قال الله تعالى: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200].
كلمة المرابطة كمصطلح تعني ملازمة الثغور، والمرابطة في المفهوم الفقهيّ تعني التواجد الفعليّ للمؤمنين في ساحة المواجهة للعدو والدفاع عن حدود الدولة الإسلاميّة، لحفظ بلاد الإسلام ودين الإسلام من أخطار الأعداء. ولكنّها لغويّا أعمّ من الموقف العسكريّ، فهي تشمل أي نوع من الارتباط والمواظبة والاستمرار.
لم تحدّد الآية لونا خاصّا من المرابطة، وقد طبّقت روايات كثيرة المرابطة على العلاقة بالإمام صاحب الزمان عليه السلام. جاء عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية قوله (ع) : (اصبروا على الفرائض وصابروا على المصائب ورابطوا على الأئمة)(1). وعن الإمام الباقر عليه السلام: (اصبروا على أداء الفرائض وصابروا عدوّكم ورابطوا الإمام المنتظر)(2). وفي لفظ آخر (ورابطوا إمامكم فيما أمركم وفرض عليكم)(3) هذه الروايات تنسجم مع أصل معنى المرابطة الذي هو من الارتباط والرابطة. ولو أردنا أن نقوم بمقارنة مختصرة بين المرابطة العسكريّة والمرابطة في العلاقة بالإمام المهديّ عليه السلام والاتصال به لرأينا :
أوّلا: إنّ المرابطة في الثغور لها وقت محدود ومكان معيّن ونحو معيّن. أمّا الارتباط بالإمام فهو مطلق ومستمرّ. فعن أبي عبد الله الجعفيّ أنّه عليه السلام قال: قال لي أبو جعفر بن عليّ عليه السلام (كم الرباط عندكم؟ قلتُ: أربعون، قال عليه السلام لكن رباطنا رباط الدهر)(4). يقول الفلاسفة: ما تصرّم في الزمان اجتمع في وعاء الدهر، فالدهر أعمّ من الزمان. والإمام يعبّر عن المرابطة في انتظار الإمام بأنّها مرابطة الدهر، لأنّ العلاقة بالإمام ليست وظيفة، وليس لها مكان ولا تنتهي بزمان، بل هي دور يقوم به المنتظِر المرابط.
ثانيا: المرابطة مع الإمام علاقه قلبيّة: فعندما تعشق شخصا ويميل قلبك إليه فارتباطك ليس محدودا بزمان، لأنّه مسألة قلبيّة روحيّة. ومن هنا قالوا في قوله جلّ وعلا: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ﴾ [الشورى: 23]. إنّ المودّة في القربى لا تنتهي لأنّها ليست مسألة زمانيّة. المودّة يعني أن تربط قلبك بالإمام عليه السلام. ثمّ إنّها علاقة لا تقتصر على حضور الإمام بدنيّا، بل المرابط يلتزم بها حتّى في حال الغيبة.
ثالثا: المرابطة مع الإمام علاقة عمليّة وانقياد مطلق ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: 59]. وهذه الآية – بالمناسبة – دليل على امتداد الحجّة، لأنّ هذا الالتزام بطاعة وليّ الأمر بعد النبيّ (ص) لا يتحقّق إلّا بوجود من تجب طاعته في كلّ زمان.
رابعا: المرابطة مع الإمام دائمة لأنّ المتّصَل به دائم، وهي تختلف بذلك عن الانقياد العسكريّ الذي يكون ضمن أوامر محدودة، بينما المرابطة مع الإمام تفيد العموميّة أو الشموليّة والإطلاق.
خامسا: المرابطة مع الإمام علاقة تعبّديّة ويوميّة، بخلاف المرابطة العسكريّة التي يلتزم فيها الجنديّ بإعلان بيعته مرّة واحدة. ألا ترون المنتظِر يجدّد عهدا في كلّ يوم (اَللّـهُمَّ إِنّي أُجَدِّدُ لَهُ في صَبيحَةِ يَوْمي هذا وَما عِشْتُ مِنْ أَيّامي عَهْداً وَعَقْداً وَبَيْعَةً لَهُ في عُنُقي، لا أَحُولُ عَنْها وَلا أَزُولُ أَبَداً).
الغرض من هذه المقدّمة هو أن نجيب على سؤال:
ما هي علامات الإنسان المرابط؟
لا شكّ أنّ العلاقة بالإمام ليست صرف مسألة وجدانيّة تتألّق وتخبو وفق الظروف والمتغيّرات، بل هي أعمق من ذلك. وهناك رواية رائعة تعطي المشخّصات الأساسيّة للإنسان المرابط والمتّصل بالإمام – ولا أقصد هنا الرؤية الحسيّة الخاصّة – لأنّ المسألة محلّ خلاف – الرواية هي: (قيل للإمام الصادق عليه السلام: ما تقول فيمن مات على هذا الأمر منتظرا له؟ قال هو بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه. ثم سكت هنيئة، ثم قال: (هو كمن كان مع رسول الله صلّى الله عليه وآله)(5). سنقف عند عبارة (بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه) لنتأمّل: ما هي هذه المنزلة؟ هل المراد فقط الحديث عن الأجر والثواب للمنتظِر أم هناك أمور أخرى؟
السائل هنا يطلب من الإمام معرفة مآل المنتظر لهذا الأمر، أي الباذل حياته في سبيل هذا المشروع، والإمام يجيبه بأنّه بمنزلة الجالس في فسطاط الإمام، المرابط طوال دهره هو بهذه المنزلة. هذه المنزلة هي نتيجة لما كان عليه في حياته فـ (كما تعيشون تموتون).
سنتحدث فيما يأتي حول خصائص المرابط المنتظر للأمر الذي هو بمنزلة من هو مع القائم في فسطاطه. وسنبدأ بمعنى الفسطاط: الفسطاط في اللغة هي الخيمة الكبيرة، وفسطاط الإمام يوحي بأنّه مكانه الخاصّ، وبضمّ فكرة المرابطة ومعرفة أنّ الإمام صاحب مشروع عالميّ وشموليّ كبير، ويعيش حالة من المواجهة، يمكننا القول أنّ الفسطاط هو غرفة العمليات الأولى للإمام (عج). والسؤال هنا: ما مميّزات المنتظِر الذي ينال مقام الانضمام إلى فسطاط الإمام؟
الخصوصيّة الأولى/ متابعة الأحداث العالميّة:
إنّ أهمّ ما يجري في المكان الخاصّ بالإمام هو الاطّلاع على كلّ المجريات والأحداث العالميّة. فكأن الرواية تريد أن تقول: إنّ أحد مميزات المنتظِر المرابط على إمامه هي كونه متابعا للأحداث وتطوّراتها. وهذا يعطيه مكنة التحليل لما يجري. يقول أمير المؤمنين سلام الله عليه: (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ) أي أنّ من يتابع الأمور من أوّلها ويعرف وجوهها يستطيع قراءة الأحداث والربط بين الأمور. ويقول الأمير (ع) لولده محمّد بن الحنفيّة (عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ أَعِرِ اَللَّهَ جُمْجُمَتَكَ تِدْ فِي اَلْأَرْضِ قَدَمَكَ اِرْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى اَلْقَوْمِ) وفي هذا لأستاذنا الشيخ الجواديّ الآمليّ تعليق لطيف إذ يقول: ارم ببصرك أقصى القوم أي لا يكن همّك هذه العساكر التي تراها فهم ليسوا الأصل هناك من يخطّط لكلّ المجريات، فانظر للمطبخ الذي يصنع الحدث.
إذن أهمّ مؤهّلات من يكون مرابطا في فسطاط الإمام أن يكون متابعا للمجريات، واعيا لها محلّلا لمسبباتها ونتائجها. يذكر القرآن ميزة لمن هم مع رسول الله صلّى الله عليه وآله فيقول: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83]. ينبغي أن تكون ميزة الذين مع رسول الله أنّهم لا يذيعون ما يصل إليهم من أمور، بل يرجعونها إلى الرسول وأولي الأمر منهم. فكما أنّ هناك تخصّص واستنباط في الفقه، هناك أيضا استنباط في الأخلاق والسياسة والأمور الاجتماعيّة. وكما أنّ لدينا مراجع هم أهل لنقلّدهم فقهيّا، فإنّ لدينا مراجع نحتاج إليهم في حال المرابطة على الثغور، لنعرف منهم قراءة الأحداث وتحليلها.
