محورًا واسعًا ليكون طلب رضاها واقعًا شموليًا بشمولية رحمانية الله تعالى فان الحب يقتضى طلب الرضا بغض النظر عن فعل الإنسان؛ بل الحب في نفسه قيمة عالية، ولا بأس – لتأكيد أن محبتها هي محور الفعل الأخلاقي – أن نركز على أن محبة الجيل الأول من الصحابة لفاطمة الزهراء (ع) له سببان رئيسيان:

الأول: إخلاصها وإيمانها المنقطع النظير، وقد أوجب الله على نفسه أن يجعل للذين آمنوا في قلوب الناس محبة ووداً “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا”(1) وقد جعل الله مودة فاطمة (ع) حتى في قلب الفاجر من المسلمين.

الثاني: ما كان يشاهده الصحابة في سلوك رسول الله (ص) في مواضع وحالات ونماذج كثيرة من شدة تعلقه بالسيدة الزهراء (ع)، حتى ترك فيهم ذلك سيرة مستحكمة على اختصاص السيدة الزهراء بالمحبة النبوية. وهناك نماذج كثيرة تدل على عناية الجيل الأول من الصحابة بمقام الزهراء (ع) وأن ذلك كان من المرتكزات العامة التي أوجدها رسول الله في أذهان جيل الصحابة، منها ما روته عائشة في صحيح البخاري أن وجوه الناس رجعت عن علي بعد وفاة فاطمة. إذن حتى الملاك في إقبال الناس على علي (ع) هو لمحورية وسعة موقع الزهراء (ع) في القلوب على اختلاف ميولاتها وتفرق آرائها، وكأن القلوب المتباينة اجتمعت على محبتها كما اجتمعت العقول المتباينة على وحدانية الله (وعلى معرفتك جمعت العقول المتباينة).

وقد يكون السر في كونها موضع محبة الجميع البر والفاجر هو خصوصية في الزهراء (ع) نفسها، حيث أنها مظهر لرحمانية الله الواسعة الشاملة (ورحمتي وسعت كل شيئ) إن مثل هذه الرحمة الواسعة لا تغضب على أحد لأن غضبها يؤدي إلى الهلاك الأبدي، وكيف تغضب وهي الفاطمة عن النار؟!! سيما ولعنصر الأنوثة دخالة في سعة الرحمة فإن المرأة أميل للتسامح وأبعد عن القضاء بالعذاب والهلاك والبوار، وإذا غضبت على أحد، لا يكون ذلك إلا بعد أن لا يعود أي مجال – ولو ضعيف – لشمول الرحمة له – ولو تفضلا – وقد قيل اتق شرّ الحليم إذا غضب. وكان الأمر كذلك، والواقع الميداني شاهد، فحبها وطلب رضاها واجتناب سخطها له مكانته الأصيلة من بين الأصول الموضوعيّة الأخرى.

فإذا كان الأصل في حسن الفعل الأخلاقيّ هو: “صدور الفعل للقرب من الله سبحانه وتعالى و ابتغاء مرضاته”، فإنّ فعليّة الالتزام بهذا الأصل لا تتم إلّا بالالتزام ضمنًا بمطلوبيّة ومحبوبيّة ومحوريّة رضا الزهراء (ع) ،لأنّه بالنتيجة سيتوفّر فيه شرطي الفعل الأخلاقيّ:

1- هو في نفسه خير وقيمة ومقدّمة لقيمة أخلاقيّة.

2- صادر ومنطلق من نوايا خيّرة “قصد القربى من الله وطلبا لرضاه”.

المسألة الثانية: الوظيفة العمليّة لحفظ الأصول مع المتغيّرات

إنّ القانون أو الفقه والتشريع، والذي هو بدوره بمثابة الإطار والسياج الذي يحفظ به المضمون الأخلاقيّ، ويضمن إحراز ما يقصد منه ـ مالم يكن محافظا على القيم الثابتة الموضوعيّة سيخطئ الغاية والمقصود منه، وسيتحول إلى عبء وأقفال وأثقال وأصر وأغلال تقيّد الروح عن التحرّك في مدار كمالها.

وفي خصوص مسيرة المرأة ينبغي أن يكون الفقه والقانون مواكبًا وداعمًا لاستمرار حركتها الروحيّة والعلميّة والعمليّة في ظرف تكثر فيه المتغيّرات وفي عالم يفرض تحولّات على جميع الأصعدة. فلو كان الفقه والقانون جامدًا وساكنًا في قوالب حديديّة يصعب كسرها فسيعود الفقه وبالًا على الحياة وجثّة هامدة على كاهل الإنسان. والمرأة، للطافتها خاصّة سوف لا تتحمّل هذه الأثقال، وسيكون القانون والفقه معوّقًا عن مواكبة المستجدّات بدلا من أن يكون مركبًا سجحا. 

نلاحظ الزهراء (ع) في حديثها عن أحد العلل في اختيار عليّ (ع) لتسلّم موقع السلطة وتطبيق القانون والفقه والشرع تقول:“و تالله لو تكافوا عليه عن زمام نبذه إليه رسول الله (ص)لاعتلقه، ثم لسار بهم سيرا سجحا، فإنّه قواعد الرسالة، ورواسي النبوة، ومهبط الروح الأمين والبطين بأمر الدين في الدنيا و الآخرة «أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ». والله لا يكلم خشاشه، و لا يتعتع راكبه، و لأوردهم منهلا رويّا فضفاضا، تطفح ضفّته، ولأصدرهم بطانا قد خثر بهم الرّيّ غير متحل بطائل إلّا بغمر الناهل و ردع سورة الساغب، و لفتحت عليهم بركات من السماء و الأرض وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون”.

إذن الفقه الذي يقرّره الدين هو ما يجعل مسير الإنسان مريحا سجحًا لا يكلم خشاشه ولا يتعتع به في عجلة الحياة الماضية نحو التطوّر والتقدّم. إنّ الفقيه حقّ الفقيه هو من يورد الناس المناهل الرويّة، تطفح ضفافها ثم يعودون بالرضا والريّ مما سخّره الله لهم من إمكانيّات مادّيّة ومعنويّة. ولأن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فلا بد من تحملنا دور الاستعانة بالمنابع الدينية لحياة خالية من العنت والضيق والحرج التي أولها الوقوع في الإثم.

إنّ التركيز على عامل واحد في تأخّر عملية مواكبة الاجتهاد، وتكرار مقولة: “إنّ المادّة الفقهيّة التي بين أيدينا اليوم غير صالحة لهذا الجيل المعاصر”، والإلقاء باللائمة على الفقه والفقهاء يعدّ نظرة أحاديّة للمشكلة. وذلك أنّنا إذا تأمّلنا في كلّ المسائل الفقهيّة في أيّ باب من أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات سنجد أنّها توسّعت ونمت بسببين:

الأوّل: هو النظرة الموضوعية للأحكام الفقهيّة وجمع ما تناثر وتفرّق منها ومعالجتها في موضوع موحّد لكي لا يظهر بينها تعارض وتناقض، وألّا تكون صرف تراكم عدديّ، وهذا ما دعى إليه الشهيد الصدر (رض) تحت عنوان الفقه الموضوعيّ مقابل الفقه التجزيئيّ، وهذا هو الدور المتوقّع من الفقيه.

الثاني: ويمكن أن نسمّيه بالدور الموضوعيّ، أو كما يسميه سماحة السيد القائد بتوليد العلم. وهنا لا نريد بالموضوعيّة مجرّد وحدة الموضوع لمعالجة التناثر والتعارض، ولا بتوليد العلم هو البحث عن منابع جديدة غير أصول الأدلة المتعارفة، وإنّما الموضوع بمعنى الموجود في الخارج، وهو السبب الذي لا يقلّ أهمّيّة عن الدور الأوّل، وهو أن لا يقف المتلقّي للمسائل الفقهيّة موقف المتفرّج السلبيّ دون افتراض معطيات خارجيّة مسبقة، بل يقف موقف المحاور. وهذه العمليّة العلميّة لها نتاجها الحيوي والفاعل الثرّ في فقهنا الإسلامي وخصوصًا في مجال المرأة، فإننا نجد الشهيد الصدر حينما يقرر قاعدة (لا ضرر) فإن أكثر أمثلته تدور حول قضايا المرأة والأسرة، بحيث يعتبر أن الضرر النفسي في ممارسة الزوج ولايته على الزوجة إذا أدى الى الإضرار بكرامتها؛ فإن قاعدة لا ضرر تجري في شأنها، وهذه مسألة حياتية يتفرع عليها نمط راقٍ من المعاشرة الزوجية وتبتني عليها تشكيلة أسرية واجتماعية ذات قيم عالية.

دور المرأة في توليد العلم وتكوين الفقه الموضوعي:

إن عدم قدرة المرأة على إثارة الأسئلة التي تدفع بعجلة الفقه لاستيعاب الواقع والمستجدّات هو الأساس في عزل الفقه عن واقع الحياة وعن واقعها الاجتماعيّ. و هو السبب في عدم التِحام وانسباك الفقه مع الواقع.

إنّنا بضعفنا في هذا الدور وعدم تفعيله عزلنا الفقه عن واقعنا، ثم نقول: إنّ الفقه غير قادر على القيام بدوره في معالجة قضايا المرأة! 

إنّ وقوفنا في هذه المحطّة ـ محطّة توقّفنا عن الاستفهام وإحضار الواقع الخارجي لنحاور به الفقه، والاقتصار على دور المستمع والمتفرج، والاكتفاء بإتقان وحفظ المسائل الفقهيّة والتدقيق في مصطلحاتها كالاحتياط في الفتوى، والفتوى بالاحتياط، والاحتياط الوجوبي والاستحبابيّ، والشبهة الموضوعيّة والحكميّة… الخ ـ إنّ هذا الوقوف هو الحلقة الأهمّ في تحويل الشريعة والفقه إلى جاثوم ثقيل نعجز عن جرّه إلى واقعنا. وفي نظري هذا العامل يمثّل المعوّق الأوّل لتحريك مسار المرأة بشكل حيويّ ومتقدّم ومستوعب للمستجدات والمتغيرات.

على سبيل المثال ذهبتُ مع بعض الأخوات لزيارة أحد المراجع – والذي يعدُّ منفتحًا وأصوليًّا في فقه المرأة بالذات – وحين استوى بِنَا المجلس تبيّن أنّ الأخوات ليس عندهنّ سؤال أصلًا لا في التفسير ولا في السياسة ولا في شؤون المرأة، مع أنّ سماحته قدّم أهمّ النظريّات الكلاميّة والقرآنيّة والفقهيّة في هذا المجال!!

علينا في يوم المرأة أن نقرّ بالتقصير ونسأل أنفسنا: لماذا يوجد عندنا مناسك للحجّ وأبواب مفصّلة في الخمس وأحكام الشكوك في الصلاة وفي الزكاة وفي الغلّات… وليس هناك مناسك للحياة الزوجيّة والأسريّة وصلة الرحم ـ مثلا ـ ونحن نعلم بأنّها لا تقلّ أهمّيّة عن بقيّة الأحكام؟!

وفي الختام فإنّ أمام المرأة دور ووظيفة أوّليّة في متابعة المتسارع من المتغيرات الاجتماعيّة وهي استنطاق الفقيه والمجتهد والمرجع بعد تنقيح المواضيع الخارجيّة. لأنّها هي الأكثر خبرة بالموضوعات والأكثر احتكاكًا بالواقع الخارجيّ والأقدر على تحسّس ما يحيط بها من منافع ومضارّ وما يهدّد كيانها الشخصيّ والأسريّ. حين ذاك ستتلقّى الإجابة الواقعيّة الحسنة والمقنعة والتي فيها روح القاعدة الأولى من الشريعة وحفظ الأهداف العقليّة والعقلائيّة، فإنّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة لا يتغيّر، وقد قال صلوات الله عليه وآله: بعثت بالشريعة السهلة السمحة.


* ورقة العالمة الفاضلة أم عباس الطاهر النمر – ملتقى المرأة السابع 1439

1- مريم 96

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 114٬523 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها