٥- حقيقة الشهادة للإمام الحسين (ع) بإقامة الصلاة
بعد أن وضحنا إقامة الإمام الحسين للصلاة، وعرفنا أن إقامته للصلاة تعني إقامة الدين كله بمادته وهيئته، علينا أن نشير إلى المفهوم الآخر من الزيارة وهو (الشهادة) .
قد نتصور أن الشهادة هي من جنس الشهادة القضائية في عالمنا، لكن الحقيقة هي أن الشهادة للإمام الحسين تختلف، وهذا ما سنشرحه هنا .
الشهادة للإمام ليست كما نشهد في قضايانا الخلافية على نحو الإدلاء والإقرار؛ بل هي شهادة على نحو القيام، شهادة للولاية ولحفظ آثار الولاية، ولذلك تقول الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ سورة النساء/ 135 .
الآية تأمر بأن يكون الإنسان قائما بالقسط والشهادة ﴿وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ فلابد للشهادة من تبعات لأن الشهادة إنما تكون في ظرف إنكار الحق بين طرفين مختلفين، فإن جرت لأحد الطرفين بالنفع فلابد أن يتحمل الآخر الضرر. والقرآن يثبت ذلك فيقول: ﴿وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ سورة البقرة/ 282 .
(فلا تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ) أي لا تخرجوا بها من القيام إلى الانحراف بها وليّها، جاء عن الامام الصادق (ع) في تفسير قوله تعالى: (َإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كان بما تعملون خبيرا) قال إن تلووا الأمر أو تعرضوا عما أٌمرتم به فان الله كان بما تعملون خبيرا. عن الإمام الصادق (ع) قال: ” إن الآية أن تلووا وتعرضوا أصلها أن تلووا الأمر وتعرضوا عما أمرتم به فإن الله كان بما تعملون خبيرا “
الشهادة في القرآن والروايات
لو نظرنا إلى مفهوم الشهادة في القرآن والروايات لوجدنا اهتماما خاصا بها، يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ سورة البقرة/ 283 وإنما عبر بآثم قلبه لأن كل الذنوب والمعاصي فاعلها الأساس هو القلب لا الجوارح ولو كان غير ذلك لما قال: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ سورة فصلت/21 ولو كانت الأيدي والأرجل هي المذنبة لقالوا لم أقررتم؟ لأن الشخص إذا اعترف على نفسه يقال أقرّ عليها وليس شهد عليها، فالجوارح شهود لأن المذنب الأساسي هو القلب .
وفي الرواية عن الصادق عن آبائه عن النبي (ص) في حديث المناهي أنه نهى عن كتمان الشهادة وقال: “من كتمها أطعمه الله لحمه على رؤوس الخلائق ، وهو قول الله عز وجل: (ولا تكتموا الشهادة) “(١). والمعني بالشهادة في جميع شؤونها وتفريعاتها ولابد في أعلى مستوياتها لأهل البيت (ع), وجاء أيضا عن الصادق (ع) عن رسول الله (ص) في رواية شديدة اللهجة أنه قال: “من كتم شهادة أو شهد بها ليهدر بها دم امرئٍ مسلم أو ليزوي بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه.”(٢) وهو ذات المعنى المستكمل في الآية التالية ﴿لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ سورة البقرة/ 284 فإن كاتم الشهادة هو من انكشفت له الحقيقة ولم يتحمل مسؤولية الإدلاء بها، وما أبانه الرسول من جزاء يوم القيامة يعكس أهمية حقيقة الشهادة ، وأن كتمانها هو تضييع لكل الحقوق الاجتماعية والشرعية والدينية، ولذلك استحق أن تعرفه الخلائق باسمه وهو باطنه المنكشف في ذلك العالم.
عناصر الشهادة
تتركب الشهادة من عناصر ثلاثة :
1- المعرفة والعلم : وهي المرحلة الأولى التي يسمى فيها المرء شاهدا .
2- الإقرار بالحقيقة : الشاهد هو من يقرّ أن الإمام الحسين قد أقام الصلاة، وتذعن نفسه بأن هناك رسالة للحسين (ع) في كل مرفق من مرافق الحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية، ولا تنحصر رسالته (ع) في ظرف ساعات اليوم العاشر فقط .
3-تحمل المسؤولية : وهي عنصر في كل شهادة، فإذا علم الشاهد ثم أقرّ ولكنه لم يتحمل مسؤولية الإدلاء أو حتى أن يحقق خطوة واحدة لصالح المظلوم كان كاتما للشهادة. وكم كتمت شهادات على مدى التاريخ منها ما كتمته الأمة من شهادة للزهراء
(ع)، رغم مناشدتها لهم بالشهادة لها، ولكن لم يشهد لها من الأمة كاملة سوى الأمير وابنيه (ع).
تحمّل مسؤولية الشهادة للإمام الحسين بإقامة الصلاة تعني تحويل القضية الحسينية إلى حياتنا الاجتماعية في روابطنا وعلاقاتنا، التي هي نوع إشهار للشهادة في مقابل الكتمان، أما إذا فرّغنا عمليا حياتنا الاجتماعية ولو في بُعد من أبعادها من صلاة الإمام الحسين فسوف نكون كاتمين للشهادة، أن نعيش مع الإمام الحسين في محرم ثم ينقطع تأثيره فينا فهذا خلاف الشهادة، وكثيرا ما نمارس ذلك – للأسف – عندما نفصل أي مقطع من مقاطع الحياة عن الإمام الحسين أو نفرغ حياتنا من حسينيتها .
مراتب الشهادة
الشهادة للمأموم كالصلاة للإمام، فكما أن الصلاة عمود الدين للإمام فإن الشهادة عمود إيمان المؤمن، وعندما نزور الإمام الحسين (ع) ونقول ” أشهد أنك قد أقمت الصلاة” فيجب أن نتحمل معنى ودور وتمثيل هذه الشهادة، ولكي نعرف المطلوب منا حيال هذه الشهادة علينا أن نعرف أولا مراتب الشهادة .
مراتب الشهادة هي :
1- شهادة لفظية : وهي الإقرار باللسان كقول الزائر ( أشهد أنك قد أقمت الصلاة ) .
2- شهادة علمية : وهي العلم بحقيقة إقامة الإمام الحسين للصلاة، ومثله قول الله تعالى : ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ سورة محمد 19 ولم يقل: (أشهد بلسانك أن لا إله الا الله) فالشهادة بالألوهية تحتاج إلى تعلم ومعرفة ليشهد بها العقل ، وهي مرتبة أعلى من الشهادة اللفظية .
3-شهادة حالية : وهي أن يحكي حالك بما تشهد به وهي أرقى مراتب الشهادة ، ولنبينها بمثال : حين تمر على أرض معشبة وشجرة يانعة ثمارها فتقول من غير أن ترى ماء: أشهد أن هاهنا ماء، فمنطلق شهادتك هو أن حال الأرض حاكٍ عن وجود الماء وشاهد عليه. أن تشهد للإمام الحسين بإقامة الصلاة يعني أن يكون حالك شاهدا، أي أن يظهر أثر الإمام الحسين (ع) في حياتك وتشكل هذه الشهادة نمطا لحياتك، فكما تعيّن الصلاة نمط الحياة بكونها عموداً للدين كما أسلفنا ؛ فالشهادة يجب أن تعينها أيضا .
من الممكن أن يشهد الإنسان أمرا بلسانه لكن قلبه لا يقرّ به، وقد يكون مقرّا بأمر في علمه لكنه عملا لا يقرّ به وهذه لاتعدّ شهادة، وهو ما عبر عنه الفرزدق عند منصرفه من الكوفة لما لقي الإمام الحسين فقال: “قلوبهم معك وسيوفهم عليك“ فهم في قلوبهم مقرّون أنه سيد شباب أهل الجنة لكنهم ضده عملا بسيوفهم ورماحهم .
كيف نشهد للإمام الحسين بإقامة الصلاة ؟
يجب أن نشهد للإمام الحسين بأنه هو الذي أقام الصلاة بأن نستنسخ حياته ونجعلها حيّة في حياتنا. ولا يكون ذلك إلا بالاطلاع على حياة الإمام الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، وكم نحن بحاجة ماسة إلى فهم تلك الأبعاد في حياة الإمام الذي أقام به الصلاة .
إذا علمنا أن كل سلوك الإمام الحسين كان صلاة ، ثم أقررنا به وتحملنا مقابله المسؤولية والبلاء والعذاب؛ هنا فقط يصح أن نقول (أشهد أنك قد أقمت الصلاة)، وما عدا ذلك لا يكون شهادة بل استهزاء بآيات الله تعالى. وفي هذا يتميّز الناس، فهناك من عمله وحاله شاهد بأن الإمام الحسين أقام الصلاة بتحمل مسؤولية هذه الشهادة، وهناك من لا يرقى إلى هذه الشهادة. ومن هنا تميز هذا المفصل من الزيارة عن النسق العام للزيارة حيث السلام على الإمام أو على جده وأبيه، فالزائر هنا يتكلم عن نفسه ويبين دوره، ونوع بيعة للإمام الحسين (ع)، فمعنى الشهادة اتخاذ الموقف وتحمل المسؤولية وأداء الدور الاجتماعي والأخلاقي، وقبولنا لنمط حياة ورفضنا لنمط حياة، موالاتنا لنمط حياة ومواجهة لنمط حياة، والذي لا يصل الى هذه المرحلة يعتبر كاتما للشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وفي الرواية: ومن يكتمها فقد كفر.
١. تفسير نور الثقلين 3/73
٢. الذنوب الكبيرة 1/320 نقلا عن الكافي
0 تعليق