٤- قراءة كربلاء قي ظل داعي الله (٢-٢)
“لَبَّيْكَ دَاعِيَ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَمْ يُجِبْكَ بَدَنِي عِنْدَ اسْتِغَاثَتِكَ وَ لِسَانِي عِنْدَ اسْتِنْصَارِكَ فَقَدْ أَجَابَكَ قَلْبِي وَ سَمْعِي وَ بَصَرِي سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا”.
(لبيك داعي الله) نقرأ تحت ظلّها معالم كربلاء، بما يتناسب وهذا الداعي وتلبيته. قلنا بالأمس أن العدو الحقيقيّ للإمام الحسين عليه السلام كان الدنيا، وقد انتصر عليها وعرّاها وكشفها، فالمطامع والأماني والشهوات والمحرمات وجميع هذه الأصباغ التي يجمّل بها الطغاة وجه الدنيا قام الإمام الحسين بنزعها فظهر قبحها. وسنستمر اليوم في قراءة كربلاء تحت ظل (داعي الله).
داعي الله يكشف كل رايات الضلال:
من القراءات التي نقرأ بها كربلاء في ضوء داعي الله، وتؤثر في معارفنا وفكرنا وعقائدنا وسلوكنا هي أن نعرف أن داعي الله هو الذي يكشف ويحارب كل الدعوات التي تصد عن سبيل الله. فهو بشكل تلقائي يطرد كل منحرف يدّعي بأنه متصل بالله سبحانه وتعالى، ويصفّي كل الرايات والدعاوي التي تتلبس بلباس الدين أو الإنسانية أو الحقيقة بينما هي في باطنها تصد عن سبيل الله.
نعلم أنه في بعض المراحل التاريخية أمكن حصر أعداء الله تحت عناوين معروفة، فرسول الله صلى الله عليه وآله أخبر أمير المؤمنين (ع) بالرايات التي سوف تحاربه. روى الحاكم باسناده عن عتاب بن ثعلبة: حدثني أبو أيّوب الانصاري في خلافة عمر بن خطاب قال: “أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علي بن أبي طالب عليه السّلام بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين”(١). فمن حارب أمير المؤمنين ثلاث فئات هم:
- الفئة الأولى/ الناكثون: وهم الذين نكثوا بيعته عليه السلام بعد أن عرضوها عليه وبايعوه طائعين مريدين، لكن بعد ذلك طلبوا منه أن يعطيهم مواقع استثنائية في الدولة الإسلامية مقابل ذلك. لكن الأمير لم يستجب لهم و كان محقاً ويريد إرساء الحق، فكانت ردة فعلهم أنهم نكثوا البيعة، وكانت حرب الجمل .
- الفئة الثانية/ القاسطون: وهم من وضعوا معاوية في كفة وأمير المؤمنين عليه السلام في كفة ورجحوا كفة معاوية فواجههم الأمير عليه السلام في حرب صفين .
- الفئة الثالثة/ كانت المارقون: وهم من السذاجة بدرجة تصور أنهم أسبق من أمير المؤمنين (ع) في الصلاح والتقوى والقداسة، والحال أن (المتقدم عنكم مارق)(٢) وقد واجههم الإمام علي عليه السلام في حرب النهروان. كل من حارب أمير المؤمنين عليه السلام كان قابلا للوصف، فهو إما ناكث أو قاسط أو مارق. لكن المشكلة في الذين حاربوا الإمام الحسين عليه السلام أنهم لم يكونوا قابلين للتحديد والحصر تحت عناوين محددة، لأن كل أشكال الخلل والانحراف والطمع والشهوة وكل نقاط الضعف وجدت فيهم .
يجمع الشهيد الصدر ذلك تحت تعبير (ضعف الإرادة) فالواحد منهم ليس ناكثاً ولا قاسطا ولا مارقا، ولكنه في وقت اتخاذ القرار الحاسم لا يستطيع أن يقدِم، وفي الوقت الذي يفترض فيه أن يدافع عن ولي الله، ويرتبط بداعي الله فإنه يتخلى عنه ويخذله.
إذا أردنا أن ندرس العوامل النفسية التي أدت إلى انحراف ثلاثين ألفاً – على أقل التقادير – خرجوا على الإمام الحسين عليه السلام في قبالة سبعين رجلا فقط ثبتوا معه (ع) ونعرف ما الذي جمعهم وتحت أي عنوان فلن نجد عنوانا يجمعهم، ولا يمكن أن نحدد بالضبط دافعهم. فقد كانوا خاضعين لمؤثرات مختلفة منها الجبن والغفلة وغيرها، وليس صحيحا أن الطمع في الدنيا كان دافعهم، فهم قد جربوا بني أمية ويعرفون أنهم لا يفون بوعد. ولذا هم أسوأ من بني أمية، لأنهم باعوا آخرتهم بدنيا بني أمية. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: (يا عليّ !.. شرُّ الناس من باع آخرته بدنياه، وشرٌّ من ذلك من باع آخرته بدنيا غيره)(٣).
كان واقعا مرعبا، وكان على الإمام الحسين (ع) بصفته داعي الله أن يعالج واقع هذه الأمة من هذه الأمراض التي لا حصر لها، فوظيفة داعي الله هي علاج الإنسان الذي لديه القابلية لتصحيح المسيرة، فيخلّص الكل من الذنوب والمعاصي ويجعلهم يقبلون على الله سبحانه وتعالى.
رائحة كربلاء تميز الدعاوى المختلفة فالأسباب التي يبرر الناس بها وقوفهم في صف الظالمين هي في أغلبها ادعاءات، وخاصيةالإمام الحسين أنه داعي الله، لذا هو يربي فينا وعيا كربلائيا يؤهلنا لاكتشاف رائحة تلك الأمراض والأوبئة، حتى إذا برزت أي راية تتلبس بلباس ديني، وترفع شعارا دينيا ولكنها تخلو من رائحة الحسين وروحه فلا يمكننا القبول بها. فإذا ساورك الشك في راية مرفوعة فقِس مقدار وقوف هذه الراية مع الحق ومقدار ما تصنع من التهييج والإثارة الخالية من التعقل، باختصار ابحث عن رائحتها الحسينية فداعي الله يُبرز أسماء الله، وكل نشاط اجتماعي أو مشروع سياسي، وكل دعوة أو ظاهرة لا يوجد في عمقها ظهور لله فإن داعي الله يكشف زيفها.
لقد أعطانا الإمام الحسين عليه السلام بصيرة نعرف بها الفرق بين الدعوات اللغْوية وبين الأمور الجادة. والشيعي المتدين لا يستطيع أن يتمتع بالدنيا مهما تم تزويقها، وحتى لو حاول إيهام نفسه أن هذا العمل يحقق له السعادة، هذا لأنه في قرارة نفسه و في أعماقه يعرف بسرعة أن هذا العمل عمل دنيوي. الذين يعرفون الحسين (ع) ليسوا عميا مثل غيرهم، لأن الحسين (ع) صنع في أعماقهم راية واحدة معبّأة بالله.
لقد كان في كربلاء من البواعث و المحركات الضالة والمضلّة ما لا يعد و لا يحصى، وقد قضى عليها الإمام الحسين عليه السلام و كشفها وأبدى قبحها، ولذا كان (ع) وحتى العاشر من محرم يخطب في جيشه وجيش أعدائه. هل رأيتم قائدا يخطب في جيش أعدائه؟ هذا لأن الحسين لم يكن قائدا عاديا، كان داعي الله لكل من له قابلية ليتعالج ويتطهر،كل غارق يحتاج إلى من ينقذه حتى لوكان عدوا.
داعي الله يرمّم كل نقص ليوصل إلى الكمال:
الصفة الثانية التي لا توجد إلا في داعي الله هي قدرته على إلحاق كل من لديه استعداد وقابلية إلى أعلى مرتبة من الكمال، فهو مخوّل بإيصال الآخرين إلى كمالهم. وهذا بحث قرآني مهم جدا. يطرح القرآن هذا المفهوم حين ينقل إلينا دعاء نبي الله إبراهيم ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ الشعراء:83 إبراهيم (ع) الذي وصل إلى مقام الخلة بقي له مقام لم يصل إليه! وهو أن يكون من الصالحين، لذا طلبه من الله وأعطاه الله ماطلب ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ العنكبوت:27 وقد بلغه بواسطة داعي الله.
