تقدم القراءة:

محمد الأوحد

الثلاثاء 6 يناير 2015صباحًاالثلاثاء

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

3.5
(2)

من المعلوم أن النبوة كانت في إبراهيم شيخ الأنبياء عليه السلام، ومن بعده في ابنيه إسماعيل وإسحاق، ثم تسلسلت النبوة في ذرية إسحاق، حتى نقلها الله من سلالة إسحاق (ع) إلى رسول الله صلى الله عليه وآله الذي هو من سلالة إسماعيل (ع). تلك الفضائل والكمالات التي نُشرتْ في الأنبياء صلوات الله عليهم جُمعتْ في محمد بن عبد الله صلوات الله عليه. وما قول الله ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.. [البقرة: 253] إلا لكي نقرأ سيرة الأنبياء قراءة موضوعية، ولا نتحسس منن حقيقة أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، ولا يكون هذا سببا للخلاف والتفرق.*

ولأن النبي كان مَجمع فضائل الأنبياء كان البشارة التي بعث بها نبي الله عيسى وبل كانت هذه البشرى عمدة رسالته ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] ولا تتحقق البشارة في شيء إلا أن يكون زائدا عن المتعارف.

كل الأنبياء لهم مراتب وفضائل وخدمات قدموها للإنسانية، ورسائلهم تحمل الكثير من العطايا الإلهية، لكن رسول الله استحق البشرى به، لأنه لا نظير له. يقول شيخنا الجوادي في معنى التبشير بالنبي محمد: إذا كان النبي الخاتم في مستوى الأنبياء السابقين وكانت رسالته في مستوى الرسالات السابقة فلا يتحقق معنى البشارة، فأنت لا تبشر بشيء قد جرى مثله، البشارة تستدعي أن يكون هناك إضافة وخصوصية استثنائية في رسول الله وإلا لا تكون بشارة. عندما يبشر النبي عيسى بالنبي محمد هذا يعني أن النبي محمد أفضل من النبي عيسى والقرآن أفضل من الإنجيل، وعلى أساس هذه البشارة يحمل النبي محمد كل الامتيازات العلمية للأنبياء السابقين بصورة عامة، وجميع امتيازات النبي عيسى بصورة خاصة ويزيد عليهم.

من هنا ينفتح أمامنا معنى العنوان المنتزع (محمد الأوحد)، فنحن عندما نصف شخصًا بأنه أوحد دهره وزمانه وأنه متفوق على أقرانه فكل هذه التسميات مجازية بالقياس إلى أوحدية رسول الله صلى الله عليه وآله، فقد كان مظهر الله الأحد الذي لم يكن له كفوا أحد، فمحمد في عالم الإمكان ليس له كفوا أحد(1). والقرآن يركز على هذه الامتيازات وهذه الأوحدية والتفرد، فلا يقرن بمحمد بشرا، فهو صلوات الله عليه وآله كما يقول أستاذنا الجوادي مظهر (ولم يكن له كفوا أحد). ومظهر (ليس كمثله شيء).

وفي القرآن شواهد على تأكيد هذه الأوحدية وعدم قرن النبي بأحد. فمثلا عندما يتحدث القرآن عن أعلى القيم وهي الإيمان فإنه يفرد رسول الله بالخطاب ولا يجمع إيمان رسول الله مع إيمان أحد ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة: 285] فواو العطف تفيد المغايرة، أي أن إيمان محمد (ص) جنس آخر من الإيمان ليس فوقه جنس ولا يشبهه إيمان.

وحتى حين يكون حديث القرآن عن وحدة المجتمع الإسلامي وعن سير الحياة الإيمانية فإنه يفرد الوجود المحمدي عن وجود سائر الناس(2)  ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29]. بل حينما يتكلم عن الموت الذي هو حق لا ريب فيه يعتبر أن للنبي جنس موت خاص ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [الزمر: 30] ولا يمكن أن يجمع موت محمد مع موت البقية. وهكذا في كل مراحل سيره وسلوكه لم يجمع القرآن بين رسل الله (ص) وبين بشر.

عنوان الأوحد ينطبق على الرسول على نحو الحقيقة والواقع، فالوجود المحمدي لا يحيط به أحد من الناس ولا يمكن للناس أن يعرفوه، لأن معرفة شيء تحتاج إلى نحو إدراك وإحاطة بهذا الشيء، ومنذا يحيط برسول الله غير الله. لذلك يقول رسول الله: (يا علي ما عرفني إلا الله وأنت)، ولا سبيل لنا إلى معرفة الرسول إلا عن طريق الله تعالى (اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ).

علينا أن نخضع بين يدي القرآن لكي نتعرف على محمد بن عبد الله (ص)، وسننتخب بعض الآيات القرآنية التي نتعرف من خلالها على بعض الأبعاد الوجودية في شخصيته (ص). ونعرف وظيفتنا ودورنا العملي – على الصعيدين الشخصي والاجتماعي – أمام هذا الخصائص الاستثنائية في رسول الله.

هناك آيات تتحدث عن أخلاق رسول الله وإدارته وشؤونه التربوية … هذه الآيات ليست موضع حديثنا. وإنما سنستشهد بالآيات التي تتحدث بشكل مباشر عن ذات رسول الله، وسنقسّم من خلالها خصائص رسول الله إلى:

1- صفات وأبعاد ذاتية للرسول (قبل الرسالة).

2- صفات وأبعاد ذاتية للرسول (بعد الرسالة).

أمّية النبيّ:

من الآيات التي تتحدث عن خصائص النبي التي لا يشاركه فيها أحد، وتمثل بعدا من شخصية محمد الأوحد قوله جلّ وعلا: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [لعنكبوت: 48] الأنبياء بشروا أممهم بـ (النبي  الأمّي)، فلابد أن يكون في هذا الوصف بعد كمالي. فما وجه الكمال في كون النبي أمّيا؟

والجواب يتضح من خلال التأمل في الآية:

﴿مَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ من الطبيعي أنه حين يتعلم الإنسان من أي أحد فلابد أن يخضع له، فحق الأستاذية كبير جدا، وكل حرف يتعلمه الإنسان فهو يسهم في تنمية معارفه، إذ الحرف مندك في الكلمة والكلمة في العبارة والعبارة في الجملة والجملة في المعنى والمعنى في كتاب… وهكذا يولّد الحرف ثروات من المعرفة. ومن أجل هذا قيل (من علمني حرفا صرت له عبدا)، ومحمد (ص) هو عبد لله فقط، ويجب ألّا يتقدم عليه أحد، ولا يكون لأحد عليه فضل ولا بتعليم كلمةة واحدة، ولا يجب أن يباشر تعليمه إلا الله.

والقرآن يبين هذه الحقيقة ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء: 113] يوضح هذا بعدا أساسيا من خصائص رسول الله فهو عبد لله فقط وهو مدين له سبحانه فقط ولا يمكن أن يغنيه إلا الله ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾ [الضحى: 8] أي أغنى بك وأغنى من أجلك، وتصور أن النبي استغنى بأموال خديجة ليس دقيقا.

وربّما لأن حقّ الأستاذ والمعلم يبقى يُعبّد الإنسان طوال عمره نفى القرآن عن النبيّ أنه كان يخط حرفا بيمينه ﴿وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ذلك أن مقتضى الإنصاف أن يبقى الإنسان ما عاش يجد في نفسه أن من علمه له أولوية عليه وإن بلغ من العلم والمعرفة شأنا عظيما. ومقتضى صدق رسول الله أن لو قدم له شخص علما ما سيبقى يقدم له التبجيل والاحترام على نحو الوجوب الأخلاقي، والحقيقة أن الأجدر بالاحترام هو محمد بن عبد الله لأنّه أمّي مطلقا – كما سيأتينا – فالله وحده هو منن علمه، وكل أركانه الوجودية كبيرها وصغيرها إلهية. فهو يفيد كل أحد ولا يستفيد من أحد.

وكما حرم الله على موسى المرضعات بتدخل إلهي ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ﴾ [القصص: 12] حرمة تكوينية لا تشريعية؛ فكذلك بتدخل رباني حرم الله على نبيه أي جهة للتعليم سواه سبحانه. فكل معارف رسول الله حتى العادية منها كانت تصل إليه بعناية غيبية, وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) في وصف رسول الله: (ولقد قَرَنَ اللهُ بهِ مِنْ لَدُن أنْ كانَ فَطِيماً أعظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلائِكَتِهِ يَسلُكُ بهِ طَرِيقَ المَكارِمِ، ومَحاسِنَ أخلاقِ العالــَم، لَيلَهُ ونــَهارَه) فهناك معلم واحد في هذا الكون هوو  الله ومتعلم واحد في هذا الكون هو محمد صلى الله عليه وآله.

كما أن هذه الخصوصية هي أيضا صيانة لرسالته عن التهمة ﴿إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. ثم من جهة أخرى سيكون أتْباعه يتبعون مع الواسطة غيره أيضا, والحال أن اتّباع محمد والنسبة له شرف عظيم، لذا فقد أغلق القرآن كل أبواب هذه التبعات بالإشارة إلى هذه الخصوصية.

هذا الفهم لأمّيّة رسول الله الأوحد تحلّ لنا شبهة أساسيّة وهي أن البعض يتوهّم أنّ النبي متأثر ببيئته، وأن مضمون رسالته بما حوت من أحكام وسنن ومعارف كلّها وليدة بيئته البدوية ومناخاتها، شأنه شأن أي مفكّر وفيلسوف لا ينفكّ عن تأثيرات بيئته مهما حاول أن يتجرّد. على سبيل المثال يقولون أنه من الطبيعي في مجتمع يقمع المرأة ويهمّشها أن تنعكس تلك الرؤيا على دين ذلك المجتمع فيشرّع تعدّد الزوجات، وأنه لو كان حال المرأة أفضل في المجتمع العربي لما شرع تعدّد الزوجات!

والحقيقة أن المجتمع العربي كان منفتحا على كلّ أشكال وأنواع من الزواج، وجاء النبي (ص) ليحد من هذه السعة ويضيّق العلاقات في إطار مدروس.

لا نحتاج أن نفتش آثار البيئة في تصرفات رسول الله وفي شريعته فمحمّد كلّه وحي إلهي ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4].
رسول الله كلّه وحيّ والوحي روح 
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52]، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193]
وفاقد الروح جثّة وجيفة، لأنّه فاقد للحسّ والإرادة والفاعليّة، فسرّ التفاوت بين النبيّ وبين الموجودات هو أنّ النبيّ له روح ليست عند أحد.

وربما هذه الروح الخاصّة تفسّر أيضا سرّ الرائحة الطيّبة التي اختصّ بها رسول الله كما جاء في كتب السير، وكما في حديث الكساء (يا أُمّاهُ إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّها رائِحَةُ جَدِي رسول الله (ص)) لم يكن هذا عطرا ماديا وإلا لاقتناه الناس! هذا العطر ينم عن خصوصية وجودية فيه صلوات الله عليه وآله.

نحن لا نحتفل بميلاد رسول الله بل بميلاد كل واحد منا، لأن ولادتنا الحقيقية هي خروجنا من الظلمات إلى النور، والذي أخرجنا منها هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المحاضرة بمناسبة ميلاد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله .

1- هناك مقطوعة شعرية بديعة باللغة الفارسية ترجمتها (بين أحمد وأحد ميم فاصلة است) فهو يقول أن الفرق بين ( أحد ) و( أحمد ) هو الميم فقط وهي ميم الإمكان .

2- بل إن علة وحدة المجتمع المسلم وانسباكه هو أوحدية رسول الله وتقدمه.

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 3.5 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 3.5 / 5. عدد التقييمات 2

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 118٬200 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها