يعتبر الائمة عليهم السلام -وبالأخص أبناء الحسين (ع) – سلسلة مترابطة ومحكمة في منظومة كربلاء، لم يشذ أحد ٌمنهم عن منهج الإمام (ع)، بل كانوا بنيانا مرصوصا لهذه المنظومة الكربلائية يمتدّ منها ويمدّها، فما قيمه كربلاء بلا عرفان الإمام السجاد وعلوم الإمام الباقر و الصادق أو مقاومة الإمام الكاظم (ع)؟ إن تفكيك هذه المنظومة عن بعضها يعني انهيار أصل النظرية الكربلائية.
إن أحد مميزات كربلاء عن غيرها من الحركات الإنسانية هو تكامل حلقاتها، والذي فجّر واقع كربلاء وجعلنا نقرؤها في كل الحياة هي هذه السلسلة والحلقات المتتالية من سيرة المعصومين (ع) . فكربلاء – على حد تعبيرنا اليوم – كالملف المضغوط الذي لو فتح فسوف تعرض لنا هذه الصور المتتالية التي تمتدّ منها، وسوف لا نجد في داخله إلا سجادية وباقرية وصادقية وكاظمية .. وهذا هو ما يميز كربلاء عن سائر الحركات الإنسانية العالية الراقية السامية، بل حتى عن حركات الأنبياء ومبادئهم .
لكربلاء ظاهر وروح
وحينما نبحث عن موقع حركة الإمام زين العابدين (ع) في كربلاء سنجد أنه يتميز من بين من كان مع الإمام الحسين (ع) في أنه يمثل مخّ كربلاء ولبّها الذي أضفى عليها هذه الروح ، وقد ظهر هذا في دوره (ع) . كربلاء كمعبد ومصلىّ ، والإمام زين العابدين أبرز جمالها بأدعيته وعرفانه ودعائه ، ونحن نعلم أن الدعاء مخّ العبادة ، لذا قلنا أن الإمام السجاد يمثل مخّ كربلاء؛ تلك العبادة العظيمة التي قام بها الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه ،ولنفهم ذلك لابد أن نقرأ دور الإمام السجاد (ع) بناء على ما أصلنا له من معنى (أشهد انك قد أقمت الصلاة) :
بيّنا أن الصلاة في الإسلام عمود الدين وأن لها وظيفتان :
1- تعيين أنماط الحياة، أو تحديد المسار في الحياة بكل أبعادها . فكما أن العمود يعيّـن نمط هندسة البناء؛ فالصلاة تعيـّن نمط الإسلام، وهي التي تحدد هندسة العمل والنهج والمنطق الإسلامي في الخارج، وهي بمثابة حفظ الروح في كل أرجاء وأجزاء بدن الإسلام، إذ تحفظ ترابطه واتصاله. هذا معنى أن الصلاة عمود الدين
2- تعيين الهيئة الظاهرية للحياة كما هو عمود البناء الذي يحدد الهيئة الظاهرية للبناء، وهنا سنتحدث بشيء من التفصيل والشواهد :
إن ظاهر حياة المصلين مختلف عن ظاهر حياة غيرهم ، لأن الصلاة تحدد الهيئة الظاهرية ، ومما يوضح هذه الخاصية قوله تعالى : ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً﴾ سورة المعارج 19/ 21 الآية تتحدث عن طبيعة إنسانية تستثني منها المصلين . ربما يقال أن ذلك من باب الكناية، كقولنا فلان خلق طبيبا لشدة مهارته في الطب، لكن التعبير في الآية ليس كذلك؛ بل هو تعبير حقيقي ، فهذا الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا ، ولا يخرج عن هذه القاعدة إلا في حال معين، متى ؟ الآية تجيب: ( إلا المصلين ) أي قبل أن تترك الصلاة عليه آثارها . ولذا يقول علماء التفسير أنه إذا جاء وصف الانسان في القرآن مجردا عن أي شيء فالمقصود هو الانسان قبل معرفة الله و قبل الاتصال بالغيب، فالمصلون هم الذين خرجوا من هذه الطبيعة إلى الاستثناء و السيطرة على نقاط الضعف واستطاعوا تحويلها الى قوة.
آية أخرى توضّح هذا المدّعى : يقول تعالى : ﴿فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ﴾ سورة محمد/20، الآيات هنا تصف الحال الظاهر لمن في قلبه مرض ولم تؤثر فيه الصلاة فيه، هذا الشخص حين تنزل آيات القتال ينظر كالمغشي عليه من الموت، أي ينظر نظرا فارغا من التقدير والإبصار والرؤية الواقعية ، نظر المغشي المسلوب جمال النظرة .
وفي آية أخرى يوعز القرآن أسباب الفرار من الجهاد إلى التثاقل إلى الأرض، وهو من الحال الظاهر لغير المصلين لأن من تكون الصلاة معراجه لا يمكن أن يكون متثاقلا. يقول تعالى : ﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ سورة التوبة38 من لا يعرج بالصلاة لا يكون إلا منشدا إلى الأرض ، ومن يختار الدنيا يكون متثاقلا عن الطاعات، يشبهه أستاذنا الجوادي الآملي كمن يطلب منه أن يتحرك وقد حمل ثقل الأرض معه ، وكيف يتحرك من حمل الارض التي يجب ان تحمله ؟! هذا الشخص تكون هيئة حركته أرضية ثقيلة منشدّة إلى الطين ، يشم ذلك من قوله وفعله ومواقفه التي تحكي باطنه .
أما إذا تمت صلاة الإنسان . فإن هيأته تتغير، لأن باطنه يتغير، وتكون هناك صورة مختلفة تماما، وفي مقابل هذه الصورة التي تصفها الآية يصف الأمير عليه السلام خفة أرواح المتقين فيقول ( لولا الأجل الذي كتبه الله لهم لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرفة عين) [نهج البلاغة ] أي لولا أن هناك مقادير إلهية لفاضت أرواحهم من أبدانهم لخفتها واتصالها الأشد بالغيب. هذه هي الهيئة التي تحققها الصلاة ظهرت جلية في كربلاء بين أصحاب الإمام الحسين (ع) ، وعندما نصفهم بالمصلّين فلا نعني أنهم كانوا يصلون بأداء فروضهم ؛ بل إن هيئتهم وحركتهم في كربلاء كانت حركة مصلين .
الإمام السجاد يترجم كربلاء
كما أن لكربلاء هيئة فلها أيضا فيها روح، كالصلاة تماما ، فللصلاة هيئة وروح منتشرة على جميع أرجاء وأبعاد الدين الإسلامي بمثابة انتشار المعنى في اللفظ -كما يعبر صاحب الميزان – وكما تسري الروح في البدن، وعليه فإن روح كربلاء وحقيقتها هي تلك التي تمثل كل أطراف كربلاء الوجودية.
روح كربلاء وباطنها لم تظهر يوم عاشوراء ، وما ظهر في كربلاء من صبر وتضحية وفداء ووفاء وجهاد أكبر وأصغر كان عبادة ظاهرة، أما باطنها الذي يجعلها روحا تغذي كل أبعاد الحياة فقد فجرهاّ الإمام زين العابدين (ع) في سيرته .
لنلقِ نظرة على عناوين الصحيفة السجادية ونتأمل في المناجاة ؛ سنجد قلب كربلاء وفلسفة كربلاء. هذه الصحيفة لا تقتصر على أدعية الإمام في المناجاة مع ربه، بل تغطي كل شئون الحياة ، فهو يدعو لطلب الرزق، ولطلب الولد، ولأهل الثغور، وعند المرض، وفي الظلامات، ولوالديه، ولجيرانه … الخ ، هذه الأدعية في الحقيقة هي ترجمة للحياة الصحيحة، حيث لا تجد بُعدا من أبعاد الحياة الإسلامية إلا وقد ذكرها الامام زين العابدين وضخّ فيها روحا وحياة .يقول السيد القائد الخامنئي في هذا المعنى (أرجو من أعزائي ولاسيما الشباب أن يأنسوا بالصحيفة السجادية فما في هذا الكتاب هو دعاء في الظاهر وفي الباطن فهو كل شيء ).
إذن كربلاء هي هيئة الصلاة والصحيفة السجادية بمثابة مادة هذه الهيئة، فكربلاء بدون هذا النفَس القدسي ستتحول إلى صرف مظلومية أفقية، وإلى يأس من الواقع، وإلى معالجات أرضية، وإلى معسكرين أحدهما خاسر والآخر منتصر. ولكن كربلاء حين تُقرأ بالصحيفة السجادية نجدها نزلت إلى كل تفاصيل حياتنا، ولولا أن الامام زين العابدين (ع) أعطانا هذا العرفان المتكامل للحياة لما تمكنا أن نترجم كربلاء ترجمة عرفانية ولا أن نعرف أبعادها الإنسانية .
لاحظوا ما جاء في دعاء مكارم الأخلاق (اللهم إني أعوذ بك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره) لنتساءل : كم مرة في اليوم يُظلم أمامنا أناس ونستطيع نصرتهم ولا ننصرهم؟! الإنسان يقع في هذا الإثم كثيرا، فمن مظاهر الظلم – مثلا- أن يتكلم اثنان ويغلب أحداهما الآخر بالصوت، هنا يعدّ من رفع الصوتُ عليه مظلوما في الإسلام . لو نصرنا هذا المظلوم وحفظنا هذا المقدار من الحقوق لأصبحت الحقوق بيننا محفوظة، ولارتدع كل متجاوز للحدود ومتعدّ على الحقوق .لدينا سجناء مظلومون؛ أوليس عدم نصرتهم إثم يحتاج لاستغفار!! الإمام يستعيذ من أن يصل به الحال أن لا ينصر المظلوم ، ولاشك أن حمل المجتمع لمسؤولية نصرة المظلوم من شأنه تغيير واقع الأمة .
في بحث للشيخ الطوسي- أحد أساتذتنا في البحث الخارج – في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال هذه الرواية عن الإمام الصادق (ع): (كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم) كان رأيه ملفتا ويستحق التأمل . المعنى المتداول للرواية هو أن عليكم أن لا تدعوا لأهل البيت بألسنتكم ، بل اعملوا ليكون سلوككم وعملكم سببا لهداية الآخرين ، لكن الشيخ الطوسي يقول :إن معنى الرواية : كونوا دعاة لنا بأيديكم ، ولا تكتفوا بألسنتكم لئلا تغلبوا .
الرواية ضعيفة السند حسب التتبع ، لكن حديثي حول الدلالة والظروف، فقد وردت الرواية بنفس المضمون عن أمير المؤمنين (ع) في حرب صفين حيث ظرف حرب ومواجهة ، وهذا يدعم المعنى الذي ذهب إليه الشيخ الطوسي .
للأسف نحن نحب أن نعيش حياة رتيبة ، لذا يناسبنا معنى الرواية الأول المتداول – الاكتفاء بالعمل في الدعوة لأهل البيت –فالحياة العمودية القائمة – إن صح التعبير- صعبة، لذا فإننا نكتفي بهذا النحو من روح الإسلام في التعاطي الاجتماعي . أما إذا كنا نتعاطى بما يقوله الإمام “اللَّهُمَّ إنِّي أعوذ بك مِنْ مَـظْلُوم ظُلِمَ بِحَضْرَتِي” والتزمنا بأن ننصر كل مظلوم فلن يكون هناك ظلم اجتماعي .
هذه مفردة واحدة مما يبثه الإمام السجاد ع من روح في أدعيته ومن شأنها تبديل واقعنا وبث روح الدين في حياتنا ، وعلى ذلك فقس، ولو أننا فسرنا كربلاء بهذه الأدعية التي تشمل كل جوانب الحياة وتغطي كل علاقات الإنسان، وقرأنا علاقة الحسين مع واقعه السياسي والاجتماعي والأسري وعلاقته ببناته وأبناءه وأنصاره وأصحابه وجيرانه لوجدنا أن الإمام الحسين هو الذي أقام هذه الصلاة، لكن الذي فجرها بحيث هندس للحياة الدينية ووضع معالمها هو الإمام زين العابدين (ع).
بمعنى أوضح : كربلاء فيها هيئة الصلاة وقد تحققت بالحسين وأصحابه ، وفيها روح الصلاة التي يجب أن تتفجر وتملأ جميع الأبعاد الإنسانية ، فيها ما يجب أن ينشر ويترجم من مواقف وقيم ، وقد قام بهذا الدو الإمام زين العابدين عبر أدعيته وعرفانه .
وكما أن الصلاة عمود الدين الذي يهندس للحياة ،هذه الأدعية في الحقيقة هي امتداد وتشعب من روح الإمام الحسين(ع) وصلاته في أرجاء الحياة ، فحين نقرأ كربلاء نجدها سلسلة متصلة ونجد الإمام زين العابدين حلقة أساسية فيها فهو المترجم لتفاصيل كربلاء .
بكاء الإمام زين العابدين
من هذا المنطلق يمكن أن نفسر كثرة بكاء الإمام زين العابدين (ع)؛ وإن كان البعض يفسره كنوع من الإعلام وتعليم الناس وتوجيههم وإرشادهم وأداء واجبه الشرعي، و هذا صحيح ؛ولكن ليس هذا جوهر بكائه (ع) .
نحن مسؤولون أمام قضية الحسين (ع) ، وعلينا أن نتعلم كيف نبكي، فهذه مسألة مهمة لها أثر إعلامي ونتاج تربوي وأخلاقي وروحي ووجداني، وقد كان الإمام زين العابدين يمارس فيها دورا شرعيا.
لقد كان الإمام زين العابدين يرى كل مفاصل الحياة قد تعبأت بكربلاء، ومُلئت بصلاة الإمام الحسين(ع) لذا كان يبكي على كل موقف وفي كل مناسبة .
إذا كان المؤمنون لا تستقر أرواحهم في أبدانهم لولا الأجل ؛ لا أدري كيف استقرت روح الإمام زين العابدين في بدنه وأي جهاد كان يتحمله ليبقى حيا ! كان أستاذنا السيد كاظم الحائري يقول : إن إبقاء الإمام نفسه على قيد الحياة ليؤدي رسالته هو بحد ذاته جهاد ، وهو لنا عطاء و رحمة . لقد تحمل الإمام ما تحمل حتى يفجر لنا روح كربلاء في مناجاته وفي أدعيته في انقطاعه لله ، ونقرأها مفصّلة في كل نواحي الحياة .
________________________________________________________
* وفاة الإمام السجاد (ع) 1437هـ
0 تعليق