عن الإمام علي بن الحسين (ع) قال رسول الله (ص) “هبط علي جبرئيل الروح الأمين عليه السلام قال لي يا محمد أقرئ فاطمة السلام وأعلمها أنها استحيت من الله تبارك وتعالى فاستحى الله منها فقد وعدها أن يكسوها يوم القيامة حلتين من نور” (1) *
وقال الإمام الباقر (ع) “يَا ابْنَ جُنْدَبٍ الْإِسْلَامُ عُرْيَانٌ فَلِبَاسُهُ الْحَيَاءُ وَزِينَتُهُ الْوَقَارُ”
في الرواية الأولى معنى ملفت وهو أن الله قد استحى من فاطمة (ع)، ونحن نعرف أن الحياء لا يكون إلا عن وجود نقص أو عيب، والله سبحانه هو الذات التي فيها مطلق الجمال والكمال. إذن لا يمكن أن نقبل هذه الرواية من جهة عقلية إلا إذا عرفنا معنى حياء الله سبحانه.
قبل ذلك سنوضح قيمة الحياء في الثقافة الدينية، ثم سنحلل مفهوم الحياء ونبين معنى أن الإسلام عريان ولباسه الحياء وزينته الوقار.
الإسلام عبارة عن مفاهيم وتصوّرات في الذهن وتشمل العقائد والأخلاق والأحكام كالاعتقاد بوحدانية الله، والإيمان بعدل الله، حب العدل، بغض الظلم، حسن الصدق، قبح الكذب، وجوب الصلاة… الخ، وهذه المفاهيم الذهنية هي مجرد صورة هيكلية للإسلام تحتاج لكي تبرز في الخارج إلى أن تلبس حلّة السلوك والحركة، والحياء هو اللباس الذي يظهر جمال الإسلام.
الحياء حالة روحية وخاصية إنسانية، يكسو مفاهيمك التي تتبناها في ذهنك ويبرزها. مثلا : نظرك إلى الآخرين، يجب أن يخضع إسلامياً لمنهج الحياء، فلا تتفحص الآخرين، ولا تعرض نفسك للنظر بحيث يتفحصك الآخرون، وما نراه اليوم من شياع استعراض تفاصيل الحياة على وسائل التواصل والشبكات الاجتماعية ليس من قيم الإسلام، من يفعل ذلك هو لا يمشي على الأرض هونا، بل يقول ها أنا ذا!
موقع الحياء من منظومة القيم الدينية:
يقول تعالى : ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ القصص: 25
الحياء أصل تعتمد عليه كثير من القيم، وتترتّب عليه كثير من البركات. فبعد أن يختار الإنسان الإسلام ويقتنع به لا بد له من تقوية روح الحياء. والحكمة من إعطاء هذه القوة زيادة سعي الإنسان للتخلّص من النقص والتستّر من ظهوره. وهذا عامل احترازي.
ولدينا الكثير من الوصايا الأخلاقية التي تنص على ذلك، جاء عن الإمام الصادق (ع) أن الصفة التي وهبها الله الإنسان وحرم منها الحيوان هي الحياء. لذلك فإن من أقذع الشتائم أن تصف إنسانا بأنه بلا حياء، وهذا له جذور دينية.
كذلك نجد في الروايات تلازماً بين الإيمان والحياء، فقد جاء في مضمون الرواية أن من خلع الحياء فقد خلع ربقة الإسلام. والربقة حبل أو قيد يربط في العنق وتشدّ به البهم. والمعنى أن الإنسان الذي يتحرر من قيد الحياء سيمشي إلى طرق وجهات بدافع رغباته وبلا حياء، وعدم حيائه سيجره إلى نمط من الأقوال والأفعال والمعاشرات بخلاف الإيمان، وقد تؤدي به إلى الهلاك، ورد في مضمون الخبر “إن الله إذا أراد هلاك عبد نزع منه الحياء”. لأن الحياء جاذبة معنوية تجر الإنسان باتجاه معين، وإذا أراد الله أن يهلك الإنسان ينزع منه الحياء بالتدريج.
هذه القيمة العظيمة هي ما يلبس الإسلام والسلوكيات النابعة منه، فالحجاب مثلا هو أمر قانوني، لكن هناك خلفية هي جوهر لبس الحجاب، وهي الحياء. ومقدار الحياء هو ما يفرض شكل الحجاب ونمطه. والحجاب مفردة من آلاف المفرادت في السلوك الإسلامي كالكلام، والمأكل، والمشرب والملبس، والعلاقات، وغيرها… والحياء يتدخل فيها جميعا لأنه – وفق الرواية السابقة – يلبس كل ما يصدر عن الإنسان من عمل، ويعطيه نحواً واتجاهاً معينا.
بين الحياء والخجل:
كثير من الناس يخلطون بين الحياء والخجل. الحياء والخجل كلاهما انفعال روحي، لكن الحياء ممدوح وهو توأم الإيمان أما الخجل فمذموم لأن فيه نقاط ضعف وله آثار سلبية. مثلا الذي يخجل من السؤال عمّا لا يعلم سيبقى في ظلمات الجهل. الجهل نقص لا ينبغي أن يحتمله الإنسان، بل يجب عليه التخلص منه، أما محاولة إخفاء عيبه بالامتناع عن السؤال فهذا هو الخجل المعوّق عن التخلص من النقص، فإن إخفاء العيب لا يمحوه.
الحياء خاصية إنسانية وانفعال روحي يظهر على الإنسان إذا صدر منه خلاف ما يتوقع منه الآخرون. ويخطئ من يظن أن الحياء من موانع الثقة بالنفس وقوة الشخصية. بل هو خصلة وهبها الله لكل إنسان في حالتين:
١- حين يتصور أن فيه نقصاً سيطلع عليه الآخرون.
٢- حين يظهر أحد عيوبه بالفعل.
هذا الحال موجود بالفطرة لدى الإنسان، لكنه مشروط بمن يرى كرامة نفسه، فما لم يطلب الإنسان كرامة النفس لن يسعى لكسب الفضائل.
اختلال المنظومة القيمية:
يحدث أن تختل الموازين عند الناس، فيعتبرون ما ليس بعيب عيباً. فالإنسان الذي يسكن بيتاً متواضعا ويزهد في اقتناء الكماليات يعتبر الناس هذا نقصا فيه، فيستحي أن يدعو أحداً إلى بيته، أو يستحي إذا سئل ماهي شهادتك؟ متصوراً أن عدم امتلاكه شهادة رسمية يصمه بالنقص، هنا يعتبر ميزان العيب مختلاً. العيب في الواقع هو زيادة الرفاهية، أما الزهد فهو كمال.
بل إن من الناس من يستحي أن يسأل ليعرف، والحال أن الجهل هو أكبر العيوب! ولإعادة القيم الواقعية يجب تلقين المجتمع المفاهيم الصحيحة، ثم تمرينهم عليها سلوكياً، ثم تثبت معايير النقص والكمال، لكي لا تسود ثقافة الضعف الموهوم.
ما يحدث اليوم هو اختلال في المعايير، وابتعادها عن قيم الإسلام، الذي يعتبر أن كثيراً من الحاجات الطبيعية هو مما يجب ستره، يقول تعالى: ﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾ الأعراف: 22خطيئة آدم بالأكل من الشجرة تظهر تكويناً عوامل التكاثر في الحياة الدنيا، فبعد أن أكل آدم وحواء من الشجرة شعَرا بالفطرة بوجوب الاستتار. من هنا يجب أن نعرف أنه ليس صحيحا أن الحاجات التكوينية الفطرية لا ضير في ظهورها، الحقيقة أنها في أعماقها تشير للنقص والحاجة. وهذا يخالف كثيراً مما نراه اليوم في طريقة التعاطي بين الناس.
الحياء في الحقيقة هو قوة موجودة في الإنسان، إذا وضعت هذه القوة في شخص، أو في أسرة، أو في بيئة ما فسوف تبرز إسلامها ودينها بمضامين تتناسب وروح الإسلام، ولذلك نحن نحتاج إلى معرفة تنميط الحياء إسلامياً، لنعرف المقبول من غير المقبول من وجهة نظر الإسلام لا من وجهة نظر المجتمع والعرف الذي اختلط فيه الحابل بالنابل.
الحياء مثل العقل تماماً. يقول صدر المتألهين: “العقل قوى تظهر بتعلّم العقليات”، الواقع أن كل الحواس تحتاج إلى تفعيل، الباصرة مثلا لا تعمل إلا مع وجود النور، فلو عاش الإنسان فتره طويلة في كهف مظلم فإنه لن يحتمل النور لو خرج من كهفه. كذلك العقل؛ فإذا عاش الإنسان جاهلاً فإنه يتعب من أدنى إعمال للعقل، ويشعر أنه جهد يفقده راحته واسترخاءه. ينطبق الأمر نفسه على الحياء؛ فإذا عاش الإنسان حياة التسيّب سوف يرى الضوابط ثقلاً عليه. والحال أن الحياء حالة إنسانية طبيعية حين يرى الإنسان كرامة، وهي تتناسب ومقدار شعوره بالكرامة، فكلما شعر بالكرامة والعزة نفر من النقص وإدراك الكرامة يزيد من الشعور بالحياء.
حياء فاطمة عليها السلام:
في الرواية التي ابتدأنا بها يتحدث الإمام عن سر من أسرار علاقة فاطمة عليها السلام بالله تعالى. مقام الزهراء (ع) أنها فعلاً تستحي من الله. فهي عليها السلام: ترى نقصها بالقياس إلى الرحمة الإلهية، تسعى لرفع هذا النقص والعيب فترحم وتعطي وتشفع وتدفع الظلم وتعلّم .. فتظهر فيها أسماء الله تعالى.
ماذا يعني أن فاطمة استحت من الله؟
إن مقدار حياء الإنسان يتناسب مع موقع المطلع على عيبه، فإذا ظهر نقص الإنسان لمن هم أدون منه ستكون وطأته عليه أخفّ. ولكن إذا ظهر عيبه عند من له موقعية اجتماعية سيستحي أكثر. الكثير منّا يستحي من المجتمع، ويقوم بما ينبغي عليه اجتماعياً، والحال أن على الإنسان أن يستحي أمام الله، ولذا كان أعلى مراتب الاستغفار حين يستغفر الإنسان حياء من الله لأن الاستغفار هنا نابع من معرفة الإنسان بعظمة الله وشعوره بأنه يراه.
إن حياء فاطمة عليها السلام من الله نابع من معرفتها بمقام الله سبحانه وتعالى أولاً، ورؤيتها أنها بمحضر الله ثانياً، ولذا فهي شديدة الحياء منه فهي لا تقارن صبرها بصبر الناس، فالطرف الثاني الذي تراه ليس الناس بل الله. ولا تقارن رحمتها برحمة الناس، فإن المطلع على نقصها أمام رحمته هو الله. وكذلك عطفها وسائر فضائلها. لأن الحياء قوة روحية تظهر بمقارنة المحيط الذي فيه الإنسان فإذا كان الإنسان يرى أن الله بكل شيء محيط فأين يخفي عيبه ونقصه بالقياس إلى صفات الله، ومن هنا فإن عفاف فاطمة لا يقاس بما عند الناس، لأن الطرف الذي تستحي منه لا يقاس بالناس.
أما تتمة الرواية أن الله استحى منها… فلا يمكن قبوله بالمعنى المتبادر، فهو تعالى كله كمال فليس في الذات الإلهية نقص ليستحي سبحانه من أحد، ولكن المراد أن حياء الله وصف لفعل الله وليس لله وحياؤه فعله كما في سائر الأسماء المنتزعة من فعل الله، من هنا يكون حياء الله من الزهراء عليها السلام يعني تكميل فضائل الزهراء. أي يعطيها مقابل هذا الحياء القدرة أن ترحم و تهب و تصبرو تشفع و تؤثر .. فوق ما يتوهمه بشر. ومن هنا يقول عنها الإمام الخميني (قده) إنها موجود ملكوتي بل جبروتي.
* الكلمة بمناسبة ميلاد السيدة الزهراء ع 1437هـ
(1) كشف الغمة ج2 ص497
0 تعليق