تقدم القراءة:

أصابت امرأة وأخطأت أمة

الأحد 5 أبريل 2015مساءًالأحد

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

أرفع أسمى آيات التبريكات والتهاني بمناسبة ميلاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع) لرسول الله ولآل بيت العصمة والطهارة، ولمراجعنا ولا سيما قائد الأمة الإسلامية السيد الخامنائي حفظه الله ولمحبيه بهذا الميلاد الذي شكّل انعطافه في مسيرة البشرية بشكل عام ومسيرة المرأة بشكل خاص .*

﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ الكوثر: 1 بهذه السورة التي هي أقصر السور كشف القرآن عن كوثرية الصديقة الزهراء (ع)، فالكوثر هو مصدر الخير الدائم المستمر الذي يعود إليه كل خير وبركة وفيض. إن نفس هذا التجمّع للرجال والنساء والعلماء والفضلاء ومفكري الأمة لكي يحيوا ذكرى ميلادها هو معجزة، فإننا لا نعرف مفكرا ولا فيلسوفا ولا حتى نبيا تحيي الناس ذكرى ميلاده بعد مئات أو آلاف السنين بكلّ هذا الزخم والعظمة، وهذا كاشف عن ربانية هذا القرآن وإعجازه إذ قرّر سبحانه بعد عطيته لنبيه هذه الحقيقة ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ الكوثر: 3 .

حديثي بعنوان ” أصابت امرأة وأخطأت أمة “، وأقدم لهذا الحديث باستعراض واقع حياتي تعيشه البشرية الآن وله انعكاس على واقعنا:


عادة ما نلقي بأسباب ضعفنا ومشاكلنا الثقافية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية على الغزو الثقافي من قبل الغرب، وعلى سير عجلة حياتنا باتجاه المنطق الرأسمالي وماله من آثار وانعكاسات سياسية واجتماعية وثقافية وفكرية واقتصادية. ومع واقعية هذا الأمر إلا أن المشكلة ليست منحصرة في ذلك. أنا اعتقد أن جزءاً من المشكلة يكمن في عدم معرفتنا بالتراث الذي عندنا وعدم استفادتنا منه.

إنّ أحد أسباب موت أي أمة وأي مجتمع وأي إنسان هو أن لا يتعرف على التراث الذي بين يديه معرفة عميقة. لذا من أحد أهم أسباب التخلف الفكري والاجتماعي والسياسي والثقافي عندنا هو عدم معرفتنا بتراثنا الذي ورثناه من أهل البيت عليهم السلام. وفي هذه المناسبة سأقف على مفردة من تراث الصديقة الزهراء (ع) وسوف أتناول رواية يحفظها الجميع ويقول بها المخالف والمؤالف، ثم سنتأمل في ما تستبطنه هذه الرواية من دروس ونبيّن كيف نمر عليها مرور العابرين.

الرواية هي قول رسول الله صلى الله عليه وآله: (فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين)

إن عدم فهمنا لعمق هذه الرواية هو أحد أسباب عدم قدرتنا على بناء مفاهيم ثقافة صحيحة وأصول سليمة، ومن خلال التأمل العميق في هذه الرواية سنقف على ثلاثة أركان تستبطنها السيادة :

  • الركن الأول: السيادة تعني سلامة المعايير

نحن نرى في عالم اليوم – سواء في المجتمع الغربي أو المجتمع الشرقي – أن المرأة عندما تطالب بحقوقها فهي تجعل الرجل هو الميزان والمعيار سواء من الجهة المادية أو في الشأن الفكري والثقافي والاجتماعي. فالرجل المرجع أو الرجل المثقف أو … هو الهدف والرؤية والطموح بالنسبة للمرأة فتطالب بالمساواة معه .

هذا المعيار ( موقعية الرجل ) يحدث صراعا اجتماعيا بين المرأة والرجل، فالرجل لن يرضى أن تسابقه المرأة، بالتالي فهو سيرفع سقف صلاحياته. وأما في الواقع الأسري فإن هذا النوع من التنافس يولّد التنازع والاختلاف، أو على الأقل يحدث نوعا من عدم الانسجام بين الزوجين. لكن لو قرأنا الرواية بعمق فسنجدها تشير إلى ميزان آخر، لا يجعل من التسابق هو الميزان بين المرأة والرجل، بل يقدّم معيارا قرآنيا.

الخيرات هي السبقة

يدعو القرآن إلى السبق والتسابق وهذه مسألة مطلوبة وطبيعية، لكن القرآن يضع معيارا آخر يتمثل في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ البقرة: 148 فالهدف المطلوب والمعيار الذي نتسابق في الوصول إليه يجب أن يكون (الخيرات) لا موقعية الرجل أو غيره. والخيرات هي النهاية، وهي المعيار التي يجب أن نطالب بحقوقنا بناء عليها.

لو تأمّلنا حياتنا بدءا من جانبها الأسري ثم الاجتماعي وصولا إلى الأممي سنجد أن المرأة تضع الرجل معيارا. نحن لا ننفي وجود قدوات في عالم الرجال، لكن الرجولة و الذكورية لا تصلح أن تكون قيداً في التقدم أو عدمه. هذه الفكرة التي تشبعنا بها ليست صحيحة، فليس معيار الحق والباطل والتقدم والتأخر هو الرجل. فضلا عن كون الرجال كسائر البشر عرضة للخطأ. والمرأة التي تضع الرجل معيارا لها، وتتصور أنه لا كمال لها إلا بنيل رضاه، ويكون سقف طموحها هو اللحاق به، هذه المرأة سوف تعيش دائماً على الهامش. وفرق كبير بين الإنسان الذي يعيش على الهامش والإنسان الذي يعيش في قلب الحياة.

ثم إن هذا النوع من التسابق يوقع المجتمع في إرباك اقتصادي. فإذا أصبح الرجل هو المقياس ستبذل المرأة جهودا وتنفق الأموال لتتساوى بالرجل. أو ستتّجه نحو إرضاء الرجل بالغرق في توفير الكماليات. وهذا الطريق سيوصلها حتما للهامش. لذا يجب أن يكون معيار المرأة والرجل هو السبق إلى الخيرات، ليعيش الجميع في متن الحقيقة والواقع.

تصيب امرأة ويخطئ رجال

قد يخطئ كل الرجال بما فيهم العقلاء والمتقدمين علميا وفكريا وتصيب امرأة، وهذا فعلا ما حدث في تاريخ الصديقة الزهراء عليها السلام.

قبل أن أشرح كيف أصابت الزهراء وأخطأت كل الأمة لابد من الإشارة إلى أنّ مرادنا من الأمّة عقلاء الأمّة آنذاك، وليس منافقيها ومنحرفيها. فإنّ من كانوا أعضاد الدين وحضنة الإسلام وحفظة الوحي آنذاك كلهم أخطأوا وأبطأوا عن السبق في الخيرات وتقدمت الزهراء عليها السلام.

لو كانت الزهراء (ع) جعلت الرجل معيارها لما تسيّدت نساء العالمين، حتى لو كان هذا الرجل هو أمير المؤمنين عليه السلام. فلو جعلت السيدة الزهراء(ع) حركتها في إطار حركة أمير المؤمنين (ع )لم تكن لتحقّق هذا الدور في الأمة. فمع كون أمير المؤمنين نفس رسول الله (ص) لكن دور الصديقة الزهراء كان خاصا ووظيفتها كانت مستقلة.

نحن نحتاج عمرا حتى نفتح العقول والأذهان لفهم أن الزهراء (ع) لم تعش على هامش الرجل، ونحتاج إلى زمن طويل لنتمكن من الطرح الحقيقي والواقعي وتصحيح هذه المفاهيم، من أجل أنّ نفهم أن سيدة نساء العالمين لا يعني أنها (ع) سيدة للنساء فقط – كما يقول أستاذنا الحائري – بل هي سيدة النساء والرجال. أو ليس كل الرجال يخاطبونها في الزيارة بـ سيدتي ومولاتي ؟!

إن من أهم أسباب عدم فهمنا لمعنى سيدة نساء العالمين هو أننا – كما تقدّم – لم نتأمل في تراثنا، بل نمر عليه دون تأمل، والقرآن يذم ذلك ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ يوسف: 12 ماذا يعني يمرون عليها و هم عنها معرضون؟ أي أننا نحفظ هذا التراث العظيم، لكننا نمر عليه مرورا عابرا بلا تأمل وتدبر. يقول الشهيد الصدر (قده): إن أحد أسباب جهل الانسان هو أن يأخذ المعاني بنحو ارتكازي، أي يتوهم أنه فهم المضمون ووعاه لكنه ليس كذلك، وهذا ما يسمى بالجهل المركب.

كيف أصابت الزهراء وأخطأت الأمة؟

الأمر الأوّل الذي نستفيده – من ناحية اجتماعيّة – في قوله (ص): ” فاطمة ابنتي سيدة نساء العالمين” هو أنّ المرأة قد تفقه أمورا لا يفقهها الرجال. المرأة التي تسابق ومعيارها ( الخيرات ) لا ( الرجل ) فسوف تسبق أقواما حملوا ثقل هذه الرسالة في مورد ما ثم تضعضعوا عن هذا الحمل، و تركوا ثقل الرسالة. قالت (ع) في خطبتها و هي تتحدث عن ذلك واصفة الأنصار: ” يا أعضاد الملة ، و حضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي و السنة عن ظلامتي؟! ” الأعضاد هم الرجال الأقوياء الذينن  يقدرون على الحمل الثقيل. لكن الزهراء (ع) مع ذلك لم تجعل تاريخهم وواقعهم ومواقفهم معيارا لها، لأن ذلك معناه أن تعيش هي على الهامش، ولا تكون سيدة.

يجب أن لا تجعل المرأة منتهى آمالها و طموحها ونهاية ما ترجو من الحقوق أن تتساوى بالرجل، لأن معنى ذلك أنها لم تؤسس لنفسها مبنىً قوياً وصحيحاً للمسابقة الواقعية باتجاه الخيرات، وباتجاه الأعمال الصالحة والإنجاز، والخروج من الذاتية إلى الفعالية في الواقع الاجتماعي، وهذا فعلاً ما أصابت فيه الزهراء وأخطأت الأمة.

﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ البقرة: 148، المائدة: 48 أراد الإسلام أن يرفع هذا المعيار ويصحح المسار. والسبق إلى الخيرات يحتاج إلى الحكمة والعقل وحسن الإدارة والعلم والقدرة على تشخيص الواقع، ولا تفاوت هنا بين المرأة والرجل. وأحد أشكال السبق في الخيرات هو معرفة الحق والدفاع عنه. وعلى سبيل المثال: 

لو كان الرجال في مجتمع ما يتجهون للعمل بالتقية في موقف معين فإنّ هذا لا يلزم المرأة باتّخاذ نفس الموقف والإجراء، أحيانا تمتلك المرأة مساحة أكبر من الحرية ويمكنها اتخاذ موقف مختلف. نحن لا نريد أن نحدث صداماً اجتماعيا، لكن الغرض هو بيان أن وضع الرجل معيارا سبب خللاً وإرباكاً لأننا لم نفهم مضمون الرواية.

  • الركن الثاني: السيادة تعني روح العزيمة

الأمر الثاني الذي يمكن أن يستفاد من مضمون هذه الرواية: أنّ السيادة وروح العزيمة واحدة، فلا يكون الإنسان سيداً إلا عندما يحمل في حناياه العزيمة على تحقيق النصر والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة. ومحال لمن ينطوي على الجبن وروح الهزيمة أن يكون سيدا.

السيد هو من يملك الإرادة والنظر الجاد للحياة في بعديها الدنيوي والأخروي، وهذه امتيازات الصديقة الزهراء عليها السلام، فلم تكن عليها السلام لاغية ولا لاهية كما يراد الآن للمرأة. فعدم الاكتراث بالوقت وعدم الجدّية في الحياة هو الطاغي على واقع المرأة اليوم وهذا له سلبيات كثيرة على الأسرة وتربية الأبناء.

  • الركن الثالث : السيادة والخدمة وجهان لعملة واحدة

ثمّة مثل معروف يقول: (سيد القوم خادمهم) وليس المقصود بالخادم هنا الشخص الموكول إليه الوظائف الثانوية، بل هو الذي يخدم عندما يعجز غيره عن القيام بالخدمة. سيد القوم هو الذي يسدي لقومه أكبر الخدمات.

الزهراء عليها السلام سيدة بهذا المعنى، فقد قامت بدور عجز الجميع عن أدائه، بل عجزوا حتى عن تشخيصه. وعندما شخصت لهم الزهراء (ع) الحالة لم يتحملوا الدور. وقد عبّرت (ع) عن ذلك بقولها: ” ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم والغدرة التي استشعرتها قلبوكم “. الزهراء (ع) شخصت الدور والموقف، لكن هذه الأمة لا تريد أن تخدم الدين، وليست مستعدة لبذل شيء في الوقت الذي كانت الولاية أحوج ما تكون إلى خادم.

عندما نقول أن الزهراء (ع) (سيدة نساء العالمين) فلأنها قامت بخدمة لم يستطع أحد القيام بها، بل لم يتقدم أحد للقيام بها. فالسيادة قرينة الخدمة، وعندما يحتاجك مجتمعك عالما أو فقيها أو مؤلفا أو ثائرا على الواقع الفاسد فيجب أن تقدم هذه الخدمة مهما كلفت من تضحيات. وعندها ستكون سيدا.

إن الذي جعل الزهراء عليها السلام سيدة نساء العالمين هو أنه لم يكن لها معيار إلا استباق الخيرات، وقد ملأت (ع) القلوب بالإرادة والقوة والشجاعة، وقدمت للأمة ما عجز عنه غيرها. و حق لنا أن نعتز بمثل هذه المرأة وأن نرفع رؤوسنا حين نكون خدماً لها عليها السلام.

أسأل الله سبحانه وتعالى الذي رزقنا في الدنيا ولايتها وجعلنا من المتمسكين بها؛ أن يرزقنا في الآخرة رضاها وشفاعتها والحمد لله رب العالمين.

____________________________________________________________________________

*المحاضرة بمناسبة ميلاد السيدة الزهراء (ع) لعام 1436هـ

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 118٬200 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها