تقدم القراءة:

العدل والعقلانية من علامات الظهور

الجمعة 3 يونيو 2016صباحًاالجمعة

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ التوبة: 33

لا يمكن التفكيك بين مسألة ظهور الإمام المهدي ومسألة إقامة العدل وملء الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا. ونحن نعتقد أن هذا الاقتران بين الظهور والعدل في الأرض هو من أوضح علامات الظهور، أما غيرها من إرهاصات ظهور الإمام كالصيحة والخسف والسفياني، فتلك العلامات – وإن صحّت سندا – إلا أنها علامات ملاحميّة تتفسّر معانيها حين ظهورها، في حين أنّ العدل هو الأصل الذي تتفرع عليه سائر العلامات.

ولكي نعرف أهمية هذا الترابط والاتحاد بين ظهور الإمام المهدي عليه السلام والعدل لابدّ من توضيح أمرين:

  1. تحديد ارتباط الدين بالعدل، ومتى حدث التفكيك بينهما في الخارج وكيف.
  2. تحديد موقعيّة العدل الإنساني وسعته.

بيان الأمر الأول: تحديد ارتباط الدين بالعدل، ومتى حدث التفكيك بينهما وكيف:

أوّلا لابدّ من الإشارة إلى أنّ التفكيك بين العدل والدين إن كان ممكنا من الناحية المفهوميّة أو الخارجيّة إلّا أنّه من الناحية الواقعيّة غير ممكن. فلا يوجد دين إلهيّ منزل إلّا و يدعو إلى العدل، والدين الإسلاميّ يؤكّد على ذلك، وقد بدأت الدعوة الإسلامية بمعايير الحياة العادلة على صعيد الفرد والمجتمع على حد سواء.

ولكن بمرور سريع على تاريخ الإسلام يمكننا أن نجد نقطة الافتراق بين الدين والعدل ـ في الخارج وفي واقع المسلمين ـ فمن المؤسف أن قد عصفت بالمسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله خلافات أدّت بالنتيجة إلى صراعات حول السلطة والحكومة والدولة ووقع المسلمون في مستنقع الفكر الفرديّ والاستبداديّ والسلطويّ. ثم تحول منهج السلطة عبر مسارات كثيرة إلى منهج كسرويّ وقيصيريّ، ولم يستطع الحزب الحاكم أن يسيطر على المجتمع الإسلاميّ إلا بعد تفريغ الإسلام من مضامينه العميقة والاكتفاء بعرض الإسلام القشريّ، وأصبح مصير كل من يخرج عن هذا النطاق هو السيف والتشريد والتنكيل(1)، مما أدّى إلى الانحطاط الأخلاقي والخمول الفكري، بل إلى الموت المعنوي لأهم مضمون تدّعيه الرسالة الإسلامية ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، فالهدى هو المضمون، والقشور من دون المضمون ليست هدى .

حينذاك دخل المجتمع الإسلامي مرحلة أخرى جعلته يتسافل في الدركات بحيث لا تجد في محافله العلميّة ولا الجو الاجتماعيّ إلّا الخمول في الفكر والمعنويات، حينها لم تجد هذه الأمة – التي سلبت مضمونها الذي يكفل حياتها الاجتماعيّة ويحقّق لها العدل – إلّا أن تنبذ هذا الدين وراء ظهرها وتتسارع بالتبعية الكاملة للغرب، فعاشت حالة من عدم التوازن بين التزامها بقشور الدين وولائها الفكري والقيميّ للحضارة الغربية، وأدى فصل الدين عن العدالة إلى انفصام واقعيّ داخل الفرد والمجتمع المسلم(2). هكذا كانت بداية الانفصام، وتوسّع بحيث يشقّ على العقل تصوّر مدى المفارقة بين الدين الذي بعث به النبي الأعظم وبين واقع الأمّة.

ولا يفوتنا أن نشير إلى مدى خطورة الخواء الفكريّ الذي يجعل أبناءنا يلجئون لمن يعبّئ لهم هذا الفراغ أيّا كان! من هنا ينبغي لمجالسنا أن تتنبّه لذلك وتفطن لأهمّيّة إيصال المضمون الحقيقيّ لهذا الدين والمغلّف بكل ما هو جاذب، وتبتعد عن التقليدية المنفّرة لأبنائنا بما يقودهم للانسلاخ حتى من قشور الدين وظواهره.

كانت هذه هي القصة بشكل مختصر لبداية الغيبة الصغرى والكبرى معا! .. فالغيبة وإن بدأت تاريخيا في سنة 329 للهجرة، ولكنها بدأت فلسفيّا وواقعيّا منذ يوم السقيفة. وحينذاك بدأ التفكيك بين الدين والعدل، والدين والفكر، والدين والفلسفة، والدين وحاكمية العلم، حيث أبعدوا أعلمهم وأعقلهم وأعدلهم وأقضاهم، فكان ذلك هو بداية المنعطف الحادّ وبداية الغيبة، حيث غيّبت إمامة أمير المؤمنين وإن بقي شخصه ظاهرا، وإذا استشهدت الزهراء عليها السلام في سبيل ذلك فلها الحقّ.

بيان الأمر الثاني: تحديد موقعيّة العدل الإنساني وسعته.

لا يمكن أن تتّضح لنا قيمة الروايات التي تربط بين الظهور والعدل والظهور والعقلانية .. حتى نشير إلى الترابط بين طبيعة العدل الإنسانيّ والكونيّ:

أما العدل الإنساني: فله بعد تكويني غير اختياري ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ • الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ الانفطار: 6-7

وهناك عدل اختياري اكتسابي يؤثّر في الواقع الاجتماعي ويتأثر به. وهذا العدل غاياته وأبعاده واسعة جدا. ويكفي أن نعتمد تعريف علماء الأخلاق وقولهم “أن العدل هو التوسط بين الإفراط والتفريط” ثم نرى أبعاد هذا العدل وتأثّر وتأثير الإنسان به في حياته الاجتماعية بمنظور قرآنيّ.

ليس العدل في القرآن هو التمسك بقشور الدين وطقوسه وتشريفاته، بل الإنسان موجود مفكّر روحيّ ، والاعتدال والعدل حقيقة تتجذّر في داخله وفي أصل خلقته. وقد يحدث أن يفقد توازنه الباطنيّ ولكن ظاهره القشريّ والشرعيّ يبدو عادلا! لاحظ الآية ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا الكهف: 28 إنّ الارتباط بين ذكر الله ومعرفته وعدم الغفلة عن آياته وانشغال الفكر والقلب بغيره، هذه يسمّيها القرآن تفريطا وخروجا عن العدل، بما يشير لكون العدل الإنسانيّ مسألة من الغور والعمق بما يفوق تصوّرنا، بحيث لو دققنا في المسألة لوجدناها تدخل في كل شيء، والإنسان عندما لا يكون عادلا فهو متّبع لهواه ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا النساء: 135. وكلما كان الإنسان عادلا في تصرفاته مع الآخرين ويعترف بخطئه ونقاط ضعفه ولو على نفسه ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ النساء: 135، كلما كان أقرب للدين، وكلما شكل مفردة في بحر ظهور الإمام عليه السلام.

وقبل الانتقال إلى العدل الكونيّ، وليتضح لنا أصل مدّعى أن علامة الظهور هي التحام العدل والعقلانية بعد التفكيك بينهما يتعين أن نشير للعقلانية بشكل مختصر:

في كتاب الاحتجاج للشيخ الطوسي يذكر رسالة للإمام صاحب العصر والزمان (عج) جاء فيها: قَد آذَانَا جُهَلَاءُ الشِّيعَةِ وَحُمَقَاؤُهُم وَمَن دِينُهُ جَنَاحُ البَعُوضَةِ أَرجَحُ مِنهُ”(3) لاحظوا ما تشير له الرواية من الفصل بين الدين والعقل، فالحماقة تخلق مشكلة واقعية بسبب الجهل والالتزام القشريّ بالدين والتفكيك بين الدين والعقلانية، والكثير من الممارسات نظنها من الدين ونلبسها لباسه وليس لها من العقلائية ومن الدين شيء،إنما هي ممارسات تؤذي الأئمة، ولا أريد أن أطرح نماذجا، فاللبيب تكفيه الإشارة.

إن التفكيك بين الدين والعقلانية وبين الدين والعدل يفتح المجال لانحرافات كثيرة ولمدراس من الادعاءات والأوهام الكثيرة جدا، مثلا: نحن في ثقافتنا الدينية لسنا ضد التقدم في العلوم التجريبية، لكننا كإسلاميين نعتقد أن هذا الإنسان الذي استفاد من الطبيعة هو في الحقيقة دخل فصلا من فصول الدراسة الإلهية في هذا الكون واستطاع أن يكتشف معادلة سخر بها الطبيعة. الإنسان في ثقافتنا لا يصارع الطبيعة ويغلبها كما يفهم الغربي بل الطبيعة عندنا أفضل معلم يستثمره الإنسان ويستفيد من معادلاته وقوانينه .لكن عندما يحدث تفكيك بين هذه المعارف والحقائق وبين الدين، تحدث تلك الآثار التي نراها اليوم.

العدل الكوني: كما أنّ هناك عدل إنسانيّ فهناك عدل كونيّ أيضا.

الدعاء الذي نقرأه في رجب يشير إلى ذلك “يا من صوّر فأتقن واحتجّ فأبلغ وأنعم فأسبغ” هذا الدعاء يشير إلى أنّ كلّ الموجودات لها ما ذكرناه بالنسبة للعدل الإنسانيّ.الكون كلّه عدل وعقل وكلّه متدين. لذا يقول الله للسموات والأرض ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فصلت: 11. ويقول السيد موسى الصدر لماذا يقول الله سبحانه “والأرض وما دحاها”؟! ذلك لأنها عارفة ومنقطعة لله، فالله سبحانه لا يقسم إلا بالعظيم وبالمعصوم والواصل.

لذلك نلاحظ أن الروايات لا تقرن بين الظهور وعدل الإنسان وعدالته فقط، بل بين الظهور وشمولية العدل لكلّ الأرض ( يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ) وعليه؛ فهناك عدالة للأرض أيضا وكلّ ما فيها، ولهذا ركزت الروايات على أنه إذا ظهر القائم بدأ بإعادة الأرض ومعالمها إلى موقعها الأساس. أوّل ما يبدأ به عليه السلام هو إعادة مقام إبراهيم إلى ما كان عليه أيام نبي الله إبراهيم، وإذا خرج الإمام كما في الرواية منع عمّاله المصلين خلف المقام من أن يصلّوا أكثر من ركعتي الواجب، ليتركوا الفرصة في الخلوة مع الله لسائر زوار بيت الله ولأداء الصلاة بتوجه وإقبال. وورد في الروايات أيضا أنه إذا خرج الإمام هدم مساجد في الكوفة وأعادها كيوم بناها نوح بالطين، أي أنه يزيل عنها آثار القيصرية والملوكية والسلطنة التينعتقد أنّنا بها نروج بها للدين!

إذا ظهر الإمام ملأ الأرض بكلّ زواياها عدلا، الأرض التي نعرف أن فيها قطع متجاورات منها ما هو صالح للإعمار، ومنها ما هو بيئة للزراعة …الخ، وحينما يظهر الإمام فسوف يملأ هذه الحصص عدلا فيزرع في كل مكان ما يناسبه من زرع، ويفجّر في كلّ أرض ما يمكن أن يتفجّر فيها من أنهار، ويعمر ما حقه الإعمار.

 العدل والعقلانية هي معالم الظهور، وكلما اقترب منهما الإنسان فهو يمهد للظهور. ويحق لنا أن نقول إننا اليوم نرى بصيصا من نور هذا العدل والعقلانية في زاوية ضيقة جدا من هذه المعمورة، فنرى تفجّر ينابيع الحكمة في الإنسان وجريانها على ألسنة حملة هذا المشروع. إن إعادة التوازن بين قشور الدين ومظاهره وبين لبّه وروحه ينبض اليوم في عقول ثلة من عقلاء الأمّة، وبهم الأمل. وكما كان بدء الغيبة هو يوم فصل الدين عن العقل والعدل، فأيام الظهور هي أيام تقارب الدين بالفكر والعدل والعلم والعقل. وبهذا يظهر الدين كله (من لا عقل له فلا دين له).


1. حينما دخل معاوية الشام بنى له قصرا يشبه إلى حد كبير قصر قيصر لقربه من الحضارة الرومية، حيث أبقى ذلك الواقع القيصري الذي كان موجودا في الشام، وعاتبه الخليفة الثاني على ذلك، و برّر له معاوية بأنهم يجاورون ملوك وأقاصرة وأباطرة  ولا ينبغي للحضارة الإسلامية أن تكون أدون مستوى من ذلك! في حين أنّ ثقافة الدين الإسلامي هي أن يبقى قصر الحاكم ترابيا لما له من أهداف في بيان هذا الدين، وهذا ما تشير له سيرة أمير المؤمنين أبي تراب وقصته مع عاصم ومفهوم الزهد شاهدة على ذلك …

2. للمزيد من الاطلاع الرجوع لكتاب (تنزيه الملة للنائيني) وكتاب القضية الفلسطينية للسيد حسين كاشف الغطاء

3. الاحتجاج: ج2، ص 473   

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 89٬365 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (2)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها