تقدم القراءة:

لبيك داعي الله ٣

الخميس 30 أكتوبر 2014مساءًالخميس

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)

٣-  قراءة كربلاء في ظل داعي الله (١-٢)

لَبَّيْكَ دَاعِيَ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَمْ يُجِبْكَ بَدَنِي عِنْدَ اسْتِغَاثَتِكَ وَ لِسَانِي عِنْدَ اسْتِنْصَارِكَ فَقَدْ أَجَابَكَ قَلْبِي وَ سَمْعِي وَ بَصَرِي‏ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا

التفريق بين معنى “داعي الله” ومعنى “الداعي إلى الله” يجعلنا نقرأ كربلاء بكل تفاصيلها من المبدأ إلى المنتهى قراءة مختلفة، وبها سوف نطلق سراح كثير من المعاني التي سجنّاها في مفاهيم وقوالب زمانية محددة.

داعي الله سماويّ الوجود، وهو ليس داعيا إلى ربه يدعو للربوبية والعبودية فقط، وإنما يدعو إلى جميع أسماء الله سبحانه، وهو مظهر جميع الأسماء والصفات الإلهية.

إنّ أصل الدعوة هو الإكرام، فعندما تدعو شخصا ما فلابد أن يكون شخصًا مهماً تحبه وتجلّه وترى فيه كرامة، ولابد للدعوة من غرض وغاية. ثم أيضا من يمثلك في هذه الدعوة لابد ان تجعله بمستوى المدعو. فإذا أردت أن تدعو مرجعًا أو إنسانًا له موقعية روحية فستنتخب لحمل هذه الدعوة شخصًا مناسبًا. وقد انتخب الله سبحانه وتعالى من هذا الوجود الحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليه داعيا له سبحانه.

وحين نقرأ تاريخ كربلاء ضمن فهمنا لمعنى داعي الله تتغير الكثير من المفاهيم. سنسلط الضوء في هذا اليوم حول بعض الأحداث والخطابات الكربلائية لنعيد قراءتها.

الحسين يكبّ الدنيا على وجهها:

من أهم ما يجب إعادة قراءته هو العدو الذي واجهه الحسين عليه السلام. فمنهو ذلك العدو؟ و هل انتصر عليه فعلاً؟

يروي التاريخ أن الإمام الحسين عليه السلام خرج في السنة 61 هـ من المدينة إلى مكة إلى كربلاء مستجيبًا لرسائل أهل الكوفة الذين بعثوا له بعد أن علموا بأنه لن يبايع يزيد. لكن ما ينبغي الوقوف عنده هنا: هل هذا يعني أن عدو الإمام الحسين هم بنو أمية؟!

إذا قرأنا هذا الحدث ضمن معنى (داعي الله) سنعرف من هو العدو الذي واجهه هذا العدو كامل الانتصار.

قراءة المعركة في ظل داعي الله تبين أن الإمام الحسين لم يخرج فقط ليواجه الطغيان الأموي، هذا ظاهر القضية وقشرها، لقد خرج الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه ليقاتل الدنيا ويصرعها، وقد انتصر عليها.

وفي خطاباته صلوات الله عليه ما يثبت هذا المعنى، وسنطرح هذه القراءات لخطابات الإمام الحسين عليه السلام، مع ملاحظة أن خطاباته على نحوين:

  • النحو الأول: خطاباته في أعداءه.
  • النحو الثاني: خطاباته في أصحابه.

وسنتناول النوع الثاني الذي منه قولهالناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا محّصوا بالبلاء قل الديانون“.(١)

عندما يتحدث الإمام الحسين عن الدنيا فهو يعني الجبن، الجهل، المطامع، اللهث وراء الشهوات، وبيع الآخرة وشراء الدنيا. الدنيا ليست السماء والأرض والشمس والقمر بل هي الزينة الكاذبة الموجودة على وجه البسيطة، هي الماديات التي تقتل المعنويات في نفس الإنسان، الدنيا هي الحرص الشديد على المقتنيات الزائلة الفانية، هذه هي الدنيا.

الذي حققه الإمام الحسين أنه أكبّ الدنيا على وجهها وانتصر عليها، فمن تعلق بالحسين عليه السلام يكره دنيا الجهل والأنانية والحرص والخوف والجبن وبيع الآخرة. وكلما اقترب المدعوون من داعي الله ابتعدوا عن عدو الله الذي خرج الحسين عليه السلام لحربه.

الدنيا هي هذه الرذائل التي توجد في النفس، ومستقرها القلوب. لذلك عندما أراد الإمام الحسين أن يُعَّرف من جاء لقتله لم يصفهم بأنهم عبيد منقادون لبني أمية بل قال: (الناس عبيد الدنيا) ولو كان الحديث عن بني أمية ودولتهم لكانت كربلاء محبوسة داخل هذا الجيش، بينما نرى أن كربلاء قد تجاوزت حدود ذلك الجيش وتلك الحكومة، بل تجاوزت حدود ذلك التاريخ فأصبح لها أثر أساس في كل انتصار على الظلم والخوف والطمع وانتزاع الكذب والتزوير والجهل.

وفي ظل هذا المعنى يمكننا قراءة قول الامام الحسين عليه الصلاة والسلام لما استشهد علي الأكبر (على الدنيا بعدك العفا) قراءة أخرى. هذه الكلمة التي غالبا ما تقرأ بمعنى التفجّع الصرف سنجد أنها بعد فهم أن الحسين عليه السلام خرج لقتال الدنيا تكون بمعنى أن الدنيا ليس لها قيمة بعدك ياعلي، فعليها العفا! فالإمام هنا يهنئ عليا الأكبر على هذا الإنجاز، فعلي الأكبر باستشهاده ما ترك للدنيا من زبرجة. علي قتل الدنيا فعفا أثرها ولم يبق لها أثر، ومما يساعد على هذا المعنى هو أن الإمام الحسين لم يقل (على دنياي العفا ) ليكون متفجعا فقط، بل ان العفا على مطلق الدنيا.

الكلمة الثانية التي نريد قراءتها في ظل فهم (داعي الله) هو قوله عليه السلام حين خطب في اصحابه (إن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها)(٢). الدنيا قبل خروج الإمام مع أنصاره كانت مقبلة، مستأسدة، – طبعا نقصد بالدنيا بالمعنى الذي أسلفناه حيث الجهل والعمى والضلالة والتيه والرضوخ للطغاة – هذه الدنيا كنت مقبلة، وأما بعد أن خرج الإمام إلى كربلاء وتهيأ لقتالها فقد أدبرت (وتنكرت وأدبر معروفها) يعني إذا كان في هذه الدنيا معروف فهو متنكر خائف، وإذا كانت الدنيا ستعود مرة أخرى بعد كربلاء فستعود متنكرة، سترجع بعد أن نقتلها مصبوغة بالآخرة. وهذا واضح، فكل الذين جاءوا بعد الإمام الحسين عليه السلام طالبين للدنيا كانوا يصبغونها بالحرية بالحقوق وينكّروها بقيم الآخرة ليقبلهم الآخرون.

كل ذلك ببركة ما وصل إليه الإمام عليه السلام وأهل بيته وأنصاره من الهمة العالية وإرادة هداية الناس وبعد أن تمركزت فيه دعوى الله سبحانه، فإن الدنيا قد أدبرت لعدم قدرتها على مواجهته.

نعم، كربلاء ذيلها ممتد إلى يومنا هذا بدليل ولائنا، بدليل العلم الموجود في زماننا. الآن انظروا كم تتسع علوم ومعارف أهل البيت عليهم السلام! لأن الجهل يموت بينما العلم يحيا، الغفلة يقضى عليها واليقظة تشتد وتزداد ببركة كربلاءومن يخرج عن هذا لن يصبح من جيش بني أميه بل سيصبح من عبيد الدنيا، عبد لموجود ضعيف فانٍ منته. هذا أول تغيير لفهم عاشوراء إذا قرأناها في ظل معنى داعي الله.

داعي الله في مقابل الدعاة إلى جهنم:

كما أن الإمام الحسين يدعو إلى الله، فهناك دعوة أخرى وهي دعوة جهنم. فمن لم يستجب لدعوة داعي الله فلن يستجيب إلا للدعوة المقابلة.. لجهنم ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ﴾ الأعراف: 179

وجهنم ليست هي ما يعيش في تصوراتنا من فهم ساذج حيث هي حفرة تلتهب فيها النيران يلقي فيها الله من عصى! لا، جهنم موجود مدرك، وفيها يقول القرآن﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ ق: 30 فهي تتكلم، ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ الفجر: 23 فهي تمشي، ﴿أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ البقرة: 39 أي لها جماعة هم أصحابها، أصحابها ليس بمعنى من يدخلون فيها بل أصحابها أي المحسوبين عليها.

ومن الآيات المرعبة التي تعكس كل تلك الصفات قوله تعالى﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾ المعارج: 18.

كلا: إشارة لجدية الكلام، لا تشبيه فيه ولا مبالغة.

اللظى: ليست النار أو اللهيب العادي بل هي النار الشديدة جداً التي لا تحرق بل تشوي الوجوه.

نزاعة للشوى: في بداية احتراق وجه الإنسان تخرج السوائل الموجودة فيه ويصبح هناك نوع من الرطوبة، ثم عندما يشتد الحريق يبدأ الجلد بالسقوط فتصل النار لما هو أعمق، فتنتزعه.

تدعو: أي أن لجنهم دعوةوهو محل شاهدنا- وهذه الدعوة ليست عشوائية بل هي محكمة لأن الملائكة التي عليها ﴿مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ التحريم: 6. تدعو من؟

تدعومن أدبر وتولى: ومن تدعوه لها لابد أن يأتيها فلا طريق آخر، ومن يلبي دعوتها هو كل من يدبر ويعرض عن أولياء الله ويخرج من قلبه محبة أولياء الله.

وجمع فأوعى: من يفرغ قلبه من التوحيد ومن ولاء الأمير صلوات الله وسلامه عليه فسيجمع في قلبه غيرهم بلا شك، فالقلب لا يبقى خاويا، سيجمع اللهو واللغو والدنيا.

لذلك يذكر المفسرون السبب الذي لم تبين فيه ماهية الجمع، لأن من يعرض عن داعي الله سيجمع كل أوساخ الدنيا بلا حدّ، ومن جمع أوساخ الدنيا فالنار تعرفه وتدعوه.

لكن هذه الدعوة هناك ما يقضي عليها، وهذه النار هناك ما يطفئها ..

عن الإمام الرضا عليه السلام (ومن ذُكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينُه يوم تبكي العيون)(٣) فالذي يطفئ نار جهنم هو الذي كب الدنيا على وجهها. والذي يجعل للناس الحصانة من دعوة جهنم هو داعي الله.

هذه القدرة على إطفاء جهنم وإبطال دعوتها لا يقدر عليها أي أحد، بل يراد لها عبادة مثل عبادة الامام الحسين عليه السلام و جهاداً مثل جهاده و صبراً مثل صبره حتى تعجز القدرة الموجودة في جهنم من مواجهته.


١. بحار الأنوار 44 / 382
٢. التحف ص245
٣. أمالي الصدوق مجلس 17 رقم 4

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 114٬722 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها