ورد مصطلح المحمدية البيضاء في بعض الأدعية، *منها دعاء سريع الإجابة عن الإمام الكاظم سلام الله عليه الذي مطلعه: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَطَعْتُكَ فِي أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكَ وَهُوَ التَّوْحِيدُ، وَلَمْ أَعْصِكَ فِي أَبْغَضِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكَ وَهُوَ الْكُفْرُ، فَاغْفِرْ لِي مَا بَيْنَهُمَا، إلى أن يقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ الْكُبْرَى، وَالْمُحَمَّدِيَّةِ الْبَيْضَاءِ ،وَ الْعَلَوِيَّةِ الْعُلْيَا ( الْعَلْيَاءِ )، وَبِجَمِيعِ مَا احْتَجَجْتَ بِهِ عَلَى عِبَادِكَ، وَبِالاِسْمِ الَّذِي حَجَبْتَهُ عَنْ خَلْقِكَ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ أَمْرِي فَرَجاً وَمَخْرَجاً، وَارْزُقْنِي مِنْ حَيْثُ أَحْتَسِبُ وَمِنْ حَيْثُ لاَ أَحْتَسِبُ، إِنَّكَ تَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ”(1)
عنوان البحث (الإمام الرضا والمحمدية البيضاء) منتزع من فكرة أن الإمام الرضا عليه السلام قد أظهر بطلان ما يدعو إليه المأمون وعموم بني أمية وبني العباس في التوحيد والنبوة، بل إن فهمهم للرسالة وسائر العقائد مرفوض عند أهل البيت عليهم السلام. وفي الخبر أن المأمون طلب من الإمام الرضا أن يكتب رسالة يوجز فيها عصارة ولب الإسلام الذي يرتضيه الرضا عليه السلام، أي بما يتناسب معالمحمدية البيضاء أو الحقيقة المحمدية كما يعبّر العرفاء، في مقابل الإسلام الذي يطرحه غيره.
روى الصدوق بسنده عن الفضل بن شاذان قال: سأل المأمون علي بن موسى الرضا أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار، فكتب (عليه السلام) له: “إن محض الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إلها واحدا، أحدا، فردا، صمدا، قيوما، سميعا، بصيرا … إلى أن قال: وأن محمدا عبده ورسوله وأمينه وصفيه وصفوته من خلقه، وسيد المرسلين وخاتم النبيين وأفضل العالمين، لا نبي بعده ولا تبديل لملّته ولا تغيير لشريعته، وأن جميع ما جاء به محمد بن عبد الله هو الحق المبين …”(2)
ما يهمنا هو عبارة “وأن جميع ما جاء به محمد بن عبد الله هو الحق المبين” ومن خلالها سنبيّن المحمدية البيضاء، ودور الإمام الرضا (ع) في بسط وتوضيح المحمدية البيضاء وتحقيقها في الخارج.
أقسام الناس في الإيمان بنبوّة رسول الله (ص):
من خلال قول الإمام صلوات الله وسلامه عليه (ولا تبديل لملّته ولا تغيير لشريعته) يقسّم الاعتقاد والإيمان بالنبي ورسالته إلى قسمين:
الأول: هو ما يدعيه العباسيون والأمويون وأكثر الناس.
الثاني: هو ما يدعيه أهل البيت (ع) ويدعون إليه، وهو ما نسميه بالمحمديّة البيضاء. وبيانهما كالتالي:
القسم الأول:
الاعتقاد والشهادة بأن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله الذي بعثه الله سبحانه وتعالى في مكة المكرمة هو منتخب مصطفى من قبل الله، وأنه خاتم النبيين وأفضل العالمين وأنه لا نبي بعده، وتنتهي العقيدة عند هذا المستوى.
