أصحاب الحسين واقع الحقيقة وثمرة المعية
إن من أحد أهم ثمار كربلاء وبركاتها هو تحديد المصداق الكامل للمعية الواقعية التي نطلب من الله تعالى أن نكون عليها، وعندما نريد أن نتعرف على حقيقة ما فإننا إما أن نتعرف عليها عن طريق المفهوم أو عبر المصداق الكامل الذي يمثل السيرة والسلوك وواقع الحقيقة، وفرق بين هذه المعرفة وسابقتها التي تُعنى بحدّ المفاهيم وحسب.
إذا قلنا أن أصحاب الإمام الحسين (ع) قد مثلوا المصداق الكامل والثمرة الناضجة للمعية، فإننا لكي لا نحير في تحديد حقيقة تلك المعية يكفينا أن نقول أن أول ناعٍ نعى أصحاب الحسين (ع) هو الحسين (ع) نفسه عندما وقف فلم ير أحدًا من أنصاره إلا من صافح التراب جبينه ومن قطع الحمام أنينه، فنادى: “يا مسلم بن عقيل! ويا هاني بن عروة! ويا حبيب بن مظاهر! ويا زهير بن القين! ويا يزيد بن مظاهر! ويا فلان ويا فلان! يا أبطال الصفا! و يا فرسان الهيجا! ما لي أناديكم فلا تجيبون، و أدعوكم فلا تسمعون…” ولولا أنه صلوات الله عليه كان في ظرف حرب ضروس يُترصد فيها انهيار معسكره لكن له أن يعدد مزيد محاسنهم وفضائلهم على ما هو مستحب من نعي الشهيد بذكر فضائله ومواقفه.
إن مسألة الثبات والفداء والتفاني في الجهاد في مثل هذه الساحة ليظهر حقيقة ما في النفوس، وهي من أهم الأمور التي تناولها القرآن في حديثه عن مجتمع رسول الله (ص) ممن التحق به ثم فرّ في بعض مواقف المعارك الصعبة حين حمي وطيسها، فيقول كاشفًا عن حقيقتهم: ﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ… ﴾ آل عمران/153 أي يذهبون في الصعيد بعيدًا تاركين رسول الله (ص) وهو يدعوهم وهم يولون.
ويقول في أخرى: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ العنكبوت/ 3 أي ليُعلم الذين صدقوا في الاتباع ويُعلم المنافقون، ولو كان في قلبهم ذرة من العقيدة والإيمان والتضحية لما كان الله قد فضحهم، وهم الذين ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا َّاتَّبَعْنَاكُمْ﴾آل عمران/ 167 فتعبيرهم بـ (لو نعلم …لَّاتَّبَعْنَاكُمْ ) عوضًا عن (لقاتلنا معكم) يبين أن المسألة مسألة تبعية! أي لو نعلم مصلحة في القتال لقاتلنا معكم، فهم يرون أن أصل اتباعهم ومعيتهم لهم أمر خاطئ وإلا لكانوا قاتلوا معهم في هذا الموقف! فهم بذلك أشد من الكفار وبنفاقهم كانوا في الدرك الأسفل من النار.
معايير المعيّة في رسم كربلاء
في مقابل تلك التعرية والانكشاف القرآني لحقيقة النفاق أعطت كربلاء – علاوة على كل المعايير – معيارًا واضحًا في معرفة المعية الحقيقية في مقابل القشرية، يقول الإمام الحسين (ع) في مزايا أصحابه: “إني لا أعرف أهل بيت وأصحاب أبرّ و أوفى من أصحابي”. متمثلين هم ما للمعية من مزايا وشروط تتمثل في :
أولا/ الاستقامة الأخلاقية
ربما كان للمنافق أن يتسمى بالمعية نظرًا لصحبته المكانية والمعاصرة، لكنها واقعًا لا تُعطى من الأحقية نصيبا، ويجب ألا تكون حجابًا لنا عن معرفة الحقيقة، فالمعية تفترض اتخاذ المواقف المطلوبة والتخلف عنها ينفيها ويسقطها، وإلا لما كان ممن عاصر الرسول (ص) وصلى خلفه واجتمع به من سقط بها ولم يكن منه على شيء! في حين كان منه من لم يره لثباته على ذات موقفه.
وينقل أصحاب السير والتاريخ – بما تظافر عليه كلا الفريقين – كثيرًا عن شخصيات كانت على شدة في معيتها، ومنهم (أويس القرني) ممن أسلم من أهل اليمن على يد أمير المؤمنين (ع) وأحبه واتبع منهجه، وطالما عشق رسول الله (ص) وأراد لقاه لكن لم تمكنه الظروف، ومع ذلك كان رسول الله (ص) يقول فيه: (وا شوقاه إليك يا أويس) وكان يبشر أمير المؤمنين (ع) بشهادته مع خيرة النجباء في صفين.
