قال الإمام الرضا عليه السلام: “الإمام الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، والأُمّ البَرَّة بالولد الصغير، مفزع العباد في الداهية النآد، الإمام أمين الله في خلقه، وحجته على عباده وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذاب عن حرم الله.”
هناك مسألة مهمة في شان الإمام الجواد عليه السلام*، تخص الاستدلال على إمامته بكونه قد أوتي العلم صبيا، حيث كان يجيب الصابئة وأهل الكتاب وسائر المذاهب الإسلامية بالأحكام والقضايا الشرعية وهو لم يتجاوز السابعة من عمره، وأن هذا تكرر كثيراً في مجالس المأمون والمعتصم التي كانت تعقد للمناظرات. ولاشك أن مثل هذه الحوادث لا يمكن إنكارها؛ لأنها كانت تقع في بلاط الحاكم الذي يدّعي خلافة النبي (ص). ولأن الإمام (ع) هو من يقود المعارضة الواقعية لهذا الحاكم مع الخلص من شيعته وفي ظرف مثل هذا الظرف؛ فمن الطبيعي أن تلتقط العيون وتتصيد الآذان كل ما يحدث ويصدر من الطرفين بدقّة – كما هو حالنا اليوم، والتجربة أحد طرق الاستدلال – من هنا فإن الكثير أثبت إمامة الإمام الجواد (ع) بدليل علميّته المبكرة، وشجاعته وهو حدث السن على إبراز هذه المكنة بمحضر عدوه الأول الذي كان بيده المكنة والسلطان الظاهري. أقول: نعم إن هذا دليل كاشف عن قدرة الإمام (ع) العلمية، والتي لا تكون في الظروف المعتادة لطفل مثله وفي سنه. ولكن أشير إلى بعد آخر أعمق من بعد العلمية، وهو بعد روحي لا يتأتى أبداً من أحد إلا ويكون له حظوة بالغة ومنزلة رفيعة عند الله تختلف عن العلم، فالعقل قد يفترض طفلاً له نبوغ مبكر جداً جداً بحيث يعلم ويحفظ ويحلل ويبرم المسائل بما لايستطيعه من هو في مثله من العمر، إذن فصرف العلم في حدّ نفسه ليس سبباً للفلاح والقرب الإلهي، ولا يعطي الإنسان ما تهبه الإمامة من قدرة على إنقاذ الناس وتطهيرهم وتزكيتهم وقيادتهم وجذب قلوبهم، لأن القرآن لم ينسب الفلاح لصرف العلميّة، فلم يقل الله تعالى: قد أفلح العلماء، ولا قد أفلح من علم بل قال ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴾ الشمس 9 فالفلاح والفوز لمن زكى نفسه وطهرها من كل دنس ونقص وعيب. فالعالِم بحق هو من نفع الناس واقعاً لا من علّمهم ما يراه، قال سبحانه ﴿ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ الرعد 17 فإذا استطاع العالِم أن ينحت في القلوب تمثالاً بنفع الناس وتزكيتهم فهو باق. يقول أمير المؤمنين (ع): “العلماءُ باقونَ ما بقي الدَهْرُ أعْيَانُهُم مَفْقُودَة وَأمْثَالُهُم في القُلُوبِ مَوجُودَةٌ” (1). لكن بالعودة إلى مقولة الإمام الرضا (ع) التي بدأنا بها، نجد أن الإمامة ليست العلم فقط، بل هي السبقة في كل فضيلة وسبب نجاة لكل محتاج ومخذول، وتكميل لكل نقص علمي وعيني. ولذا لا تنفك الإمامة عن محبة الناس و إرادتهم، يقول تعالى: ﴿ واجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾ إبراهيم 37 وقد تنفك محبة الناس وإرادتهم عن العالِم لأن العلم قد يكون سلاحاً فتاكاً إن لم يقترن بالتزكية، وهذا أمر وجداني، فنحن نجد أنفسنا نحب من تزكى وتطهر. فتصوروا هذا الطفل الذي برزت طهارته وزكاته وقدرته على تبصرة المسلمين وإنقاذهم من الهلكة “و أنقذنا [بكم] من شفا جرف الهلكات”(2) كيف ستهوي إليه القلوب؟!! واجمعوا إلى جانب هذه البراءة من العيب براءة الطفولة – كما ثبت في الفلسفة أن الطفل عارف لأنه يولد على الفطرة – فكم سيكون لهذا الطفل من القدرة على اختطاف القلوب مع كونه جواداً على نحو الإطلاق؟!! وحسب تتبعي المتواضع للأحداث التاريخية، فإن حنق وغضب المعتصم على الإمام(ع)، وتدبير مكيدته للتخلص منه إنما كان لما للإمام عليه السلام من قدرة على اجتذاب القلوب وحياشتها عن المعتصم وعن آبائه. ولهذا لم يجد مناصاً إلا التخلص من هذا المعارض الأول لكيانه عبر القضاء عليه، فدس له السم، وطلب من ابنة المأمون أن تسقيه الإمام – بأبي هو وأمي – وكان الإمام شاباً لم يتجاوز عمره الخامسة والعشرين. فساعد الله قلوب شيعتك ومواليك ومحبيك ومن تهوي قلوبهم إليك يامولاي، ورزقنا في الدنيا زيارتكم وفي الآخرة شفاعتكم. والحمد للهِ رب العالمين.
* ذكرى استشهاد الامام الجواد (ع) ١٤٣٨هـ
١. نهج البلاغة ج 18 الحكمة 144
٢. الزيارة الجامعة
0 تعليق