٣- إقامة الصلاة في سيرة الأنبياء – الصلاة الموسوية
“أشهد أنك قد أقمت الصلاة” شهادة نشهدها أولا وندركها ثم نقرّ بها ،ونتحمل المسؤولية أمامها .هذا ماسوف نتحدث عنه إن شاء الله.
نود الإشارة في البدء إلى أن هذه الإقامة لا يقوم بها إلا شخص واحد في كل زمان، أما الأتباع والأشياع فهم يؤدون الصلاة بناء على إقامة ذلك المقيم. وفرق بين إقامة الصلاة وبين أدائها فنحن نقوم بالصلاة ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾ سورة المائدة: 6 أما أولياء الله فهم يقيمون الصلاة ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ سورة الحج: 41 ونسبت الآية إقامة الصلاة لمجموعة باعتبار النوع، حيث أن القائد والمقودين يحملون هذا المشروع.
قلنا القرآن ذكر أن بعض الأنبياء أقاموا الصلاة، وهي إقامة تتناسب مع مرتبتهم الوجودية وتتسق مع رسالتهم إذ أن إقامة الصلاة لها مراتب، وللإمام الحسين عليه السلام أرقاها وأكملها. ولتوضيح الصورة تحدثنا عن صلاة نبي الله عيسى (ع) الذي جعله الله مباركا أينما كان وأوصاه بالصلاة والزكاة مادام حيا، وسنتحدث اليوم عن صلاة نبي الله موسى (ع) .
مع الصلاة الموسوية
يقول تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى • إذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى • فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى • إنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى • وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى • إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي • إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى • فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾ سورة طه: 9-16
هناك عدة نكات تلفتنا في قصة نبي الله موسى:
النكتة الأولى / ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى﴾ لقد آنس موسى من الوادي الأيمن نارا وهي نور في الحقيقة، ثم ترك أهله وذهب إلى النار، لكن الآية تعبّر بأنه أتاها لا ذهب إليها، مما يوحي بأن لموسى حركتين: حركة مع أهله وحياته المعاشية، وحركة ثانية منجذب فيها لذلك النور، وعندما يتحدث القرآن عن انجذابه للنور يعبّر عنه بأنه (أتاها) لأننا إذا نظرنا إلى حركة موسى من جهة أهله يصبح ذاهبا أما إذا لحظنا حركته من النور يكون آتيا.
النكتة الثانية / في قوله: ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ لم يقل إنني أنا (الله) ولم يقل اني (رب العالمين) وذلك لأن الخطاب خاص جدا، وهو موجّه لموسى (ع) لذا يخاطب بخصوص الربوبية المتعلقة به وهذا من شأنه أن يشد انتباه نبي الله موسى ويملأ أرجاءه.
النكتة الثالثة / ماهو طوى ؟
اختلف في ذلك، قال البعض أن طوى اسم للوادي الذي قصده موسى لأنه عميق والسير فيه بشكل دائري لذا كان المشي فيه مثل الطيّ.
ولكن الظاهر وبحسب ماورد في الروايات – وهو مايتبناه الشيخ الآملي – أن طوى ليس اسم مكان، بل هو وصف للمكان الذي تطوى فيه قداسات كثيرة. ومن هنا نقول ( أبرضوى ام غيرها أم ذي طوى( ولا نقول ( أم في طوى ) أي الموصوف بطوى فطوى هي مقدسات متعددة مطويه، ومن الشواهد على هذا المدعى ما روي أنه حينما سئل النبي لماذا سمي طوى قال : لأنه مكان الأرواح والملائكة وتكليم الله لموسى .
إقامة الصلاة بين ركيزتين
ما نريد التركيز عليه من قصة موسى (ع) هو ما يتعلق بإقامة الصلاة التي أمر بها ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ التي جاءت بين ركيزتين أساسيتين:
- أن يكون الإنسان مستمعا للحق.
- أن لا يستمع لمن يصدّ عن الحق.
