تقدم القراءة:

الإصلاح في منهج الإمام علي عليه السلام

الأربعاء 6 أبريل 2016صباحًاالأربعاء

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

الحديث عن الإصلاح في منهج أمير المؤمنين (ع) فيه مضامين واسعة جداً، والأولى أن نرجع إلى المطولات التي تتحدث عن منهج أمير المؤمنين (ع) في الإصلاح. لكن سوف نتحدّث بما يتناسب مع المساحة المتاحة لنا.

الإصلاح بديهية إنسانية:

      يعدّ شعار الإصلاح  شعارا ًمتكرراً في كل زمان و مكان منذ أن خلق الله سبحانه الإنسان . والكل يدّعي طلب الإصلاح حتى قوم فرعون! فقد كانوا يدّعون أن مشروع موسى وأخيه هارون ينافي الإصلاح. مستدلين بنحو من البداهة على ما في الآية ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ… ﴾ الأعراف 127  بمعنى أنه حتى الملأ من قوم فرعون و فرعون نفسه  ينتهي إلى أنه رجل إصلاح مقابل حركة موسى، وهذا هو شعار الطغاة دائما لا يتغير قبالة كل حركة معارضة أو إصلاح و تصحيح. 

و المنافقون في المدينة – أيضا – عندما انكشف أمرهم  كانوا يدّعون أنهم في مقام طالب الإصلاح، وقد قال الله عنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ البقرة 11

        إن مسألة الإصلاح وفي مقابلها الإفساد من البداهة بحيث لا يحتاجان من أجل إدراك رجحان القيمة الأعلى منهما إلى وحي سماويّ ربانيّ، فبعض المفاهيم يدركها الإنسان  بالفطرة، فيعرف – مثلاً –  أن الظلم و الكذب قبيح، وأن الصدق حسن، وأن الإصلاح مطلوب. ولو دعي الإنسان للاشتراك في عمل إصلاحي فإنه بشكل طبيعي و تلقائي سوف يستجيب بالفطرة مسلما كان أو غير ه. 

     و قيمة الإصلاح هي أنه من البديهيات الإنسانية مضافاً إلى ما عندنا من بديهيات دينية و أخلاقية، وإذا رُفعت شعارات الإصلاح ومحاربة الفساد والظلم والمطالبة بالحقوق وعمارة الأرض، فإنها دعوة يقبلها الكافر والمؤمن على السواء. ولكن لأن الكل يدّعي الإصلاح فقد تنطلي الدعوات الزائفة على الكثيرين، لكن نحن الشيعة لا يمكن أن تغرّنا بعض المظاهر التي يبدو منها الإصلاح. لأننا محصنون بالولاية، التي جعلتنا ندقق في مسألة كل موقع زعامتي ونراقبه ونلاحظه، وقد أعطانا أهل البيت عليهم السلام حصانة عقائدية بحيث لا تضيع علينا مثل هذه الشعارات. ونحن إذ نبحث في حياة الأئمة الاثني عشر فلكي يبقى إيماننا وعقيدتنا فيهم عليهم السلام عقيدة منطقية، وبالرغم مما نعتقد به من عصمتهم نبقى نبحث عن برامجهم الإصلاحية ونتمثلها في كل أبعادها، من هنا فلا يمكن أن نثق فيمن يدعي ويرفع شعارات الإصلاح بلا محتوى، لعلمنا أن فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان الإنسان غير صالح في نفسه، و قبل أن يأخذ موقعاً بلا أهلية فكيف يكون صالحاً؟ وكيف يكون عمله صالحاً؟ 

في عقيدتنا  العمل الصالح التام لا يمكن أن يصدر إلا من محمد وآله عليهم السلام. وهناك إجماع لدى المسلمين على أن هذه الآية  نازلة في أمير المؤمنين و أبنائه (ع) ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ البينة 7  أي أنهم جوهر البرية، فهي من البري، أي كما يبري أحدكم القلم فتسقط منه القراضة الزائدة حتى يخرج الجوهر الذي في القلم  الملفوف بالخشب.

مرتبة علي في الإصلاح:

إذا أردنا أن نتأمل في الإصلاح العلوي فسنرى أنه ينقسم إلى بُعدين:

الأول: من جهة المرتبة الكلامية. 

