أبارك لكم جميعا ميلاد عقيلة الطالبين زينب بنت أمير المؤمنين (ع) وكذلك حلول أيام عشرة الفجر واندلاع شمس الإسلام والايمان والعلم والمعرفة والكرامة والحرية وجميع القيم الإلهية.*
لقد أحدث السيد الإمام رضوان الله عليه تغييرات مفصلية في واقعنا الإسلامي، ودفعا قويا بالحركة الفكرية والثقافية والمعرفة إلى مراحل كانت تحتاج إلى قرون من الزمن حتى تقتحم الأمة عقباتها، ومن تلك الانجازات القيادية والإبداعات المعرفية إطلاقه لحملات اجتماعية ومعرفية في بعض أيام ولادة النبي والائمة المعصومين وأبنائهم. وحين نتأمل في هذه الإطلاقات نجد أنها ليست جزافية ولا تقريبية، بل تكاد تنطبق على أهم وظيفة قام بها صاحب ذلك اليوم وكأنها لا تنفصل عنه، وهو بذلك (قده) يرفع من مستوى هذه الوظيفة حين يقرنها بتلك الشخصية المقدسة، ليضع بذلك لبنة في استراتيجية ممنهجة لأسلمة الحياة بكل أبعادها.
وهذا في الحقيقة هو دور المجتهد الشمولي الذي يعتقد بخاتمية وعالمية هذا الدين. وهل الاجتهاد والعلمية إلا تحديد الموقف العملي لكل واقعة بجمع الأدلة والنصوص والمأثور المنثور في الكتاب والسنة؟ وهذه العملية ليست سهلة؛ بل تحتاج إلى ضم هذه المنثورات المأثورات في جهد علمي شاق وعميق جدا، ثم الممازجة والمقارنة بين أبعاضها حتى يستخرج المجتهد النتائج النهائية والحلول العملية لكل وقائع الحياة.
يمكن بهذه المقدمة أن أقول أن انتخاب يوم ميلاد السيدة زينب (ع) يوما للممرضة المسلمة هو نوع من تعميق عملية الاجتهاد هذه لتشمل حاجات ومتطلبات ملحة ويومية في حياتنا اليوم. وعليه يجب أن نحلل الدور الذي مارسته السيدة زينب، ونحدد ارتباطه بهذا العنوان (يوم الممرضة المسلمة) :
هناك واقع تاريخي واضح وبديهي بالنسبة لنا، وقد زخرت به كتب السيرة، وهو أن أحد الوظائف التي كانت تمارسها السيدة زينب في واقعة كربلاء أنها كانت تشرف على تطبيب وتمريض إمام زمانها زين العابدين عليه السلام، وأنها وقتْهُ بنفسها من الموت. ولكن هذه مسالة بديهية لاتحتاج إلى تصدٍّ اجتهادي لربط وظيفة السيدة زينب بهذا الانتخاب، ونحن نعلم أنه لا اجتهاد في البديهيات والمسلمات إذ لاتحتاج إلى اجتهاد ولاتخصص ريادي.
مرجعية القران ومرجعية السيدة زينب (ع)
ربما إذا عرفنا مذاق الإمام وتشبعه بالقرآن، اكتشفنا جانبا آخر أكثر عمقا من هذه البديهية، وإذا حللنا وجه الربط بين دور السيدة زينب عليها السلام والدور الذي اضطلع به القرآن كونه الكتاب المرجع الأول للبشرية سنجد أن وجه الارتباط منطقي ومقدس أيضا .
يصف القرآن نفسه بأنه شفاء لما في الصدور ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ يونس: 57 ومع الأسف نحن نخطئ حين نتوقع من القرآن ان يكون شفاء لأبداننا، ولضيق أرزاقنا، مع أن القرآن نفسه لم ينص على ذلك! نعم، لاشك أن القرآن شفاء من كل داء؛ لكن ليست هذه وظيفة القرآن الأولى. بل في نظري، من يعتقد أنه يستطيع أن يشفي الأبدان والأرزاق والوقائع بمجرد قراءة الآيات القرآنية فإنه يحتاج إلى مقامات عالية واتصال باللوح المحفوظ وولاية تكوينية ليقع فعلا على الدقة في مناسبة هذه الآية أو السورة الفلانية لهذا المرض العضوي.
القرآن ينص على أنه شفاء لـ (ما في الصدور) وأمراض الصدور هي وساس الشياطين، وضعف الإرادة، والجهل، والتردد، والانحرافات الأخلاقية، والشبهات العلمية، وضيق الصدر، والقساوة، والعجز عن قضاء الحوائج، والانهزامية، والعجلة، والغضب، وكل هذه الأمراض التي محلها الصدورا. وإذا حللنا دور السيدة زينب عليها السلام سنجد أنها كانت شفاء لكل امرأة؛ بل لكل الأمة الإسلامية من مرض ضعف الإرادة والخنوع للظلم والرضا بالحياة الدنيا والاطمئنان لها.
ولاشك أنها كانت تمارس هذا الدور من موقع مرجعيتها التربوية والمعرفية والقيمية والوراثية، فكل ما فيها يخولها أن تكون هي الممرضة لهذه الأمة. حنانها، تحملها، جدّها واجتهادها، قوة بصيرتها، سباقيتها لكشف المرض والشلل الروحي الذي أعاق الأمة بشكل كامل. بل مارست هذا الدور أيضا في داخل المخيم الحسيني نفسه، ومع أهل بيتها نساؤهم ورجالهم وأطفالهم الذين واجهوا تلك الواقعة الأليمة التي تذهل منها العقول، والتي يقتضى الطبع الإنساني أن يعيش من يواجهها بروح منعزلة منفصلة عن الواقع، لكن أهل البيت صغارا وكبارا واجهوها بمنتهة القوة والصلابة والاتزان .
وهنا تكمن أهمية دور الممرضة التي عالجت الأمراض التي كانت أشد ضراوة والتهابا في الصدور، وخير دليل على دورها هو المشهد المعجزالذي يعكسه سلوك أطفال الحسين (ع) وممارساتهم العملية من بعد كربلاء، وفي تلك الظروف الصعبة، فلم يصدر من أحدهم أي موقف أو كلمة يمكن أن تحسب ضده. وعليه فكما كانت السيدة زينب (ع) تعالج الإمام السجاد عليه السلام؛ فقد اتخذت كل أساليب الوقاية المعقدة جدا لتعالج كل مافي الصدور بالثقة بالله، والافتخار بالموقف. وكانت مرجعا على مدى التاريخ لكل وهن وضعف وجهل وظلم وغيره.
الأمراض التي عالجتها السيدة زينب (ع)
تحدث القرآن عن الكثير من الأمراض التي تصيب الفرد والأمة، وقد عالجت زينب (ع) هذه الأمراض، سأذكر ثلاثة نماذج منها :
1- المرض السياسي:
يقول تعالى: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ المائدة: 52
في الحقيقة من أشد الأمراض التي هي أشبه بالسرطان، التناغم مع الانحراف السياسي ومحاولة استرضائه وكسبه، أو محاولة إجراء عمليات تجميل لوجهه القبيح.
إن من الجهل بمكان أن ينجح من أقام سلطانه على بالحكم بغير ما أنزل الله في إغرائك، لابساً الثوب الأبيض ليدور حول فكرك وعقلك، ويخدعك. إن استجابتك له دليل قصور في الرؤية وضعف البصيرة وهي منزلق خطير وقع فيه كثيرون ﴿يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ﴾ فلنرتب وضعنا قبل تغيير الدوائر.
لقد كان دور السيدة زينب (ع) أنها صدحت بما صدح به القرآن حيث قال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ – الظالمون – الفاسقون﴾ المائدة: 44 – 45-47
2- المرض الأخلاقي الاجتماعي
وهذا المرض يبتلى به الرجال والنساء، وهو في النساء أكثر. وهو كنشر الأراجيف والأخبار والأحداث التي تسبب تفتيت الأرضية الاجتماعية وتسلب الأمان الاجتماعي مثل الغيبة، والنميمة والبهتان، واللغو ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا﴾ الأحزاب: 60 فقد سماهم مرجفون لأن سلوكهم يعطي قاعدة كلية للاجتماعات والمجالس والأحاديث والعلاقات التي تجعل أرضية المجتمع هشة ورخوة وقابلة لانفجار طبقات الزلازل الأخلاقية، بحيث تضعف البنى التحتية للسلوكيات الاجتماعية. هذا مرض في الصدور، وعلاجه الإغراء بهم، وردعهم، وتوبيخهم، وبيان دائهم على العلن، وهذا بالضبط ما قامت به السيدة زينب حين خاطبت من خذل الإمام الحسين عليه السلام بسبب الأراجيف، ولو تحملوا دورهم ولم يثبط بعضهم بعضا؛ لاستغلوا أكبر فرصة لإعادة الأمور إلى نصابها، ولكن المشكلة مرض الصدور.
لاحظوا ماذا قالت عليها السلام: (ألا وَهَل فيكم إِلاّ الصلف النَطِف؟ والصدر الشنف؟ وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعىً على دمنة، أو كفضة على ملحودة) والصدر الشنف الذي يشمئز منه مما امتلأ بالأمراض.
3- الطمع والنهم للشهوات:
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ الأحزاب: 31
إن هذه الوصية بمثابة الوقاية العلاجية لكي لا ترتفع حمى الأمراض النفسية، وتستعر سوق الطمع. فالآية تأمر نساء النبي ألا يخضعن بالقول. وهي لم تقل: لا تخضعن بالكلام، أي في كيفية الكلام، وإنما قالت: لا تخضعن بالقول، ليشمل مادة الكلام وهيئته، فهناك بؤرتان هما مكانان للمرض، أحداهما في الرجل والثانية في المرأة. فطبيعة المرأة أنها لضعفها تخضع للرجل، وطبيعة الرجل أن يسقط من هذه البؤرة.
إن انتشار هذا المرض يسلب المرأة الثقة بها وينفي عنها العدل الذي هو شرط في المرجعية الاجتماعية، وهذا الأمر وإن كان المخاطب به نساء النبي لكن التعليل عام، فهو يشمل كل امرأة، وعلى الأخص من تكون في موضع حمل رسالة علاجية ومرجعية تربوية، وعليه فإنك إذا أردت أن تجد موجودا امتلأ عفة ورفعة وتجرد كما هو القرآن فسوف تجد زينب بنت علي المعجزة.
وهذا واضح بما لايحتاج إلى شواهد وأدلة، وإذا جاء في ذيل الآية (وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) أي يعرفه العقل وتقبله النفوس السليمة، فمن أولى من زينب بالقول المعروف الذي يعرفه العقل والنقل؟
لذا كانت كلماتها عليها السلام شفاء لكل مافي الصدور ككتاب الله .
ولأن القرآن شفاء، فلا يمكن تبديل آية فيه ومنه، لأن الشفاء لايتحقق بتبديل عناصره، ولذا يقول القرآن أمرا للنبي (ص): ﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ ﴾ يونس: 15 ﴿قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ يونس: 16 إذاً كيف يبدل الشفاء الذي شاء الله تركيبه بطريقة إلهية خاصة شكلا ومضمونا ؟ وهذا ما قاله الإمام الحسين عليه السلام حين سئل عن علة إخراجه لنسائه وأهل بيته وعلى رأسهن مرجعهن عقيلة الطالبين قال: (شاء الله أن يراهن سبابا)
ختاما ينبغي القول أن على المرأة التي مكنها الله بما وهبها من ظرافة خاصة، ولطافة أرق من الماء ،وحنان، وصبر، واحتمال، ومحبة، وعاطفة، وسرعة النفور من كل وصف مستقبح؛ أن يكون لها الصدارة والمرجعية التربوية لكل من حولها.
إن المرأة الواعية العميقة تستطيع إصلاح وتطبيب ومعالجة كل علة داخل المجتمع الإسلامي وخارجه، سواء في بيتها، أو بين أهلها، أو مع صديقاتها، فإنها مرجع للتطبيب الجسدي والنفسي والروحي والأخلاقي.
نحن وإن كنا ندرك البعد الإنساني في التطبيب الجسدي ولكننا نعرف أنه قد يكون الفرق بين التمريض الجسدي والتمريض المعنوي أن التمريض الجسدي يحتاج إلى يقظة إنسانية الإنسان وتعدي شعوره وإحساسه من الشعور بآﻻمه إلى الشعور بآﻻم الآخرين، وأما التمريض المعنوي فهو يحتاج إلى أن يكون الإنسان سليما وطاهرا في أعماقه إلى حد يصبح وجوده مرهم لأزمات الآخرين وسلوكه تعقيم لمفاسد المجتمع. ولذلك فإن التمريض الجسدي في أحسن حالاته متفرع عن المعنوي وتجلٍّ له.
______________________________________________________________________________________
* الكلمة بمناسبة ميلاد السيدة زينب (ع) في ملتقى البصيرة الزينبية 1438هـ
0 تعليق