ولبيان ذلك نقول:
هناك فرق بين الصالحين وبين الذين يعملون الصالحات.فالذي يعمل الصالحات يمكن أن يخطئ ويصدر منه عمل غير صالح. لكن إذا صلحت الذات أصبح الإنسان صالحا وكل ما يصدر عنه صالح؛ نومه صلاح، ويقظته صلاح، وأكله وصداقاته صلاح..، لكن طريق الصلاح يحتاج إلى إلحاق، لأن الإنسان في حد نفسه ناقص، والذي يقدر على إلحاق هذا الناقص بالصالحين ويكمله هو داعي الله ،والصالحون هنا هم محمد وآل محمد صلوات الله عليهم.
أتذكر أن الشيخ جوادي حين وصل إلى تفسير هذه الآية بكى كثيرا، لأنه قرأ الآية بعدها ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ ففي الآخرة يلحق الحسين عليه السلام خليل الله بالصالحين لأنه داعي الله وذاته تغير أوضاع الناس وتلحقهم بمرتبة الصلاح. ولذلك لاحظوا أن الإمام الحسين (ع) في تعامله مع أصحابه وجيشه كان يبذل طاقته كي لا يبقي نقطة ضعف لأحد، كان يتحمل عنهم نقاط ضعفهم، فكان يسأل كل واحد منهم إن كان عليه دين من صلاة أو سائر العبادات، ويطلب منه أن يوكّله فيها. لأن الإنسان مهما عمل الصالحات يبقى عنده جزء من الطريق لم يقطعه، ويحتاج إلى من يتممه له. والداعي إلى الله يقوم بهذه الوظيفة. داعي الله لا يرشدك إلى طريق الله فحسب؛ بل يوصلك إلى الله بنفسه وبما وهبه الله من تجلي صفاته سبحانه فيه. نحن نخاطب الله (يا شفيق يا رفيق)، وداعي الله أيضا شفيق ورفيق وحنّان و منّان.
إذن إذا كان بعض الطريق الذي تسلكه ناقصاً فإن داعي الله يكمل لك الطريق، فيجعلك من الصالحين، سواء كان نقصك أخلاقيا أو عقائديا، أو كان نقصا في الوعي أو في الفهم.
ومن ممارسات الإمام الحسين وسلوكياته نستطيع أن نقرأ معنى المُلحق الذي يكمل لك الطريق. لم يكن الإمام الحسين صرف قائد سياسي أو عسكري، بل كان قائدا إلهيا، كان داعي الله، لذا كان يحضر عند أصحابه وقت استشهادهم ويقف على رؤوسهم حتى لا يضعف أحد منهم ولا يتزلزل أو يتراجع، كان يتبعهم إلى آخر لحظة، وحين ترفرف أرواحهم وتطير، فهي تطير بين يديه عليه السلام .
وكان يعطي كل واحد منهم وساما، فمنهم من يقول له: أنت أمامي في الجنة، ومنهم من يقول له: أنت حر في الدنيا والآخرة، يعني أنا حررتك فأذهب إلى تلك الدار بلا حساب ولا عقاب، لن تسأل عن صلاة ولا عن عمل فكل شيء قد أكملته عنك. كان يقف (ع) على العبد الأسود منهم فيقول له: بيض الله وجهك – لأنه كان يشعر بالنقص لسواده – ويقول لجون: طيب الله ريحك. ويقف على القاسم ابن الحسن فيقول: (عز على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك فلا ينفعك) هذا نفس قوله تعالى عن رسوله: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ التوبة: 128.
كل شهيد ودّع الحسين عليه السلام بكامل السعادة، وبشره الحسين بالجنة، ولذا كان أشد مظلوميات مسلم بن عقيل رضوان الله عليه أنه لم يحضره الإمام الحسين عليه السلام في وقت شهادته .
١. المستدرك للحاكم 3 / 139
٢. الزيارة الجامعة.
٣. مكارم الأخلاق ص:500
0 تعليق