ولهذين الأمرين أهمية بمكان لإقامة الصلاة وسنشرحهما فيما يلي :
الركيزة الأولى :
الاستماع للحق، يقول تعالى: ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ الآية تأمر بأن يكون الإنسان باحثا عن الحق ومستمعا لكلام الحق. والفرق بين الاستماع والسماع: هو أن الاستماع يعني تفريغ السمع من الأغيار. أي أن يلغي المستمع كل ما عنده من صور سابقة ويغلق منافذ ذهنه وخواطره ومتبنياته لينفذ في أعماقه كلام الله فقط .
أما السماع فهو أن يسمع وهو مليء بالإشكالات والخلفيات، وهذا الثقل يجعله لا يسمع لأنه متحدث في باطنه وإن بدا ساكتا، ومن يتعامل بهذه الطريقة لا يستطيع أن يصل الى نتيجة حق ابداً .
الآية تعطي ركيزة أساسية لأي مشروع تغييري وهي الاستماع للحق ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ الزمر:18 وأكبر مشكلة يمكن أن يقع فيها مدعي الانتساب للديانات الإلهية تعدد السمع والفهم والأخذ ومايسمى اليوم بتعدد القراءات(١) (الهرمنوطيقا) وفي ذلك يقول أستاذنا الشيخ اليزدي حفظه الله: “ما أضر التشيع من زمان جعفر ابن محمد الصادق الى الآن كقضية تعدد القراءات” فالله يقول كلاما واحدا لكن لأننا لا نسمع الله ونهيم في أودية مختلفة فكل يفهم كلام الله وفق خلفياته فما يفهمه هو كلامه لا كلام الله في الواقع .
ورد أن (أَوَّلُ الْعِلْمِ الصَّمْتُ ، ثُمَّ الاسْتِمَاعُ ..) فأول خطوات الجهاد العلمي والوصول للحقيقة هو القدرة على الصمت والاستماع، أي اسكات المعلومات المسبقة وإغلاق منافذ الخواطر، وهذا هو العلاج الحاسم لمعركة الاختلاف في الرأي والتي يبتني عليها اختلاف المواقف.(٢)
إذن فالاستماع للحق هو أول ما يحتاجه صاحب أي مشروع تغييري، ولذا ورد في الروايات أن موسى حين كلّمه الله أصبح كله أذن، يأتيه الصوت من الست الجهات، وذلك لأنه قد فرغ نفسه ليستمع .
الركيزة الثانية :
عدم الاستماع لمن يصدّ عن الحق. يقول تعالى: ﴿فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾
كانت الركيزة الأولى تشكّل موانع باطنية تمنع الإنسان من إقامة الحق وهي أهواؤه وشهواته وخواطره وأخلاقياته، أما الركيزة الثانية فهي موانع خارجية، فهناك من يصدّ ويمنع عن الحق .
والصادون عن الآخرة وعن الحق هم ممن يمتلكون القدرة على التأثير وصناعة القرار، لذا فكثيرا ما يشكلون تيارا مضادا صادا عن إقامة الصلاة. وهذه المؤثرات الخارجية ليس شرطا أن تنهى الإنسان عن ظاهر الدين؛ فقد لا تكون من حيث الدعاوى كذلك، لكنها تحرف مسيرة الدين الحق .
ولا تتصوروا أن هذا المؤثر خاص بعامة الناس، بل كلما امتلك الإنسان علما ومعرفة أكثر؛ استطاع أن يأتي بمبررات شرعية لمواقفه أكثر، مما يعني أن أسباب سقوطه أكثر! وكشاهد على ذلك لنتأمل في واقعنا الإسلامي، هل نتصور لأي مدى نحن محاطون بأناس يسمعوننا كلاما منطقيا علميا وبأدلة شرعية ولكنه لا يوصل للحق بل يصدّ عنه! وهذا عين ما حدث للإمام الحسين عليه السلام، فقد كان حوله من ينهاه عن الخروج ويعطيه المبررات الكثيرة. ترى لو تجاوب الإمام الحسين مع الجو المحيط الذي كان يصده عن أهدافه هل بقينا نصلي؟ بل هل بقي للإسلام باقية ؟!
هاتين الركيزتين المهمتين لإقامة أي مشروع تغييري لابد أن تتوفرا في مرجع التقليد، ورد عندنا (أما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لامر مولاه، فللعوام أن يقلدوه) . يفرّق استاذنا الشيخ الجوادي الآملي بين (صائنا لنفسه) و (مخالفا لهواه) ، فمخالفة الهوى تمثل الركيزة الأولى (الاستماع للحق) أما صيانة النفس فتمثل الركيزة الثانية، إذ تعني اختراق المحيط الذي يدفع باتجاه موافقة الباطل، فالذي يريد أن يصون نفسه يجب أن لا يتأثر بالمحيط و الحاشية من حوله .
بين الآيتين السابقتين ووقع الأمر بالصلاة ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ مما يعني أننا يجب أن نستل معنى إقامه موسى للصلاة من بين هاتين الحاشيتين.
لقد أقام موسى صلاته لذكر الله، والله وعد من يذكره بالذكر ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ سورة البقرة: 152 وفعلا حينما أدى موسى وظيفته وأدى صلاته ورسالته أنجاه الله ومن آمن معه من الهلكة وأغرق فرعون وجنوده في اليم، وتحول البحر لموسى طريقا يبسا .
كان هذا مقدار صبر موسى واحتماله ولكن لأن صلاة الإمام الحسين أعلى مقاما وصبره ومقاومته وجهاده كانت أعم وأعظم، لذا فقد تحمل هو وأهل بيته العطش واليبس ليروي أمه جده .
وبالرغم من أن كل المبررات التي عرضت على الإمام الحسين (ع) كانت دينية ومنطقية منها سبب حمله نساء بني هاشم اللاتي كانت لهن حرمة في الجاهلية فضلا عن الإسلام ؛لكن الإمام لم يستجب لكل هذه الأقوال ، فهو الأعرف بإرادة الحق .
أحيانا يصدّك عن هدفك من يغشّك، وأحيانا من لا يرى ما ترى ، وأحيانا تتزاحم عليك عواطفك النبيلة الرفيعة وهدفك الأسمى ، في مثل هذا الحال يختار الإمام الأهم والأبرّ ، ويجاهد في الله حقّ جهاده فلا يصدّه بكاء أطفاله ونسائه وبناته، ولا حتى دموع سكينة التي كانت الغالب عليها الاستغراق في الله. ما أشد صبر الإمام الحسين (ع) على ترك هذه الهاشمية العارفة! لكن إقامة الحسين (ع) للصلاة تختلف، فلا المحيط يؤثر فيه الآلام تؤثر فيه ولا الظلم الذي ولا حرق الخيام يؤثر فيه ولا يرده ولا يمنعه عن إقامة صلاته شيء حتى صرخات الأطفال وأنّات زينب ودموعها وخفقان قلبها الذي كان يسمعه !
ألا لعنة الله على الظالمين.
١. تعدد القراءات تعني أن كل من يقرأ النص الديني (الآية والرواية) فيمكنه أن يفهمه بفهم الخاص ومن يتبنى التعدد يفترض أن كل هذا الفهم صحيح. ولكن الحق القارئ معذور في قراءته للنص لكن الحقيقة واحده لا متعددة، والمشكلة التي يسببها تبني هذا الاتجاه هو أن كل شخص يمكن أن يحمل ماعنده على ما يقوله الله سبحانه، فيؤول آيات القرآن وكلام أهل البيت. تبني هذا المنهج من شأنه أن يفسد أي مشروع، ويحول دون الوصول إلى حقيقة .
٢. هناك معنى لطيف في تفسير الرواية (إن الملائكة لتضع أجنحتها تحت أقدام طلاب العلم) عند أستاذنا الشيخ الجوادي حيث يرى أن طيران الملائكة ليس كطيران الطائر.. لأن الطائر حينما يطير فهو يتحرك باتجاه معين ليحصل على مأكل ومشرب وأغراض هي ما يحدد وجهته لكن الملك موجود مجرد من الحاجات التي تدفع الطائر ، وهو لا يطلب الا الحق، ولذا الملائكة تضع أجنحتها تحت أقدام طلاب العلم ليتجردوا عن الاغراض ماعدا طلب الحق فقط .
0 تعليق