وبناء على هذا النوع من الإيمان فإن محمدا صلى الله عليه وآله رحل مع كل هذه الخصائص ورحلت معه رسالته ووظيفته في مواجهة الكفر والشرك والباطل، وإن كان بقي لمحمد بن عبد الله (ص) شيء فقد بقيت الدولة والسلطان، أما الوجود المحمدي فلا امتداد له في ولا اتساع لحقيقته في هذا الكون.
هذا خلاصة القسم الأول من الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله، وبناء على عبارة الإمام التي أسلفناها فإن من يحملون هذا النوع من الاعتقاد هم مسلمون من حيث الظاهر، و لكنهم في الحقيقة غيّروا من شرعته وبدّلوا في ملّته، لأنهم لم يروا امتداد الوجود الحقيقي لرسول الله (ص) ولم يروا بقاء وثبات الشريعة وديمومة الملّة.
القسم الثاني:
و هو معنى الحقيقة المحمدية التي يقصدها العرفاء، هو الاعتقاد بامتداد رسالة النبيّ (ص) التي يستحيل أن تتغيّر وتتبدّل، وأن لها حملة، وأن الجبهة التي أوجدها النبي في مواجهة الضلال مازالت مفتوحة، فلا تبديل لملّته ولا تغيير لشريعته.
هذا النوع من الإيمان بنبوّة رسول الله يعني الإيمان بأن هناك حقيقة محمدية ثابتة وأصيلة ومستقرة في كل زمان. وهي المحمدية البيضاءالتي لا يخالطها شيء.(3) وهذا ما يسميه العرفاء بالحقيقة المحمدية. ومفادها أن النبي إذا رحل فإن له حقيقة وروح تبقى موجودة في كل زمان، وأن هناك من يجسد هذه الروح و يحققها في الخارج. ودليل العرفاء على ذلك هو أنه إذا كانت ملّة وشرعة رسول الله (ص) باقية وموجودة وهي عرض من أعراضه، فلا شك أن العرض يعود إلى ما بالذات، فالذات موجودة أيضا.
الإمام الرضا يبيّن أن الإيمان بالحقيقة المحمدية المحضة يتقوّم بشرطين:
-
الأول: الإيمان بأن النبي منتخب من قبل الله وأن لا نبي بعده.
-
والثاني: أنه لا تبديل لملّته و لا تغيير لشريعته.
ما هو التبديل في الشريعة؟
يتكلم القرآن عن مسألة التبديل والتغيير في الشرائع وخصوصا في ملّة رسول الله، الآية تقول: ﴿الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ • جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ [ إبراهيم 28-29] .
إن أعظم نعمة ومنّة هي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله؛ هي الحقيقة المحمدية التي تمتد بامتداد الوجود، و تظهر في مظهر الولاية. لو دقّقنا في هذه الآية لوجدنا أنها جاءت في سياق آيات توجهها، فالآية التي قبلها ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ • تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ • وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾ [ إبراهيم : 24-26 ] وقد رد في الرواية ما مضمونه: أن الشجرة الخبيثة هي عدونا، والكلمة الطيبة هي ولايتنا. إذن هذه الآية توجه ما بعدها، وتعيّن الذين بدّلوا نعمة الله كفرا.
ما الفرق بين التبديل والتحويل والتغيير؟
التبديل ليس تغيير ماهية شيء، وإنما إزالة شيء ووضع شيء آخر مكانه، فهؤلاء الذين بدّلوا لم يتصرفوا فقط في هوية هذه المحمديةوتغيير بعض معالمها وإنما أزالوها ونصبوا غيرها، والسبب أنهم لا يعتقدون ضمن إيمانهم بالرسالة أن محمد بن عبد الله (ص) لا تبديل لملّته.(4)
﴿الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾ هنا نجد في الآية نكتتين ينبغي الالتفات إليهما:
النكتة الأولى: (وأحلوا قومهم) بدلالة كلمة قومهم نفهم أن هؤلاء أصحاب نفوذ وعلى رأس السلطة، وأن لهم مواقع مؤثرة ويستطيعون أن يزيلوا هذه النعمة ويرفعوها ويضعوا في مقابلها النقمة. فليس كل أحد يستطيع أن يقود الناس باتجاه تغيير حقيقة وتبديلها.
النكتة الثانية: دار البوار المراد منها كل شيء غير هادف ولا ينتهي إلى نتيجة. لأنّ المراد من البوار فساد العاقبة والنتيجة، وهؤلاء الذين بدّلوا المحمدية البيضاء مسلمون ظاهرا لكنهم في الواقع أحلّوا قومهم دار البوار. ولعلّهم يفتحون البلدان ويملكون الأرض ويحوزون الأموال ولكن بلا بركة، فتصبح البلاد بوارا، أي ليس فيها نتاج إنساني.
هؤلاء يقعون في مقابل أولئك الذين يؤمنون بالمحمدية البيضاء. والذي يؤمن بذلك فهو في الحقيقة يؤمن بأن الجبهة التي فتحها رسول الله (ص) في مقابل الباطل موجودة وباقية وممتدة بامتداد حقيقته (ص) لأنهم يعتقدون بالامتداد الزماني والمكاني الأصيل الثابت لمحمد (ص) .
دور الإمام الرضا إظهار للمحمدية البيضاء:
إن سيرة الإمام الرضا تكشف دوره عليه السلام في إظهار محض الإسلام والمحمدية البيضاء، وبيان هذه اللون الصافي من الشريعةالمحمدية مقابل أولئك الذين بدلوا نعمه الله كفرا واحلوا قومهم دار البوار.
ولعلّ قبول الإمام الرضا بولاية العهد كان هدفه بيان السنة المحمدية البيضاء الخالصة، واقتطاف ثمار الشجرة الطيبة وإطعامها للأمة. ولعله عين الهدف الذي صالح من أجله الإمام الحسن عليه السلام، الفرق أن الإمام الحسن سلّم الحكم لمعاوية ليسلب منه المشروعية، والامام الرضا استلم ولاية العهد ليبيّن عدم مشروعية المأمون، واعتمد كلاهما على ذات الوسيلة وهي إظهار السنّة الأصيلة الصافية للنبي محمد صلوات الله عليه وآله.
لقد كان هدف المأمون هو تشويه سمعة الإمام الرضا (ع) ، لأن من الطبيعي أن ينتظر شيعة الإمام منه بعد وصوله إلى الحكم أن يعيد نعمة الله حمدا وثناء، وأن يحل قومه دار العدل والرخاء، وإن بقاء الواقع الفاسد سيفاجئهم ويصدمهم مما سيؤثر في علاقتهم وقناعتهم بالإمام، لكن الإمام قلب السحر على المأمون بشروطه التي اشترطها مقابل قبول ولاية العهد، كجدّه الحسن (ع) حين قلب الأمر على معاوية بصياغة شروط الصلح.
لقد قبل الإمام الرضا (ع) ولاية العهد بشروط كان أهمها ألا يتدخل في شأن من شؤون الدولة، وأن لا تناط به أية مسؤولية. ورد في كتابه للمأمون: “إنّي داخل في ولاية العهد على أن لا آمر ولا أنهى، ولا أفتي ولا أقضي، ولا أولّي ولا أعزل، ولا أغيّر شيئاً ممّا هو قائم، وتعفيني من ذلك كلّه” (5) ومعنى ذلك أن المعارضة يمكن أن تكون في أعلى المناصب في الدولة، وأن قبول أي منصب في الدول الجائرة لا يعني أبد الرضا بسياسة هذه الدول، كان الإمام يريد بذلك إرسال رسالة للأمة مفادها: ابقوا معارضة أيا كان المنصب الذي تشغلونه مهما كان موقعكم حساسا، ولا تغشكم المناصب ولا تبرر لكم التعاطي مع الطغاة، فان المعارضة هي سيرة النبي البيضاء.
كثير ما يتصوّر الناس أن الوصول إلى المناصب والمواقع الاجتماعيّة الكبيرة في ظلّ الدولة الجائرة والحكومة غير الشرعيّة يجعل أصحاب هذه المواقع محتاجين إلى المجاملة وممارسة التقيّة أكثر، لأنهم تحت الرقابة. والحال أن الإيمان بامتداد الثقافة المحمدية يقضي بالانحياز إلى الخيار المقابل تماما، فإن ضريبة الوصول إلى تلك المواقع (أو زكاتها) أن يكون الإنسان أكثر حقانية وأفصح بالحق ولا يلحن في حجته، لأنّ موقعه الحساس يجعله أقدر على إيصال الحقائق. أما من يدّعي أنه يتولى الإمام الرضا (ع) ويستنّ بسنته ثم يكون ضعيف الحجة منصهرا في بوتقة الظلم ذائبا في الواقع فهذا يمارس خديعة في حقّ الأمة وتزييفا وتزلفا، ويخالف تماما سيرة الإمام (ع) ، فيكون مصداقا لتبديل ملّته (ص) وتغيير شرعته.
لقد أظهر الإمام الرضا المحمدية البيضاء الخالصة ليعلمنا أن علينا أن لا نغيّر في دين محمد وشرعته مهما تعسّرت، وعلّمنا أن نقلب الواقع إلى اللون المحمدي الثابت الذي لا يتغيّر، و أن نستثمر المنصب – لو وصلنا إليه – في إحياء السيرة والسنة المحمدية التي صدع بها رسول الله (ص) في مكة يوم قال للكافرين: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ • لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ • وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ • وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَاعَبَدْتُمْ • وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ • لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ الكافرون: 1-6 ليس في الآية تكرار بل تأكيد على أن لا انسجام بيني وبينكم، وهذا بعينه ما فعله الرضا عليه السلام، فهو بشرط عدم تدخله في الدولة يقول للمأمون أنا أدخل في السلطة لكني لا أنسجم معك أبدا، ولا يمكن أن تنسجم معي، ولا توجد بيننا لغة مشتركة أصلا.
هذا يعني أن الوجود المحمّدي ممتد في الإمام الرضا، وأن المحمدية البيضاء التي تواجه الباطل ممتدة. لقد كان الإمام الرضا عليه السلام لونا طاهرا أبيضا نقيا مع كونه في أكثر المواقع حساسية، وهذا ليس إلا لأنه امتداد لروح رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا معنى قوله عليه السلام: (ولا تبديل لملّته ولا تغيير لشريعته)، يعني أنا لن أتغير، ومحمد بن عبد الله (ص) لا تبديل لملته ولا تغيير لشرعته مهما قست الظروف. من هنا حين طلب المأمون من الإمام الرضا (ع) أن يخرج لصلاة العيد رفض الإمام لاشتراط المأمون عدم ممارسة شأن من شؤون الولاية(6) لكنه مع إصرار المأمون قبل بشرط أن يصلي كما صلى رسول الله (ص)، والقصة مشهورة ومعروفة. وهي عذبة جدّا إذ تروي الأخبار أن الإمام لبس لباسا أبيضا كلباس رسول الله (ص)، وأمر من معه بذلك، ومشى في موكب مهيب مؤثّر يعيد سيرة رسول الله حيّة نابضة. ولعل من أفضل من صوّر حادثة خروج الإمام الرضا (ع) للصلاة هو الشهيد المطهري في محاضرة له بالفارسية، وأتصوّر أنّ كمال السيّد نقلها عنه في روايته التاريخية (الطريق إلى خراسان) حيث يقول:
كان الرجل الذي يحمل ميراث الأنبياء قد اغتسل، وبعض قطرات الماء تتألق فوق جبينه المضيء، واستكمل ارتداءه ثياباً بيضاء بلون حمائم السلام.. واعتمّ بعمامة بيضاء وقد أرخى طرفها الأول فوق صدره والطرف الآخر بين كتفيه، وطلب من مواليه أن يفعلوا مثله، وأن يقتدوا بحركاته عندما يخرج إلى الصلاة. أمسك بعكّازة وغادر المنزل حافياً… وفوجئ الجميع بطلعته البسيطة: ثياب بيضاء ناصعة قصيرة، وخلفه رجال يرتدون مثل هيئته!! وقف الإمام عند عتبة الباب وهتف عالياً وهو ينظر إلى السماء الزرقاء: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر. الله أكبر على ما هدانا… الله أكبر على ما رزقنا… الحمد لله على ما أولانا… وردّد الرجال خلفه الكلمات المقدسة. وبدأ الموكب العجيب يشقّ طريقه بين صَفّين طويلين من الجنود.
قطع الإمام عشر خطوات، وتوقف ليردّد كلمات الثناء والحمد لله رب العالمين. وراحت الجماهير تردّد كلمات التكبير، وقفز القادة والجنود بأنفسهم من فوق الخيول، وكان أحسنهم حالاً من عنده سكين ليقطع أربطة حذائه وليحتفي. لا أحد يعرف سرّ البكاء، سرّ الدموع.. هل هي دموع فرح أم دموع شوق إلى هوّية فُقدت منذ زمن بعيد؟! وربّما تصوّر بعضهم أن رسول الله قد بُعث إلى الحياة. ها هو الرجل المدني يجسّد ثقافة الإسلام الحقيقية: البساطة، الخشوع لله، التواضع.. ليسجّل تناقضه مع كل مظاهر الأُبّهة والتسلّط وقهر الآخرين.
لم ير الناس رسول الله صلى الله عليه وآله ولكن ما كان مرسوما من سيرته في أذهانهم جسده الإمام الرضا وأظهر المحمدية في الخارج لأن الامام الرضا كان هو الامتداد لهذه الحقيقة، وبإظهاره لها كشف زيف ما سواها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المحاضرة بمناسبة وفاة الإمام الرضا عليه السلام لعام 1436ه
1- المصباح: 292
2- روى الصدوق بسنده عن الفضل بن شاذان قال: سأل المأمون علي بن موسى الرضا أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار، فكتب (عليه السلام) له: “إن محض الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا، أحدا، فردا، صمدا، قيوما، سميعا، بصيرا، قديرا، قديما، قائما، باقيا، عالما لا يجهل، قادرا لا يعجز، غنيا لا يحتاج، عدلا لا يجور، وأنه خالق كل شئ، ليس كمثله شئ، لا شبه له، ولا ضد له، ولا ند له، ولا كفو له، وأنه المقصود بالعبادة والدعاء والرغبة والرهبة. وأن محمدا عبده ورسوله وأمينه وصفيه وصفوته من خلقه، وسيد المرسلين وخاتم النبيين وأفضل العالمين، لا نبي بعده ولا تبديل لملته ولا تغيير لشريعته، وأن جميع ما جاء به محمد بن عبد الله هو الحق المبين، والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل الله، وأنبيائه، وحججه والتصديق بكتابه الصادق العزيز الذي: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ وأنه المهيمن على الكتب كلها، وأنه حق من فاتحته إلى خاتمته، نؤمن بمحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه، ووعده ووعيده ، وناسخه ومنسوخه، وقصصه وأخباره، لا يقدر أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله. وأن الدليل بعده والحجة على المؤمنين والقائم بأمر المسلمين، والناطق عن القرآن، والعالم بأحكامه: أخوه وخليفته ووصيه ووليه، والذي كان منه بمنزلة هارون من موسى: علي بن أبي طالب (عليه السلام) أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وأفضل الوصيين، ووارث علم النبيين، والمرسلين، وبعده الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ثم علي بن الحسين زين العابدين، ثم محمد بن علي باقر علم النبيين، ثم جعفر بن محمد الصادق وارث علم الوصيين، ثم موسى بن جعفر الكاظم، ثم علي بن موسى الرضا، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم الحجة القائم المنتظر صلوات الله عليهم أجمعين أشهد لهم بالوصية والإمامة، وأن الأرض لا تخلو من حجة لله تعالى على خلقه في كل عصر وأوان، وأنهم العروة الوثقى، وأئمة الهدى، والحجة على أهل الدنيا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأن كل من خالفهم ضال مضل باطل، تارك للحق والهدى، وأنهم المعبرون عن القرآن، والناطقون عن الرسول (صلى الله عليه وآله) بالبيان، ومن مات ولم يعرفهم مات ميتة جاهلية، وأن من دينهم الورع والفقه والصدق والصلاة والاستقامة والاجتهاد، وأداء الأمانة إلى البر والفاجر، وطول السجود، وصيام النهار وقيام الليل، واجتناب المحارم، وانتظار الفرج بالصبر، وحسن العزاء وكرم الصحبة [عيون أخبار الرضا 2 : 121 – 122]
3- وصف المحمدية بالبيضاء لوضوح معالمها من جهة، ومن جهة أخرى أن كل ما علق فيها مما هو ليس منها فسيظهر ويبين بوضوح. يقال أن استحباب لبس البياض لاهتمام الدين بالطهارة، البياض هو مادية التمحض، والتمحض هو معنوية البياض. المحمدية البيضاء تظهر كل من يحدث أي تغيير فيها، ومن يحدث أي تغيير يكفر.
4- الملة هنا تقابل الشريعة فنعرف أنها الأصول وأنها الحقيقة والأركان إن صح التعبير، في مقابل الشريعة التي هي بمعنى الدين كله وليس الفقه.
5- الكافي 1/489
6- في إرشاد المفيد روى علي بن إبراهيم عن ياسر الخادم والريان بن الصلت جميعا قال: لما حضر العيد وكان قد عقد للرضا عليه السلام الأمر بولاية العهد بعث المأمون إليه في الركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخطبة بهم فبعث إليه الرضا عليه السلام قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول هذا الأمر فاعفني من الصلاة بالناس، فقال له المأمون إنما أريد بذلك أن تطمئن قلوب الناس ويعرفوا فضلك، ولم تزل الرسل تتردد بينهما في ذلك، فلما ألح عليه المأمون أرسل إليه إن اعفيتني فهو أحب إلي وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له المأمون اخرج كيف شئت وأمر القواد والحجاب والناس أن يبكروا إلى باب الرضا عليه السلام قال فقعد الناس لأبي الحسن عليه السلام في الطرقات والسطوح واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه وصار جميع القواد والجند إلى بابه فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس فاغتسل أبو الحسن عليه السلام ولبس ثيابه وتعمم بعمامة بيضاء من قطن ألقى طرفا منها على صدره وطرفا بين كتفيه ومس شيئا من الطيب وأخذ بيده عكازا وقال لمواليه افعلوا مثل ما فعلت فخرجوا بين يديه وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمرة فمشى قليلا ورفع رأسه إلى السماء وكبر وكبر مواليه معه ثم مشى حتى وقف على الباب فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة سقطوا كلهم عن الدواب إلى الأرض وكان أحسنهم حالا من كان معه سكين فقطع بها شرابة جاجيلته ونزعها وتحفى. وكبر الرضا عليه السلام على الباب الأكبر وكبر الناس معه فخيل إلينا أن السماء والحيطان تجاوبه وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لما رأوا أبا الحسن عليه السلام وسمعوا تكبيره وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذو الرياستين يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس وخفنا كلنا على دمائنا فأنفذ إليه أن يرجع فبعث إليه المأمون قد كلفناك شططا واتعبناك ولسنا نحب أن تلحقك مشقة فارجع وليصل بالناس من كان يصلي بهم على رسمه، فدعا أبو الحسن عليهالسلام بخفه فلبسه وركب ورجع واختلف أمر الناس في ذلك اليوم ولم ينتظم في صلاتهم
0 تعليق