الخصوصيّة الثانية/ الحلم والحكمة والشجاعة:
ومن لا يتوفّر على هذه الصفات لا يمكن أن يكون عونا للإمام في فسطاطه. ينقل في معركة صفين ما مضمونه أنّ الإمام علي (ع) ومالك الأشتر (رض) كانا يعدّان القتلى فكان عدد من قتلهم مالك أكثر، فقال مالك للأمير (ع) : أنا تعلّمت الشجاعة منك، فكيف أقتل أكثر ممّن قتلت؟ فقال أمير المؤمنين (ع) : لأنّني إذا برز لي أحدهم نظرت في عينيه، فإذا وجدت في صلبه صالحا تركته. هذا المستوى من العدل والحلم خاصّ بالأمير عليه السلام ، ومالك الأشتر على قربه لا يملك هذا المستوى من الحلم فكل من قدر على قتله قتله(6).
الغرض أن نقول أن من يكون مع الإمام في فسطاطه يحتاج لأن يمتلك حلما وحكمة لأن مشروع الإمام هو مشروع عالميّ شموليّ يشمل جميع من هو مؤهل للإنقاذ ولو لبقايا فطرة في نفسه.
الخصوصيّة الثالثة/ حفظ السرّ:
حفظ السرّ ضرورة في كلّ مشروع. فإنّ من أهمّ ما يعين القائد هو أن يكون أصحابه ومن حوله عندهم من الأمانة والقدرة الشديدة على حفظ السرّ ما يحفظ هذا المشروع من الاختراق. ولذا جاء في الخبر (وليس الناصب لنا حربا بأعظم مؤونة علينا من المذيع علينا سرّنا)(7) وقال الصادق (ع) : (ما قتلنا من أذاع حديثنا قَتل خطأ، ولكن قتلنا قتل عمد)(8) ويمكن لهذه الروايات أن تكون أحسن تفسير لقول الإمام الصادق عليه السلام: ( يا معلى!.. إنّ التقيّة من ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقيّة له)(9) إشارة إلى كون هذا الأمر أصل، بل دين. فالإمام ربّما يعيّن أعدائه بالاسم، أو يتبرّأ منهم في فسطاطه، فهل يمكن أن يدخل معه في فسطاطه من يذيع ذلك؟ هل يعتبر في فسطاط الإمام اليوم من يفتح المحطّات والقنوات لكشف أمور لا تتحمّلها العقول؟! أو يذيع من المذهب ما يكون سببا في التشنيع عليه؟
لقد قالوا عليهم السلام: (.. فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا) فآل محمّد عليهم السلام يريدون الأخذ بيد الناس إلى الهداية وإيصالهم إلى الجنّة، وحبّهم هو نجاة للناس وخلاص من جهنّم، فهم يدعون لتخليص أكبر عدد من الناس. خصوصا الإمام المهديّ (عج) الذي مشروعه الخلاص الشموليّ للأرض.
إنّنا بحاجة إلى رفع مستوانا الفقهيّ والفكريّ والثقافيّ والسياسيّ والأخلاقيّ، وعلينا أن نلتفت إلى ممارسات قد تصدر منّا هي في الواقع مضادّه لمشروع الإمام، هذه الممارسات تحرم الإنسان من أجر الانتظار ومن منزلته أيضا.
1- تفسير البرهان ج2 ص 149
2- نفس المصدر 149
3- مختصر بصائر الدرجات ص8
4- روضة الكافي، وقد ذكر الفقهاء أنّ أقل زمان المرابطة ثلاثة أيام وأكثره أربعون يوما، فإن بقي المرابط أكثر من أربعين يوما فإنه يُحسب من المجاهدين أي له ثواب المجاهد في سبيل الله.
5- المحاسن ص173
6- للسيد القائد الخامنئي حفظه الله فتاوى متميزة في الجهاد، فهو أحيانا يفتي بتحريم عملية يمكن أن تؤثر إيجابيا في سير المعركة بسبب مرور طفل في موقع العملية معللا ذلك بأن هذا الطفل قد يكون صالحا يخدم البشرية .. وفتاوى كثيرة من هذا القبيل تنم عن قدرة عالية على الاستنباط.
7- بحار الأنوار ج2 ص74
8- الكافي ج2ص370
9- الكافي ج2ص223
0 تعليق