تقدم القراءة:

لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك

الثلاثاء 29 نوفمبر 2016صباحًاالثلاثاء

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

5
(1)

لأمير المؤمنين وللصديقة الطاهرة عظيم الأجر وجزيل المثوبة ويوفيهم الله أجور الصابرين، فقد قال أمير المؤمنين (ع): “إِنَّ اَلصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إِلاَّ عَنْكَ وَإِنَّ اَلْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إِلاَّ عَلَيْكَ وَإِنَّ اَلْمُصَابَ بِكَ لَجَلِيلٌ وَإِنَّهُ قَبْلَكَ وَبَعْدَكَ لَجَلَلٌ..” *

ولما فرغ علي من غسله وأدرجه في أكفانه، كشف الإزار عن وجهه، ثم قال: “بأبي أنت وأمي، طبت حياً، وطبت ميتاً، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك من النبوة والإنباء، خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك، وعممت حتى صارت المصيبة فيك سواء. ولولا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفدنا عليك الشؤون”

إن يوم شهادة رسول الله (ص) هو يوم لا ينقضي وجعه ولا تهدأ لوعته لأن الوجود المحمديّ لا يتكرر ولا يعود التاريخ إلى الوراء.

حديثنا حول شرح مقولة أمير المؤمنين عليه السلام “انقطع بموتك مالم ينقطع بموت أحد ممن سواك “

نفهم من هذه المقولة للأمير عليه السلام أن للنبي الأكرم مكانة خاصة استثنائية لا يشاركه فيها أحد من المخلوقات، ويمكننا أن نقسّم المقامات التشريعية والتكوينية للنبي وللائمة المعصومين (ع) إلى قسمين :

  1. مقامات مشتركة لهم جميعا عليهم السلام.
  2.  مقام خاص للنبي صلى الله عليه وآله يصحّ قبال هذا المقام أن يقول الإمام علي (ع): “أنا عبد من عبيد محمد “

المقام المشترك يمكن إجماله فيما خصهم الله به من كونهم أهل بيت النبوة، فهم وإن كانوا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ولكن شرفهم الأثيل والأرفع هو كونهم أهل بيت النبوة، وبيت النبوة يبنى بالفضائل والقيم والصبر والتحمل وشدة الاتصال بعالم الغيب، والنبوة تعني تلقّي الوحي من الله، وهذا مقام روحيّ، وليس مكانا يدخل فيه فلان أو يخرج منه فلان .

لقد حسِب قصيري النظر والمتخمين برواسب الجاهلية الذين لم يدركوا معنى المقامات الواقعية والحقيقية أن صرف الانتساب لبيت النبي المادي والدخول فيه هو علة كافية لوراثة النبوة، وحيث أن عقولهم لاتزال ملطّخة بالصنمية المادية، والعصبية النسبية، فقد تصوروا أن للرسالة موضعا ماديّا خاصا لا يحتاج إلى مؤهلات واقعية، فادّعوا أن الوحي ينزل على النبي (ص) وهو في هذا الموضع الفلاني، وأن من دخل بيته بسبب مادي فقد نال من مرتبته الشريفة، وأن المعراج بدأ من هذا المكان ..، إلى غير ذلك مما يحدّ مفهوم النبوة في إطار نظرتهم الضيقة، والحال أن للرسالة موضعا مقاميا وروحيا بالدرجة الأولى، وهذا الموضع هو لأمير المؤمنين وأولاده عليهم سلام الله، فهم موضع الرسالة.  

وعمده الفارق بين المدعييْن هو فهم معنى الرسالة والنبوة، هل هي مقام دنيوي مادي أو مقام إلهي معنوي .

لقدّ فرّغ أولئك النبوّة من بعدها الروحي حتى أنهم حمّلوا بعض العبائر من لوث المادة ما لا تتحمل حتى من جهة الوضع، من ذلك أنهم يحمّلون مفهوم البشرية في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ الكهف: 110 لوازم النقص والحاجة والمادة، في حال أن مفهوم البشرية – إن لم يكن مدحا – فهو خال من أي لازم يفيد النقص والخطأ والجهل وما شاكل. بل حسب الظاهر هو مفهوم إيجابي، حيث أن الإنسان الذي يمتاز على الحيوان بظهور بشريّته، فهو يمتاز أيضا بشفافيته وظهور ما في إحساسه الباطني وعالمه المعنوي على بشرته، أو كما يقول ملا صدرا المادة والصورة (الروح والبدن) يحكي كل منهما الآخر للمتوسمين، فكيف حمّل لفظ البشرية هنا ما لا يحتمل من الذاتية والمادية وغيرها ؟!!

ومع أيماننا أن الأئمة هم أهل بيت النبوة وموضع الرسالة؛ فإننا نؤمن أيضا – كما ذكرنا – أن للنبي (ص) مقاما خاصا لا يشاركه فيه أحد، ويشهد على ذلك العقل والنقل.

أما عقلا: فمراتب الوجود لا تتثنى ولا تتكثر مادمنا في عالم الكثرة، فكل موجود يأخذ حصة وجوديّة خاصة.

وأما النقل: فقول الله تعالى في شأن النبي محمد بن عبدالله (ص): ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ الأنعام: 162-163 هذا المقام ليس مقاما اعتباريا تشريعيا، بل هو مقام مجرى التدبير الإلهي، مقام الرحمة الإلهية ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ الأنفال: 33، فجريان العذاب الإلهي ممتنع مع وجود رسول الله (ص)، ووجود رسول الله أشبه بمعبر تكويني في جريان الفيض الإلهي، وهذا ليس صرف تخريص، أوهو أمر لا انعكاس له على الوضع الخارجيّ، فبمجرد مرض النبي الأكرم ظهرت حسيكة النفاق وسمل جلباب الدين واختطفت النهضة المحمدية.

هناك مصيبتان، أو قولوا مصيبة ذات وجهين: وجه ملكوتيّ عبّر عنه الأمير (ع) بقوله: “لقد انقطع بموتك مالم ينقطع بموت غيرك” ووجه اجتماعي واقعي حقيقي وهو اختطاف ثمار الثورة المحمدية، وعودة الذهنية الجاهلية.

ولاشك أن هذين الأثرين المفجعين يراهما بوضوح وجلاء علي وفاطمة والحسن والحسين (ع)، يرون فراغ مكان رسول الله لأنهم أهل بيت النبوة، ويحسون مقعده الروحي خاليا من وجوده لأنهم موضع الرسالة، لأنه لا يعرف المقامات العالية ولايذوق مرّ فقدها إلا من يعيشها .

لأوضح ذلك بمثال مقرِّب:

إن من لم يعش مقام أهل القيام في الأسحار، لا يمكن أن يشعر بالحرمان والحسرة حين يحرم من قيام الليل، ومن لم يأوه الله في كنفه لايرى نفسه شريداً طريداً حين يبتعد عنه، ومن لم يهبه الله لحظة من لحظاته لا يشعر بوحشة السقوط من عين الله ورعايته، ومن لم يحمل همّ صلاح الناس ويربط سعادته بهدايتهم ورقيهم فهو لا يتألم لانحرافهم وضلالتهم. هذه مكانة وليست مكانا، وموقعية وليست موقعا .

من يشك أن أعظم مقام روحي وحياني إلهي غيبي سماوي أرضي معنوي مادي ممتزج بعضه من بعض هو المقام النوري للنبي محمد صلوات الله عليه وآله ؟!!

فموت النبي ليس حرماناً من لذة العبودية ولا حجاباً عن مرتبة معنوية، بل هو قطيعة لمراودة الوحي. وما أبلغ الصديقة الطاهرة حين قالت:

قد كان جبريل بالآيات يونسنا            فغاب عنا فكـل الخـير محتجـب

وكنت بدرا ونـورا يستضاء به          عليك ينزل من ذي العزة الكتب

تجهمتنا رجـال واسـتخف بنـا            إذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصب

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت        منا العيون بتهمال لـها سكب


* المحاضرة بمناسبة استشهاد نبي الرحمة محمد (ص) لعام 1438هـ

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 114٬754 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها