٢- المجاهدون أحباء الله
(السلام عليكم أيها الذابون عن توحيد الله)
لم يرد شرح خاص بزيارات أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، ولكن الإمام الحسين وهو الإمام المعصوم مفترض الطاعة قد قال في حقهم: ” ما رأيت أصحاباً أبر وأوفى من أصحابي ” مما يجعل الوصول إلى معرفتهم واقتفاء أثرهم غاية ومطلبا لنا. (١)
صفات الذابين عن التوحيد:
اخترنا شعاراً لهذه السنة ينطوي على محصول بيعة أصحاب الحسين عليه السلام والذين قضوا نحبهم من أجله.
ورد في زيارة أنصار الإمام التى يزار بها ليلتي عيد الأضحى والفطر (السلام عليكم أيّها الذابّون عن توحيد الله) والذب عن الشيء يقتضي معرفته بذل كل غاية الوسع والسعي لإبقائه حياً وفاعلا. عدم الغفله عنه، إحاطته من كل الجهات وبذل الغالي والنفيس للدفع وبشدة عنه، لأن الذب ليس كالدفع بل هو الدفع بقوة.
ولا شك أن التوحيد منه تنطلق كل العهود والمواثيق الإلهية، وإليه تعود كل الفضائل والخصال والصفات الحميدة في الإنسان وهو المِلاك في الحكم على قيمة الإنسان وسعادته الدنيوية والأخروية، وهو نواة شجرة العقائد والصفات والأعمال الصالحة، وإذا قسنا كل العقائد بالنسبة للتوحيد أصبحت كالأعراض بالقياس للذاتي، ولهذا ورد في صفات أصحاب الإمام الحسين عليه السلام شمائل رفيعة، لكن لا شك بأن أعلاها رتبة هو الذب عن التوحيد.
وقبل الدخول في هذه المرتبة الرفيعة، وتوضيح حقيقة التوحيد وكيفية الذب عنه في كل عصر ومصر، نحدد بعض الصفات السابقة على هذه الصفة، ومنها أنهم أحبّاء الله، فمن لا يحب شيء لا يذب عنه بالمعنى الذي قلناه، ومن يحب الله بهذا المعنى فالله يبادله المحبة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ المائدة/ 45 وجاء في الزيارة (السلام عليكم يا أنصار الله وأحباءه)، ويقول تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾ الصف/ 4، فقد نال أقوامٌ محبةَ الله وهم:
المحسنون ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
والمتطهرون ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويحِب الْمتَطهِّرِين﴾
والمقسطون ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾
والصابرون ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾
والمتقون ﴿والله يحب المتقين﴾
والمتوكلون ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾
والمطّهرون ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾
وتشترك تلك الصفات في جهة السلب وجانب ضبط النفس، ويجمعها عنصر المقاومة والممانعة، فالصابر هو من يكبح نفسه، والمتطهر هو من يرفض الدناءة والرجاسة، ويبقي على فطرته، والمتوكل هو من لا يعتمد على غير الله، والمتقي من يصون نفسه عن الخطأ، والمقسط من لا يخرج عن العدالة، وثمة طولية بين تلك الصفات ندركها عبر البحث الكلامي والعقائدي وفلسفة الأخلاق، وأعلاها محبّة الله للمقاتلين فيه سبيله ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا﴾ الصف/4، وهذا يعني أنه لا بد أن تجتمع في أولئك المحبوبين من الله كل تلك الصفات حتى يصدق عليهم عنوان محبة الله، وإلا إذا دخل الإنسان ساحة الدفاع عن الدين لمنافع شخصية أو حزبية أو وصولية فسوف فكلما تقدم في سبيل أغراضه خطوة سيبتعد عن طريق الله وسبيله خطوات.. فالإخلاص أشد على المجاهدين من ضرب السيوف، فبذل النفس في سبيل الله هو مرحلة راقية من السير والسلوك “فوق كلّ ذي بِرٍّ بِرٌّ حتّى يُقتَل الرجل في سبيل اللَّه ، فإذا قُتل في سبيل اللَّه (عزّ وجلّ) فليس فوقه برّ” (٢) وقد قال الإمام الحسين عليه السلام ملخصاً هذا المعنى ” من كان موطنا على لقاء الله نفسه وباذل فينا مهجته فليرحل معنا” إذ أن هناك مقدمات ومواطن ومراحل للقاء الله، و القتال في سبيل الله هو أعلى درجات محبة الله، إذ لا يمكن أن يقاتل في سبيل الله غير المتقي، وغير المتوكل وغير المتطهر من غير الله، من هنا سنقف مع هذه الآية المباركة ونستخرج نكاتها المهمة:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا﴾
-
أولاً: تبين الآية أن الله سبحانه لا يحب القتال وإنما يحب المقاتلين في سبيله أي من أجله لأنهم مخلصين ومتوكلين وقد قطعوا تلك المراحل كلها ليقاتلوا في سبيل الله.
-
ثانياً: القتال مبغوض عند الله إلا حين يكون فتحاً لطريق أغلقه الطغاة إلى الله، الأنبياء لا يقاتلون إلا حين يضطرون للقتال، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه لم يكن يجهز على جريح ولا يتبع فارّا، وفي كل حروبه مع قريش لم يأسر منهم نساء، ولأنه يريد أن يقول إذا كان بمقدورك الإحسان لأحد فأحسن إليه ولا تسلك سبيل القتال.(٣) بل إن أول من قال “الحرب خدعة” هو النبي الأعظم صلوات الله عليه وأهل بيته، فإنها تعني فيما تعني: إن استطعت أن تخادع من خرج لحربك وتصرفه عن هدفه وتسلبه قدرته القتالية فهذه خدعة. وهكذا كانت سنته صلوات الله عليه وآله، وهذا مفاد وصاياه حينما يرسل سريّة أو جيشا، ولا ينبغي أن يدعي الدفاع عن التوحيد من بقيت تحكمه صفات السبعية والوحشية بلا
تهذيب لها ولا
ترويض روحي وأخلاقي في مرتبة سابقة، لذا فمن يدّعي الدفاع عن التوحيد لا يمكن أن يكون قاتلاً وحشياَ، لأنه هنا إنما يشوّه التوحيد المحمدي، هذا التشويش والتضليل هو سبب لإخراج الناس من النور إلى الظلمات ومن الهداية إلى الضلال، وهو ما نراه اليوم للأسف. -
ثالثا: وصفهم بأنهم صفّ وبنيان مرصوص، أي محكم، والآيات تؤكد على متانة علاقتهم واتحاد قلوبهم، واشتراكهم في قطع مراحل السير والسلوك ليصلوا إلى أن يجودوا بأنفسهم في سبيل الله.
-
رابعا: الوصف بمحبة الله لهم لم يكن على نحو الفردية، وإنما بما هم جماعة متماسكين توحدهم غايتهم كأنهم بنيان مرصوص،التلاحم يعني نفي الاهواء والشهوات التي هي ماده التفرق والاختلاف والحمية الجاهلية، ولو كان فيهم من لم يعبّأ فكرياً أو معنوياً أوروحيا لثبّطهم، ولم يكونوا بهذه الصورة من التماسك. ولا تخلو الساحة دوماً من مثبطين ومنافقين، يقول تعالى عن المتخلفين عن رسول الله (ص) ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ التوبة/ 43 القرآن ركز على هذا الأمر بشكل مفصل، فذهاب المنافقين وضعاف الإيمان إلى جبهات القتال هو إخلال عسكري ونفسي وإعلامي وخلخلة وشق لوحدة الصف، يقول تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ التوبة/ 47 والله لا يحب الظالمين ( والله لايحب الظالمين) و يكره التحاقهم بالجبهات لأنهم لن يزيدوا المسلمين إلا خبالا، والخبل: ضَعْف عقليّ مزمن، من أخصّ ظواهره عدم تماسك التفكير وتدهور القدرات العقليّة كالذاكرة والتركيز وقدرة التمييز نتيجة مرض عضويّ، أو خلل في الدِّماغ، يصاحبه اضطراب نفسيّ وتغيرات في الشخصيّة واختلال في الحكم على الأشياء عنده، ولا شك أن تخلل أمثال هؤلاء في الجيش يضعفه ولا يجعله بنياناً مرصوصا، وأي قائد حكيم يقبل أن يضيع عوامل الضعة والضعف والوهن في صفوف جيشه؟!!
-
خامسا: تحريض الرسول على الجهاد هو تعبئة مواضع الخلل، والقرآن حين يأمر النبي (ص) أن يحرض المسلمين ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ ﴾ الأنفال/ 65 فلأن التحريض تعبئة روحية معنوية، والتحريض محرك للإنسان المؤمن، وتحريض رسول الله (ص) على القتال مأمور به من قبل الله لأنه يعبئ مناطق الخلل الموجودة في القلب، لا شك أن خطب النبي للتحريض على القتال كانت من أهم أسباب بغض الدنيا والزهد فيها وحب لقاء الله وإرادة الآخرة، فلنتصور أننا نسمع ذلك منه لا شك أنه يحيي حتى الميت وهذا بالدقة معنى الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ.. ﴾ الأنفال/ 24 لا فقط لأن الجهاد يحيي. خطبه صلى الله عليه وآله ونفَسه وكلامه وتعبئته وبلاغته وبياناته سبب لبعث جديد. وهذا معنى من معاني الانبعاث، الحياة بعد الموت، والحياة أنواع من أهمها حياة القلوب، فالذي لا يتحرك قلبه وينبعث بتحريض النبي (ص) ولا يعبّأ روحياً وفكرياً، فهو في حقيقته مثل الجيفة والجثة الهامدة فهو غير قابل لأن يبعث وإذا دخل في فضاء الساحة الإسلامية سينشر – والعياذ بالله – ما يزكم الأنوف والنفوس والأرواح، هؤلاء ﴿… كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ التوبة/ 46 (٤)
في كربلاء كان الإمام الحسين عليه السلام يعبئ أصحابه أيضا بخطبه، ولم يقتصر أثر خطبه على جيشه بل تعدى ليصل إلى بني أمية، ونحن نجد تأثيرها البالغ علينا نحن أيضاً رغم امتداد السنين، هذه الخطابات كانت تعبئ أصحابه الذين كانوايسمعونه يخطب في جيش عدوه، يلقي الحجج الظاهرة الواضحة.
لاحظ قوله عليه واله السلام: ” يـا قوم إن بيني وبينكـم كتـاب اللّه وسـنّة جـدّي رســول اللّه صـلى اللّه عـليـه وآله وسـلم” ثـمّ استشهدهم عن نفـسه المقـدّسة، وما عـليـه مـن سـيف النبـي ودرعه وعمامتـه، فأجـابوه بالتصـديق.
فسألهم عمّا أقدمهم على قتله؟
ثم قال: “أحين استصرخـتمونا والهين، فأصرخـناكم موجفين، سللتـم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحـششتم عـلينا ناراً اقـتـدحـناها على عدوّنا وعدوّكم فـأصـبـحتم ألباً لأعدائكم علـى أوليـائكـم، بــغـير عـدل أفـشــوه فيكم، ولا أمل أصـبـح لكم فيهم، فهلاّ لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لما يستصحـف، ولكـن أسـرعـتـم إليـهـا كطـيرة الدبأ، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش ثـمّ نقضتـموها”
أصحاب الحسين عليه السلام كانت لهم هذه الكلمات بمثابة الترسانة التي جمعتهم. فنالوا محبة الله بحيث وصلوا لأعلى المراتب وصاروا ذابين عن رسول الله (ص) وعن الصديقة الزهراء (ع) وإن لم يروهم، بل أصبح عملهم ممتداً تاريخياً ومحبوباً عند الله، فكل ما يتصل بالإمام الحسين (ع) فهو محبوب لرب العالمين.
بل إن كل ما يتعلق بالإمام الحسين (ع) له أثر تكويني، خذوا التربة الحسينية مثالاً.. فقبل شهاد الإمام الحسين (ع) كانت كربلاء شيء ثم أصبحت شيئاً آخر مع أن التربة هي نفس التربة، ومن خصوصياتها بعد شهادة الإمام الحسين (ع) كما نعلم هي أنها شفاء.
فقهياً كما تعلمون لا يجوز الأخذ من التربة إلا بمقدار الحمّصة لأنه يحرم أكل التراب في الأصل، فيؤخذ منها مقدار الاستشفاء فقط تقريباً كما يؤكل من الميتة في حال الاضطرار مقدار الضرورة لحرمتها، ولكن هناك معنى آخر لقلة الأكل من التربة الحسينية وهو أن القليل من هذه التربة كافٍ لإحداث الشفاء.
ولهذه التربة قصة مفصلة في الروايات، حيث ورد أنه كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مشربة يخلو فيها، وكانت أغلب خلواته وانقطاعاته في تلك المشربة، وإذا خلى قال لزوجاته وأهل بيته أنه إذا دخلت وخلوت فلا يدخل علي أحد. في إحدى خلواته نزل عليه جبرائيل، وفي ذلك الحين دخل الحسين صلوات الله وسلامه عليه فأخذه النبي وجعله على فخذه فقال جبرائيل أما إنه سيقتل وأعطاه تربة بيضاء فأخذها صلوات الله وسلامه عليه وبكى وخرج على أصحابه وهو يبكي فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ فأراهم التربة وقال أخبرني جبرائيل أن ابني الحسين يقتل بأرض الطف وجاءني بهذه التربة، فأراهم التربة. وكلما تذكر النبي (ص) الحادثة كان يحتضن الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه ويضمه إلى صدره، وقد اعتاد الإمام الحسين على ذلك وكلما ضاقت به الدنيا، ذهب وتوجه قاصداً رسول الله.
كأن كل هذه الذكريات جالت في خاطر الإمام الحسين عليه السلام حينما همّ بالخروج من المدينة حينها توجه إلى قبر رسول الله (ص) وهو مشحون بتلك الذكريات وما أبدع ما صوّر الشاعر حين قال:
ضمّني عندك يا جداه في هذا الضريح **** علّني يا جد من بلوى زماني أستريح
١. عتقد العرفاء أنه كلما كانت واسطتك أقرب للطبيعة البشرية وثمة مسانخة بينك وبين طبيعتها البشرية ، كلما كان استعدادك أكثر لتلقي عطاياها
٢. الكافي ـ للشيخ الكلينيّ 2 / 348
٣. ورد في الروايات عن سيف رسول الله في حديث مرفوع عن أمير المؤمنين ( فوجدت في قائم سيفه معلقة فيها ثلاثة أحرف صل من قطعك وأحسن إلى من أساء إليك وقل الحق ولو على نفسك ).
٤. بيان آيات التعبئة والتحريض على القتال من أصعب الأمور لندرة نقل التاريخ للخطابات التعبوية والتحريضية على الجهاد رغم أهميتها، ولكن أولئك الأعراب أغفلوا سيرة النبي ولم يلتفتوا لها، في حين أن خطب الأمير في نهج البلاغة – والتي نقلها أهل البيت صلوات الله عليهم – في الجهاد تعبئ الإنسان أيما تعبئة فكيف بتعبئة رسول الله (ص) والذي هو أفصح من نطق بالضاد؟!
0 تعليق