وكان أويس مجهولا في قومه مع أنه كان رجلًا منقطعا إلى الله تعالى، وكان مع مجموع الصفات التي فيه أنه ذو شفقة شديدة من اليوم الآخر ، تلك الحالة التي تتمثل في خوف التقصير و جدّ الإحساس الدائم بأنه بيد الله تعالى شاكرًا لفضائل رسول الله (ص) وأهل بيته (ع). ولذلك وصل بسلامة الشاكلة إلى هذا المقدار من المعية مع رسول الله، ولا شك أنه يحشر كما ورد في الروايات يشفع لأقوام بقدر قبائل مضر وربيعة.
الرؤية الأخلاقية بين النظرة الإنسانية والأبدية الأخروية
وإذا كانت الاستقامة الأخلاقية هي الميزة والعمدة في المعية الواقعية فإن الإنسان لكي يصل إليها لا بد أن يؤمن بالله الخالق لهذا الكون، ويعتقد أن هناك منفعة حقيقية وواقعية سوف تخرج في معاد العالم الآخر، هذه الرؤية هي ما تعطي للإنسان ولكل عمل يصدر عنه – ويتناسب معها – الشاكلة الإيمانية.
لا تختلف كل المدارس الإنسانية في أن المفاهيم والقيم الكلية الأخلاقية قيم خيرية، فالحق مطلوب والباطل والكذب ينتهي إلى سوء، والعدل ممدوح والظلم قبيح، لكن القول ليس في خيريتها وإنما في مصداق فعلها وفي وقوعها في الخارج، فإذا لم تصدر عن شاكله فيها قصد النية والاعتقاد باليوم الآخر فإنها لن تعدو أن تكون صرف مسميات لا تنتهي إلى نتيجة واقعية، والنية هي جزء من العمل ولا يمكن بتر الأعمال عنها وبذلك لا يمكن أن تعيش شاكلته الصفات الخيرة من كان بلا تلك النية.
إذا قسنا الأعمال الحسنة التي تُأتى بقصد إرضاء الضمير فإننا لا نعدها إيجابية – بالمعيار الواقعي الحقيقي – لأنه دائما ﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ النحل/96 وكل ما تقوم به ما لم توصله لليوم الآخر نافد مهما كان. ثم ليس لما يمليه الضمير الانساني ركيزة أساسية، إذ ليس للعمل الإنساني أن يأخذ – أبدا – موقع العمل الديني خصوصًا إذا أزلنا الاعتقاد باليوم الآخر فإنه من الصعب أن نقول أن الإنسان يأتي بهذه الأعمال على نحو من الشفقة ومحاسبة النفس ﴿ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ المؤمنون/60 لا يعيش حالة الوجل وحالة الحذر والترقب والمراقبة إلا إنسان معتقد باليوم الآخر .
قد يقال أن الله يجازي الإنسان بغض النظر عن عقيدته! وهذا لا يمكن فأعماله في الحقيقة هي حكاية عن معتقداته، لذلك لا يجب أن نٌغرّ بالشعارات وبالدعايات الحضارية والإنسانية المتربية في أحضان لا تؤمن بالمعاد.
ثانيا/الأبدية في العمل الأخلاقي
وإذا صار الكلام إلى المعيار النظري الدقيق فإنه لا يمكن أن يُحكّم صوت الضمير معيارًا ومطابقًا للحقيقة إلا أن يصدر العمل من إرادة واختيار ولا يراد به إلا وجه الله ليبقى، وهذا هو المعيار والميزان أن تؤتى الأعمال بقصد هذه النهاية والعاقبة وهذا ما يسمى عندنا عملا أخلاقيا. فقوله: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ) حتى أخلاقكم إذ لم تصل إلى لقاء الله فهي نافدة منتهية. وعليه فإنه إذا لم يرَ الإنسان أنه موجود أبدي فكيف يصدر عنه عملا أو خلقا أبديا؟!
يجب أن نجعل الأبدية ركنًا أساسًا في العمل، فالإنسان الذي يعتقد بأبدية العمل يبقى كل حياته منتظرًا لقاء الله سبحانه وتعالى. ألم يقل أمير المؤمنين (ع): “متى تخضب هذه من هذه” وكان يشير إلى لحيته ورأسه؟ فإذا ما كانت الساعة التي طالما انتظر قال: “فزت ورب الكعبة”.
إذن شرط المعية في البداية أن يكون عملك وأخلاقك صادرين إلى العالم الأبدي الدائم ولذا لاحظوا القرآن عندما قال: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ﴾ المؤمنون/ 55-56. ولم يقل(لا يدركون) وإنما قال (ما يشعرون) فالمشاعر تأتي من الأخلاق والقلب ومن الشاكلة، فما يرونه مما قد أمددناهم به ليس له حقيقة أي ارتباط بعالم الخيرات، وقبل هذه الآية نقل عنهم الله سبحانه وتعالى قولهم:﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ المؤمنون/ 37. وما دام إيمانهم أنهم غير مبعوثين فسيؤثر ذلك على أخلاقهم وشاكلتهم وآدابهم.
ثالثا/ الإشفاق والخشية
ليس من السهولة أن يعيش الإنسان دائما حالة الحذر والخوف من الوقوع في الخطأ. وإن أقواما كانت شاكلتهم صحيحة وسليمة دخلوا في معية رسول الله (ص) وأولياءه والقادة الحق كأصحاب الإمام الحسين (ع) وكانت أحد امتيازاتهم الخشية من الله ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾ المؤمنون/ 57.
لا يعد الإشفاق من خشية الله شيئًا كماليًا عند المدارس الأخلاقية ولا فضيلة من الفضائل، لكن المؤمنين المتدينين يبحثون عن حالة الرقة والشفقة بين يدي الله سبحانه وتعالى، متعدين بذلك محدودية الرقة التي تتمثل في الرفق بالحيوان وما شابه، إن حقيقة الرفق والشفقة أن يرى الإنسان نفسه أمام الله دائم الحذر والخوف من أن يقع في التقصير، وهذا هو من يقدر على فداء أولياء الله.
والمشفق ليس هو المتردد المنكفئ، بل هو صاحب الحذر الذي يجعل الإنسان في مثل حالة أصحاب الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه يلقون بأنفسهم في لهواتها، ويرون في عملهم القربة إلى الله لعلمهم أنهم إلى ربهم راجعون، وجلة قلوبهم يخشون من التقصير مع إمامهم حتى آخر رمق.
لكن الإنسان الذي يعتقد أنه صاحب حق على الله تعالى وله أن يناقش لا من باب علم ولا تحقيق (بل لا يشعرون ) يجد نفسه أنه يبحث عن حقوقه أمام الله تعالى غير شاعر بعبوديته له وليس له حالة إشفاق من عمله ولا خشية لديه إلا من انتقاد المجتمع ومن انكشافه للناس ، ولا يمكن أن تصير لمثله معية ، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ﴾ المؤمنون/ 57-59 ولنا أن نسأل بعد تعداد هذه الصفات
ما الذي يوقع بالإنسان في المهاوي وفي الجبن و الرياء؟
إنه الشرك والاعتقاد بغير الله، جاء في وصية أمير المؤمنين (ع) لولده الحسن (ع): “يا بني لو كان لربك شريك، لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته ولكنه إله واحد كما وصف نفسه”(١) ويكفيك في إثبات ربوبية الله سبحانه وتعالى وفي عدم وجود شريك له حبه لك، وكل من يحبك تصلك رسائله، بخلاف من لا يحبك ولا يهديك فلن تصلك رسائله أبدا ولن يصدق عليه أنه رب. ثم بعد ذلك ﴿أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ﴾ المؤمنون /44 رسولا بعد آخر بغرض الهداية، لكنه من العجيب بعد بيان هذه المحبة والربوبية المطلقة أن يقول في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ)؟!!
لاحظ أنه لم يقل الذين لا يشركون بربهم، بل قدم الكلام فقال: ( برهم لا يشركون) ليحصر كلمة ربهم بلا يشركون، لأن هذا الرب الذي يحبنا و يعلمنا ولا يقطع علاقته بنا هو دائما في حالة تواصل معنا على الصعيد التكويني والتشريعي فلا يمكن أن يشرك به.
لكن المطب الآخر الذي يقع فيه الإنسان في الشرك مقابل التوحيد هو خوفه ورجاؤه غير الله ومحاباته وشفقته من غيره تعالى ليعود – بالتبع – غير مشفق من اليوم الآخر يخاف على اسمه ومنصبه محبا لذاته دون الله، نسأل الله ألا يبتلينا بذلك ونرجوه أن نكون من ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ المؤمنون/ 60 يؤتون أعمالهم على الدوام ومن غير توقف، وهم كما يصفهم أمير المؤمنين (ع) في الخطبة القاصعة في نهج البلاغة “أبدانهم في العمل وقلوبهم في الجنان” فكأن قلوبهم في الجنة تتنعم ولا تزال أبدانهم على هذه الأرض يجرونها بالعمل إلى حيث قلوبهم. فإذا صارت أبدانهم في الآخرة إلى الجنان واستطاعوا أن ينسحبوا من هذا العالم كانوا كما يقول الأمير: “أبدانهم في الجنان وقلوبهم في حضرة الرحمن” فأبدانهم هذه المرة هي التي في الجنان وقلوبهم على حالة من الشاكلة الروحية كما توضحه الآيات ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ القمر/ 54. أرواحهم و قلوبهم في حضرة الرحمن و يريدون أن ينجروا كلهم إلى حضرة الرحمن فيكونوا في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.
١. موسوعة الإمام الجواد جـ2 / 570
0 تعليق