الثاني: من جهة المنهج العملي والتاريخي.

وسوف نتناول ذلك بشيئ من التفصيل: 

إصلاح الإمام علي من الجهة الكلامية:

إننا ندّعي من جهة عقائدية كلامية أن علياً عليه السلام كان مصلح المصلحين كلهم على وجه الأرض آدم ومن دونه. وسوف أحاول أن أقيم الدليل على ذلك باختصار:

هناك مفاهيم متكثرة من حيث الألفاظ لكنها واحدة من حيث المصداق، والإصلاح هو من تلك المفاهيم التي تتضمن معنى الهداية، فحين تصلح شيئاً فإنك تهديه إلى كماله وجماله وتعيد بناءه وتبرز ما فيه من محاسن. فلا تفكيك بين الهداية وبين الإصلاح، فهما مفهومان لحقيقة واحدة ومصداق واحد.

والقرآن يؤكد على ذلك، وحين يتحدّث عن الأئمة يقول: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ الأنبياء: 73 يهدي ليست بمعنى يُعلّم الهداية، بل بمعني يصلح و يحقق الإصلاح. أي يأخذ باليد حتى تبرز معالم الإصلاح. وهذه هي امتيازات منهج أمير المؤمنين (ع) في الإصلاح.

والدليل على مرتبة علي الإصلاحية التي ادعيناها في البدء ” أن عليا هو مصلح كل المصلحين وهادي كل الهداة ” من القرآن هو قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾ آل عمران 81   فقد أخذ على الأنبياء المواثيق المغلظة بأن يوالوا رسول الله (ص) و أن ينصروه في مقابل الحكمة التي أعطاهم الله إياها. 

وسواء كانت اللام في ( لما آتيتكم ) هنا لام القسم أو كانت اسماً موصولاً، فإن شرطية إيتاء الحكمة من قبل الله هي تولي الرسول، وهنا تأتي قيمة قول رسول االله (ص): ” من كنت مولاه فعلي مولاه “ فهذه الولاية مأخوذة على الأنبياء. لأن الأصل في خطابات النبي الإطلاق، إلا إذا قيدناها بقيد حالي أو مقامي أو مقالي، ولا قيد في المقولة السابقة.

    و نحن إذ نؤكد على مسألة عيد الغدير فلأن ولاية أمير المؤمنين تعني الإصلاح، بل نعتقد أن الأنبياء لم يستطيعوا أن يرِدُوا إلى الإصلاح وعالم الإصلاح إلا بولايتهم لأمير المؤمنين، لأن الولاية والإمامة والهداية والإرشاد ثلاثة مفاهيم لحقيقة واحدة.

كما أن الأنبياء هم أنبياء وأولياء لأممهم هم في ذلك – أيضا – محتاجون إلى نبي وولي، وهو محمد بن عبد الله (ص)، ومن كان وليه محمداً كان علياً وليه، وهذا الميثاق مأخوذ عليهم لإعطائهم الحكمة، و مدينة الحكمة لا يمكن أن تُدخل من غير بابها، وبابها  لجميع المتأخرين والمتقدمين هو أمير المؤمنين عليه السلام. 

إذا كان المِلاك في نبوة كل الأنبياء هي علمهم وحقانيتهم  وحكمتهم ليكونوا أنبياء وأولياء ومرسلين، فهذه الثلاث إمكانيات ذكرها رسول الله (ص) في شأن علي (ع): “يا علي أنا مدينة العلم وأنت بابها”  “يا علي أنا مدينة الفقه وأنت يا علي بابها”  “يا علي أنا مدينة الحكمة وأنت بابها” إن علّة خلافة آدم هي علمه، وعلي باب مدينة العلم. ولذلك نقول أن عيد الغدير عيد الله الأكبر، وله في السماء والأرض والبحار وعند أهل المحشر وأهل الجنة هذا الاسم، والسبب أن رسول الله أعلن فيه أن حقيقة صلاح أمير المؤمنين وإصلاحه وولايته وموالاته هي في دائرتها الواسعة.

ولا يُتوصّل  إلى الحكمة إلا من باب علي، حتى للأنبياء. ولنقرّب ذلك اضرب لكم مثالا: 

في دراستنا للحكمة عندما نقرأ كتب صاحب الميزان فإننا لا نفهمها، لذا نقرأ الشروحات، فيكون بابنا في فهم الحكمة هو شارحها وفاتح مغاليقها وهو الشهيد مطهري، ومن خلاله نستوعب الحكمة. وكذلك رسول الله (ص) والأنبياء إذا لم يقرأوا علياً فإنهم لن يفهموا في الحكمة ولا في الفقه، ولهذا لابد من الواسطة.

أريد أن ألفت أنه لا يكفي الاعتقاد بغاصبية السقيفة لكي يصبح الإنسان موالياً لعلي، لأنه حتى الخوارج لم تعتقد بالسقيفة، كما أن الخليفة الثاني قد وصفها بأنها (فلتة) فهل صاروا بذلك شيعة!؟

كما لا يكفي – أيضا – أن تتبرأ من الأمويين، لأن الخوارج كذلك تبرأوا منهم ولم يقبلوهم.

إصلاح الأمير من جهة المنهج العملي والتاريخي:

  إذا أردنا أن نقرأ إصلاحات أمير المؤمنين على صعيد تاريخي خارجي يكفينا أن نقف على مقولة الخليفة الثاني المشهورة: “لولا علي لهلك عمر” لكن علينا أن نقرأها قراءة ثانية غير القراءة السطحية التي أُريدت لنا والتي لا تتعدى كون عليا حلّ مسألة قضائية، فإن قراءتها في مكانها وفي موقع يناسبها ترتفع بها عن التسخيف والتسطيح والتسذيج. فهذه ليست إصلاحات أمير المؤمنين في التاريخ، ولا يجب أن نقرأها ضمن هذا البعد. إصلاح أمير المؤمنين يبرز في إدارته للأزمات الكبار التي لا يديرها غيره، والتي لولاها لهلك فلان بل لهلكت الأمة الإسلامية كلها.

 الإصلاح الاستراتيجي لأمير المؤمنين يكمن في معرفة موارد الاصلاح، ولذا يجب أن لا نتصور أن ثبات علي (ع) وفرار كبار الصحابة في أهم المواقع دليل على بطولة علي!!  يجب أن لا نحصر الأمر في ذلك، فثبات علي بعد من أبعاد الحكمة الوجودية له. وفي فلسفة الأخلاق كل الفضائل تترتب على الشجاعة والحكمة، ولا تفيد الشجاعة إلا بالحكمة. 

 ولنبين أهمية الحكمة في القيادة نضرب مثالاً حياً نعاصره الآن، نرى أن هناك في العمر والأسبقية العلمية والميدانية من يفوق سماحة السيد حسن لكن السيد له عليهم ميزة الحكمة وملكة القدرة ومعرفة المخرج من الأزمات وهذه المكنة ليست لغيره. 

 سألنا الشيخ مصباح اليزدي – وكان يستميت في الدعوة بمرتبة عالية للاستسلام لولاية السيد القائد – قلنا له: هل إن السيد الخامنائي أعلم الموجودين؟ فقال :ربما ليس أعلمهم ولكن أقدرهم على إدارة المسائل العلمية.. ليست المسألة أن تكون الأعلم فقهياً، ولا حتى أن تعلم المباني الأصولية بشكل أدق.. بل كيف تدير هذه المسألة ضمن المنظومة الفقهية  لتصلح بها الأمة وأحوالها.

     إن إدارة الأمور السياسية تختلف عن إدارة الأمور الثقافية، فلابد من استراتيجية أساسية فقهية وأخلاقية ومفاهيمية، ولابد من الخطط الجديدة المتناسبة مع تغير المراحل. هذا ما يسمى القدرة على إدارة الأزمات. ولذا عندما نقرأ ” لولا علي لهلك عمر” في منطق إنسان كله استراتيجية إلهية ربانية يقلبها بين يديه مثل العجينة ويستطيع أن يستخرج المخرج منها، فإنا نقرؤها بنحو مختلف . 

الإصلاح العلوي استراتيجية وجود الإسلام:

يمكن أن نسمي الإصلاح الذي قام به أمير المؤمنين صلوات الله عليه (استراتيجية وجود الإسلام)، ولكي نقرأ الإصلاح لابد أن نعرف استراتيجية أمير المؤمنين:

 استراتيجية أمير المؤمنين التي بها حافظ على وحدة الدولة الإسلامية وكيانها كان يقوم على الحكمة، فإذا كان الأمر يدور بين وحدة الكيان الإسلامي في مقابل حاكمية المشركين فإن القرار يكون من الحكمة. ولذلك ورد عندنا (العاقل من يختار أهون الشرين) . فالحكمة  تدعم شيئا ولو كان فيه شر دفاعاً لما هو أشر ولما هو أضر. 

مثلا في ما يخص الفتوحات الإسلامية كان علي هو قائدها الواقعي وأتباعه هم فرسانها، وإلا هل تظنون أن هؤلاء الذين كانوا فرارين وليسوا كرارين، يهربون من البحر ومن الخندق وخيبر كيف فتحوا  الفتوحات!؟ وكيف واجهوا الفرس والديلم!؟ غير أن من كان يخطط و يرسم ليس إلا علياً وأصحاب علي عليه السلام!. فكيف يُقدّم الذنابي فجأة وقد كان يخاف العشرة وإذا به يواجه المائة!  ومن لم يكن ليستطيع أن يرسم خطة لفتح خيبر يصبح فاتحا لفارس و مصر؟! (1)

الميزة في إصلاح أمير المؤمنين أن حجمه ومقداره بحجم الحفاظ على الديانات الإلهية وبحجم الحفاظ على التوحيد و الإيمان والكرامة والعزة، وبحجم الحفاظ على القيم التي أخذ الله على الأنبياء فيها أشد المواثيق و الإصر الإلهي على ولاية أمير المؤمنين.

إذن يحق لنا نحن الشيعة الذين نؤمن بهذه المرتبة الراقية العالية من الإصلاح العلوي أن نعتقد أن أمير المؤمنين سيصلح أعمالنا واعوجاجنا ونقائصنا ويذيب ضعفنا، ويحق لنا أن نعتقد ذلك.

إن من لا يقبل شفاعة أمير المؤمنين وإن كان من المفكرين وممن هم ضد الأمويين فإنه لا يعرف مرتبة أمير المؤمنين (ع)، وإننا إذا قلنا أن علياً حلال المشاكل فإنا نريد المشاكل الكبار التي لا يعرف غيره المخرج منها.

إن من يستطيع أن يدير أمورك في الدنيا – أقصد أمير المؤمنين – وهو مقبوض اليد وهو يقول: ” صبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهبا” هو قادر على أن يدير أمورك يوم القيامة وبين يدي الله وعند الملائكة. وفي الروايات  ورد “لا تسيء الظن فينا”، وكما يقبح سوء الظن بالله فإنه قبيح في حق الأمير. 

علي يستحق منا أن لا نحيي فقط ذكراه ومولده يوم أو يومين أوعشرة، بل يستحق منا أن نحييه – أبداً – في فكرنا ومعتقدنا وعملنا مدى الأزمان.


(1) قال ابن الأعثم في الفتوح:2/290: (ذكر كتاب عمار بن ياسر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبدالله عمر أمير المؤمنين من عمار بن ياسر ، سلام عليك . أما بعد فإن ذا السطوات والنقمات المنتقم من أعدائه ، المنعم على أوليائه ، هو الناصر لأهل طاعته على أهل الإنكار والجحود من أهل عداوته ، ومما حدث يا أمير المؤمنين أن أهل الري وسمنان وساوه وهمذان ونهاوند وأصفهان وقم وقاشان وراوند واسفندهان وفارس وكرمان وضواحي أذربيجان قد اجتمعوا بأرض نهاوند، في خمسين ومائة ألف من فارس وراجل من الكفار ، وقد كانوا أمَّروا عليهم أربعة من ملوك الأعاجم ، منهم ذو الحاجب خرزاد بن هرمز ، وسنفاد بن حشروا ، وخهانيل بن فيروز ن وشروميان بن اسفنديار ، وأنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا وتكاتبوا وتواصوا وتواثقوا ، على أنهم يخرجوننا من أرضنا ، ويأتونكم من بعدنا ، وهم جمع عتيد وبأس شديد ، ودواب فَرِهٌ وسلاح شاك ، ويد الله فوق أيديهم . فإني أخبرك يا أمير المؤمنين أنهم قد قتلوا كل من كان منا في مدنهم ، وقد تقاربوا مما كنا فتحناه من أرضهم ، وقد عزموا أن يقصدوا المدائن ، ويصيروا منها إلى الكوفة ، وقد والله هالنا ذلك وما أتانا من أمرهم وخبرهم ، وكتبت هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين ليكون هو الذي يرشدنا وعلى الأمور يدلنا ، والله الموفق الصانع بحول وقوته ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، فرأي أمير المؤمنين أسعده الله فيما كتبته . والسلام .قال: فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقرأه وفهم ما فيه وقعت عليه الرعدة والنفضة ، حتى سمع المسلمون أطيط أضراسه ! ثم قام عن موضعه حتى دخل المسجد وجعل ينادي: أين المهاجرون والأنصار ! ألا فاجتمعوا رحمكم الله ، وأعينوني أعانكم الله ! ).

وفي تاريخ الطبري:3/209: (وكتب إليه أيضاً عبد الله وغيره بأنه قد تجمع منهم خمسون ومائة ألف مقاتل ، فإن جاؤونا قبل أن نبادرهم الشدة ، ازدادوا جرأة وقوة… ثم نقل الطبري مشورة عمر للصحابة وقوله: أفمن الرأي أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه ، حتى أنزل منزلا واسطاً بين هذين المصرين فأستنفرهم ، ثم أكون لهم رداء حتى يفتح الله عليهم ويقضى ما أحب ، فإن فتح الله عليهم أن أضربهم عليهم في بلادهم وليتنازعوا ملكهم…؟

فقام طلحة ابن عبيد الله وكان من خطباء أصحاب رسول الله(ص)فتشهد ثم قال: أما بعد يا أمير المؤمنين فقد أحكمتك الأمور وعجمتك البلايا واحتنكتك التجارب ، وأنت وشأنك وأنت ورأيك ، لا ننبو في يديك ولا نكل عليك . إليك هذا الأمر فمرنا نطع وادعنا نجب ، واحملنا نركب ، وأوفدنا نفد ، وقدنا ننقد ، فإنك ولي هذا الأمر ، وقد بلوت وجربت واختبرت ، فلم ينكشف شئ من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار . ثم جلس .

فعاد عمر فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الأيام فتكلموا . فقام عثمان بن عفان فتشهد وقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشأم فيسيروا من شأمهم ، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم ، ثم تسير أنت بأهل هذين الحرمين إلى المصرين الكوفة والبصرة ، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين ، فإنك إذا سرت بمن معك وعندك ، قل في نفسك ما قد تكاثر من عدد القوم ، وكنت أعز عزاً وأكثر… ثم جلس .

فعاد عمر فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الأيام فتكلموا . فقام علي بن أبي طالب فقال: أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك إن أشخصت أهل الشأم من شأمهم سارت الروم إلى ذراريهم ، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم ، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات ! أقْرِرْ هؤلاء في أمصارهم ، واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا فيها ثلاث فرق: فلتقم فرقة لهم في حرمهم وذراريهم ، ولتقم فرقة في أهل عهدهم لئلا ينتقضوا عليهم ، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مدداً لهم . إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً قالوا هذا أمير العرب وأصل العرب ، فكان ذلك أشد لكلبهم وألبتهم على نفسك . وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لمسيرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكره . وأما ما ذكرت من عددهم ، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكنا كنا نقاتل بالنصر . فقال عمر: أجل والله لئن شخصت من البلدة لتنتقضن عليَّ الأرض من أطرافها وأكنافها ، ولئن نظرت إلى الأعاجم لا يفارقن العرصة ، وليمدنهم من لم يمدهم وليقولن هذا أصل العرب ، فإذا اقتطعتموه اقتطعتم أصل العرب ). انتهى .

وفي نهج البلاغة:2/29: (وقد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه: إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة ، وهو دين الله الذي أظهره ، وجنده الذي أعده وأمده ، حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع . ونحن على موعود من الله ، والله منجز وعده وناصر جنده . ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه ، فإن انقطع النظام تفرق وذهب ، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً . والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً ، فهم كثيرون بالإسلام وعزيزون بالاجتماع ، فكن قطباً ، واستدر الرحى بالعرب ، وأصلهم دونك نار الحرب ، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك !

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 114٬754 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها