تقدم القراءة:

لبيك داعي الله ٢

الخميس 30 أكتوبر 2014مساءًالخميس

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

5
(1)

٢- داعي الله إشراقة الله

ورد في الزيارة الرجبية التي نقرؤها في نصف رجب وشعبان -وهي من أفضل الزيارات العالية سنداً ومتناً– (لَبَّيْكَ دَاعِيَ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَمْ يُجِبْكَ بَدَنِي عِنْدَ اسْتِغَاثَتِكَ وَ لِسَانِي عِنْدَ اسْتِنْصَارِكَ فَقَدْ أَجَابَكَ قَلْبِي وَ سَمْعِي وَ بَصَرِي سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولا)(١)

شعار هذه الدورة في هذه العشرة الأيام: (لبيك داعي الله). وإذا شرحنا هذا الشعار فسوف تتضح المفاهيم التي تلي هذا الشعار تباعا.

(لبيك داعي الله) حتى يتحول إلى وظيفة اجتماعية أو قولوا عبادة جماعية، لابد أن نتعاون ونتآزر على أداء هذا الدور وهذه الوظيفة، وتتحول هذه المراسم إلى دعوة جادة، و تحريك جاد، واستجابة فعلية مدروسة منطلقة من هذه المفاهيم بعد دراستها. ومن باب المسؤولية تجاه إحياء هذه الوظيفة و هذا النسك الاجتماعي، علينا أن نقوّي بعضنا، فيقوّي عالمنا من هو أقل منه علماً، ويقوّي من هو أقوى إرادة وعزيمة من هو أضعف منه عزيمة، و أن نتعاون جميعا لحمل هذا الدور.

مع مفاهيم الشعار:

المفهوم الأول الذي ورد في هذا الشعار هو قولنا (لبيك)، ولكن من حيث المنهجية التعليمية فإن بيان التلبية ومعناها وحيقيقتها وما أخذ في معنى التلبية سوف يتأخر، ويأتي بعد أن نبين أمرين أساسيين:

١- معنى داعي الله.

٢- إلى ماذا يدعو.

وذلك لأن الإنسان ما لم تتضح له الدعوة والداعية فهو لا يلبي تلبية صحيحة موازية لهذه الدعوة. التلبية الحقيقية التي تُطلب وتحقق غرض الدعوة هي التي تكون بعد أن تعرف الدعوة. عندما يدعوك إنسان لأمر مبهم أنت لا تعرفه وتلبّيها فهذه التلبية وهمية. و نحن نردّد هذا المقطع من الزيارة على نحو الحقيقة لا على نحو المجاز. أي عندما نقول: لبيك داعي الله، فنحن نقصد بها أننا حقيقة نلبي الحسين عليه السلاموالتلبية الحقيقة تستلزم:

  • أن تعرف طبيعة الدعوة.
  • أن تعرف طبيعة الداعي.
  • وأن تعرف لأي شيء يدعوك.

لأنك ما لم تعرف لأي شيء تلبي فكيف ستلبي؟!!

التلبية ليست كقراءة شعر للإمام الحسين عليه السلام، وليست مديحا أو رثاء تستخدم فيها الألفاظ المجازية. التلبية تعني اتخاذ موقف، وتعني الإعلام والتصريح بموقف واقعي، وما لم تعرف الدعوة معرفة صحيحة والداعية بشكل صحيح فكيف تكون التلبية صحيحة؟!

ولهذا فإن هذا المقطع في الزيارة (لبيك داعي الله) هو في الحقيقة مقام ومرتبة حقيقية واقعية، وإعلان وإجهار بتلبية دعوة الإمام الحسين، ولذلك سوف يكون تقسيم البحث هكذا:

  • أولا: معنى داعي الله وخصوصياته.
  • ثانيا: الدعوة.
  • ثالثا: تحديد كيف تكون التلبية، مع الإشارة إلى الكيفية التي نلبي بها وفق الإمكانيات الفعليّة التي عندنا لنكون ممن يلتحق بهذا الركب.

ما معنى داعي الله؟ ولأي شيء يدعو؟ ما معنى التلبية؟ كيف نلبي؟

هذه المفاهيم مترابطة ومنظمة، وعدم معرفة معانيها يجعل الإنسان يتوهم ويخلق في ذهنه طرقا يتصور أنها موصلة للارتباط بالإمام الحسين، في حين أنه بعيد عن ذلك.

معنى “داعي الله“:

إن “الداعي لله” يمارس وظيفة ودورا مهمّا وشريفا، لكن هذا الدور عملي، دعوة بموقع ووظيفة ودور، أضرب لذلك بعض الأمثلة:

دعوة إبراهيم (ع): ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ الحج: 27. إبراهيم كان يدعو إلى الحج، لا أنه يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما إلى حج بيت الله. نعم الدعوة إلى بيت الله تنتهي إلى الدعوة إلى الله، لكن وظيفة إبراهيم أن يدعو إلى بيت الله سبحانه وتعالى.

دعوة المؤذّنفي الصلاة عندما يقول المؤذّن “حي على الصلاة” فنحن نستجيب. المؤذن هنا هو داعي، لكنه يدعو إلى أمر عملي هو الصلاة، وعندما يقول حي على الصلاة فهو إشعار بالمسؤولية تجاه دور ووظيفة، ولذلك ورد عندنا في الرواية أن من أخر طهوره حتى ظهور الوقت فقد استخف بصلاته، وفي الرواية لا تنال شفاعتنا مستخفّا بالصلاة(٢)

الدّعوة إلى سبيل اللهأحيانًا تكون الدعوة أعم من ذلك، وفي المقابل التلبية أعم أيضا، فلا تكون الدعوة للقيام بوظيفة عباديّة معينة منحصرة، وإنما تكون الدعوة إلى سبيل الله سبحانه وتعالى. ففي ضمنها الدعوة للصلاة والدعوة للصيام والدعوة للحج والدعوة للأخلاق والدعوة للاعتقاد بالعقائد الحقّة والدعوة لمحاربة الباطل، هذه كلها باسم الدعوة في سبيل الله، و ليس بإمكان أيّ شخص أن يقوم بهذا الدور.

في روايةقَالَ (ص): (أَوْحَى اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ ع لَا تَجْعَلْ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ عَالِماً مَفْتُوناً بِالدُّنْيَا فَيَصُدَّكَ عَنْ طَرِيقِ مَحَبَّتِي فَإِنَّ أُولَئِكَ قُطَّاعُ طَرِيقِ عِبَادِيَ الْمُرِيدِين)(٣)وهذا يعني أنّه ليس أي عالم يدعو تقبل دعوته. بل انظر هو متعلق بأيّ شيء؟ فإن كان متعلقا بالدنيا ومتصلا بالدنيا، فإنه سوف يدعو إلى الدنيا، هذه الدعوة سوف تصد عن الله سبحانه وتعالى، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. الذي لا يعرف الله سبحانه وتعالى كيف يعرِّف الله سبحانه وتعالى للآخرين، الذي لا يعرف كيف يؤدي الصلاة بحضور قلب وخشوع وتوجه لله، كيف يدعو الناس إلى ذلك؟!

طرق الدعوة إلى الله سبحانه:

بما أن الدعوة سلوك عملي ووظيفة ودور يقوم به الإنسان إذن هي تحتاج إلى دستور وإلى بيان وتوضيح. الله سبحانه وتعالى يقول لرسوله صلوات الله وسلامه عليه﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ النحل: 125.

الطريق الأولالحكمة والبرهان

الاستدلال البرهاني العقلي على وحدانية الله سبحانه وتعالى، على النبوة، على اليوم الآخر، على القيم

إذا قرأتم الروايات عن الأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في هذه المهارة، تجدون أنهم ما بينوا برهانا لأحد إلّا وحل الإيمان في قلبه ورسخ المعتقد، لأنهم صلوات الله عليهم قد أحكموا هذه الطريقة.

هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله ومن حوله كانوا أعرابا وليسوا متعلمين ولم يكونوا يعرفون طريق الحجة والبرهان، ولكن مع ذلك رسول الله كان يدعوهم بالحكمة، يقول صلى الله عليه وآله (أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِم‏)(٤) أي أن كل إنسان يكلمه رسول الله بأقصر الحجج والبراهين التي يتقبلها ويفهمها ويستوعبها.

الطريق الثانيالموعظة الحسنة

بعض القضايا ربما ليست في وادي البراهين والحكمة، فهي لا تحتاج إلى التركيز الذهني، بل تحتاج إلى الموعظة، التي هي تحريك النبوغ العاطفي والتميز الإحساسي لدى الناس. هناك أناس حسهم عميق و جيد، ولكن هذا الحس – الذي هو بمثابة رأس المال – لا يصرف في منافعه الأساسية، بل ينصرف في قضايا و تحسّسات اجتماعية خاصة به، في حين أن المفترض أن تصرف العاطفة النورانية في الموعظة والاتصال بالله سبحانه وتعالى. أمير المؤمنين (ع) حين يتكلم عن الدنيا فإنه يمثلها بالوباء، والوباء غير المرض، الوباء هو المرض الذي يترك أثرا على بدن الإنسان، مثل الجدري. فالدنيا لا تمرض الإنسان فقط، بل تذهب ماء وجهه إذا تعلق بها، وحتى وإن أمكن علاج ذلك فإن أثره باقِ.

وفي مورد حديثه عليه السلام عن الدنيا يصفها بـ (اللماظة) وهي بقايا اللحم بين الأضراس، فيقول (أَ وَ لَا حُرٌّ يَدَعُ هَذِهِ اللُّمَاظَةَ لِأَهْلها)(٥) مثل هذه العبارات من شأنها أن تجعل نفس الإنسان الحر تنفر من الدنيا، فالحر لا يقبل بتلك اللماظة، ولا يلهث وراء شهوات الدنيا.

المواعظ من هذا القبيل تحرك مشاعر الإنسان ذو النبوغ العاطفي. لذا كان من أحد أساليب الدعوة القدرة على تحريك العواطف والشعور الذي هو رأس مال الإنسان. يجب أن يتحول هذا الشعور إلى سلاح للحرب مع الشيطان و حرب مع الدنيا بدلا من صرفه في الخلافات مع الآخرين.

الطريق الثالثالجدال بالتي هي أحسن

وهو لمن لديه بعض المعلومات أو الحقائق المسلمات ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. وفي الجدال اشترط أمراً لم يشترطه لا في الحكمة ولا في الموعظة، وهو الجدال “بالتي هي أحسن“.

لأن من الناس من يجادل ليس لغرض الوصول إلى الحقيقة، بل ليصل إلى النتيجة التي يبتغيها، أو لمجرد اللجاج. لأنه لو كان الغرض الوصول للحقيقة لتوقف عن الجدال عند أول دليل. وهذا النوع من الجدال يجر إلى التسافل في المستوى العلمي والمستوى الأخلاقي إلى أن يجر إلى الخلافيقول امير المؤمنين (ع) (ِيَّاكَ وَمَذمُومَ اللَّجـاجِ فإنّهُ يُثِيرُ الحُرُوبَ)(٦)

من هنا اشترط في الجدال أن يكون بالتي هي أحسن. فيكون الجدال بالمسلمات عند الآخر، ثم بعد إثبات المسلمات تأتي مناقشة الحقائق الثابتة الواضحة البينة، وعدم البدء بالمسلمات يجعل المجادل غير مستعد لفهم أو قبول الحقائق، بالتالي لن تصل معه إلى نتيجة ولن تهديه إلى حقيقة و إلى سبيل الله سبحانه، بل إلى سبيل الشيطان.

كل هذا الكلام في الدعوة إلى الله، ولكن الحسين ليس داع إلى الله فقط، بل الحسين داعي الله.

مالفرق بين الداعي إلى الله وداعي الله؟

الداعي إلى الله” هو من يدعو إلى الله سبحانه بعمله، أما” داعي الله “فهو يدعو إلى الله بذاته، وحقيقته هي دعوة الله سبحانه.

هنا نوعان من الإضافة:

الأولىالإضافة إلى الله (الداعي إلى الله)، الداعي مضاف إلى الله بإذنه، ﴿وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً﴾ الأحزاب: 46.

الثانيةالإضافة الإشراقية، تتمثل في (داعي الله)، وهو أعلى من الذي يدعو لبيت الله، ومن الذي يدعو إلى سبيل الله، وأعلى من الذي يدعو للصلاة، لأن ذاته هي دعوة الله. هو داعي الله فليس وراءه شيء غير الله، من اتصل به وصل إلى كل شيء، والحسين عليه السلام هو داعي الله!

الفرق بين الإضافة الإشراقية ونسبة الإضافة لله سبحانه:

في الإضافة يكون هناك داع، ودعوة، ومدعو إليهأما في الإضافة الإشراقية هناك فقط داع، وبمجرد الوصول إلى الداعي تكون قد وصلت لله، (َعنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) مَا لِمَنْ زَارَ قَبْرَ الْحُسَيْنِ (ع) َالَ كَانَ كَمَنْ زَارَ اللَّهَ فِي عَرْشِه)(٧) فالذي يحب الإمام الحسين عليه السلام فقد وصل لكل شيء.


١. بحارالأنوار ج 98 ص 336
٢. الكافي 3 : 270 | 15
٣. الكافي ج 1 ص 46
٤. من‏لايحضره‏الفقيه ج 1 ص 240
٥. بحارالأنوار ج 1 ص 144
٦. غرر الحكم
٧. مستدرك‏ الوسائل ج10 ص 185

 

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 5 / 5. عدد التقييمات 1

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 99٬208 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (2)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها