جهاد زينب كلمة حق:
حديثنا حول المقارنة بين كربلاء ومعركة الأحزاب. وقلنا أن هناك أوجه شبه كثيرة بينهما، وإن خروج السيدة زينب عليها السلام من المخيم بعد سقوط الإمام الحسين عليه السلام ليس بكثير أن نقول عنه: (خرج الإيمان كله للكفر كله) كما كان خروج أبيها أمير المؤمنين لعمرو بن ودّ في الأحزاب.
الإسلام يوسّ
ع مفهوم الجهاد، ويخرجه من الدائرة الضيّقة للمقارعة بالسيف، ويجعل القيمة للجهاد وليس للحرب، ومن هنا نحن نضع جهاد أمير المؤمنين عليه السلام في قبال جهاد السيدة زينب عليها السلام، لأنها أدت أفضل وأكمل أنواع الجهاد وهو
(كلمة حق أمام سلطان جائر) جهاد زينب عليها السلام كان جهاد الكلمة والإعلام في مواجهة الطغاة.
تحدثنا عن الخلل وعن نقاط الضعف التي لحقت بالمعسكر الإسلامي في الأحزاب. وبنظرة تجاه كربلاء سنرى الإمام الحسين عليه السلام و منذ خروجه من المدينة حتى وصوله إلى كربلاء كان يقوم بعملية تطهير جيشه ومعسكره فرداً فرداً، فأخرج بطريقة سلسة و طبيعية كل من لم يكن مؤهلا، حتى أصبح جيشه يمثل فعلا التوحيد كله مقابل الشرك والكفر والإلحاد كله.
وإذا أردنا أن نتعرف على خصائص من التحق بمعسكر التوحيد مع الإمام الحسين عليه السلام فعلينا أن نتعرف أوّلا على خصائص الطرف الأخر الذي تخلى عن الإمام ونقف على نقاط ضعفه، وكل ذلك يتضح جليا من خلال سورة الأحزاب، فالسورة تصنف المناوئين لجبهة التوحيد وتكشف عن بواطنهم.
الذين شهدوا كربلاء كانوا على علم بتفاصيل معركة الأحزاب، فلم يكن بين المعركتين أكثر من ثلاثين عاما، وكانوا يدركون تماما مفصلية معركة الأحزاب في واقع الرسالة الإسلامية، وهو ما وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله (اليوم تغزونهم ولا يغزونكم).
كما حسمت ضربة علي عليه السلام معركة الأحزاب، فقد حسمت زينب عليها السلام معركة كربلاء وحققت النصر الذي يمتد ويتّسع على مرّ الزمان، غير أن سلاحها لم يكن آلة حرب بل قوة الكلمة.
إن كلمة الحق في وجه السلطان الجائر تفتح الطريق، وتزيل حواجز الرعب والخوف المهيمنة على المجتمع. وإذا كان الطاغي يواجه من يرفع عليه السلاح برفع سلاحه، فإن كلمة الحق في وجهه تسحقه وتفنيه.
وكمثال من واقعنا المعاصر فإن صدام الطاغية فشلت كل محاولات اغتياله على كثرتها، لكن كلمة الحقّ التي أعلنها في وجهه الشهيد الصدر وأخته الشهيدة بنت الهدى سحقته، وخلدتهم رمزا للجهاد والتضحية والحرية.
وهذا التوسع لمفهوم الجهاد في الإسلام يحمّلنا مسؤولية الكلمة، فالكلمة مؤثرة في نصرة الحق، كما هي مؤثرة في ضرب الحق فهناك من لم يواجه الإمام الحسين عليه السلام بالسلاح بل بالكلمة، وأثرُ التثبيط في عرقلة مسيرة الحق لا ينكر.
سورة الأحزاب تفصّل لنا هذا المشهد، فتقف على نقاط الضعف التي تؤدي إلى محاربة الحق، وتبيّنها عن طريق حكايتها لما يجري على ألسنة أولئك المنافقين والمثبطين، فلنستنطق السورة:
﴿وإذ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾ [الأحزاب: 10-11]
فلقد تعرض المؤمنون -وليس المنافقون وضعفاء الإيمان فقط- لزلزلة شديدة، والزلزلة هي حالات روحية متتالية تؤدي للانحدار في مستوى الإيمان وضعف الالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وآله.
هذه الزلزلة جعلتهم يظنون بالله الظنون، وهنا تكمن المشكلة، فالمشكلة الأساسية هي عدم معرفة الله سبحانه، والنقص في التوحيد، هذا الظن ناتج عن عدم التسليم بأن النصر منحصر في الله فقط، وعن عدم فهم مالكية الله سبحانه ونفود التوحيد في كل أرجاء الوجود.
﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ..﴾ [الأحزاب: 12]
المنافقون شريحة مذمومة معروفة، والمنافق هو من دخل في الإسلام من حيث الظاهر فقط، لكن هناك شريحة (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) وهي حالة قابلة للعلاج، لكن ما معنى في قلوبهم مرض؟
المرض العضويّ حالة تسلب الإنسان التعادل في بدنه، وكذلك المرض الروحي والفكري والعقائدي، فهو يسبب حالة من عدم التوازن، ويسلب جزءاً من الهوية، وبالتالي لا يعود صاحبه يملك ميزانا دقيقا.
﴿وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا﴾ [الأحزاب: 13]
لماذا قالوا يا أهل يثرب؛ والحال أن النبي عندما دخل يثرب سماها المدينة ونهى عن تسميتها بيثرب؟
لكي نعرف ذلك دعونا نمر بأصل التسمية، هناك قولان في ذلك:
- أن أول سكن المدينة هو يثرب بن عبيل.
- أنّ الاسم مشتقّ من (الثرْب) وهو اللوم والتوبيخ والتأنيب، ومنه ﴿.. لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ..﴾ [يوسف: 92] وهذا القول أرجح.
لا شك أن الصراعات والخلافات بما فيها من لوم وتوبيخ تخلّف الضيق الشديد، ونحن نعلم أن الأوس والخزرج ظلوا يتقاتلون سنوات طويلة، وقد أثر ذلك على التركيبة الاجتماعية، فكانت يثرب منطقة ثقيلة – إن صح التعبير – ولكن عندما دخلها رسول الله (ص) حولها إلى (مدينة) أي إلى المدنية والحضارة وسيادة القانون والأخلاق، وهذه من أسباب سعادة الإنسان وسلامته في الدنيا والآخرة.
لقد استخدم المنافقون كلمة (يثرب) بقصد التقليل من جهود رسول الله، فكأنهم بذلك يريدون أن يقولوا للرسول (ص): أنت لم تفعل شيئا فكل جهودك.. خطبك.. تعليماتك.. ليست إلا غرور، وأنّ الهويّة التي أعطيتها للمدينة ليس لها قيمة وما هي إلا خداع. لقد قصدوا بقولهم
﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾ أن هذه الحرب خطأ، ومقامكم وخروجكم و طاعتكم لرسول الله (ص) خطأ!
والجدير بالملاحظة استغلال الشعارات الاسلامية وضرب الإسلام بالإسلام
﴿..يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا﴾ هؤلاء عندما أرادوا الفرار تذرّعوا بأعلى القيم في الإسلام وهي (الأعراض) عبر الإيهام بأن هذه القيمة معرضة لخطر الهتك في حال بقائهم للجهاد، إن مثل هذا الشعار حين يرفع بحضور مجموعة من المسلمين أصحاب هوية توحيدية ناقصة فهو بلا شك يعد شعارا مؤثّرا! ومع أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان قد اتخذ كل الاحتياطات وجمع كل العوائل وجنّبها مناطق المواجهة ووضع عليها حراسة، إلا أنهم اتخذوا هذه الذريعة للفرار والله هنا يكشف بواطنهم.
﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا﴾ [الاحزاب: 14]
فهم في الأصل ليس لديهم استعداد للتفكير في كلام الطرف الآخر، ولا تقييم الإعلام الآخر، حتى يميزوا الصالح من الفاسد، بل إنّ مجرد الإشاعات والتخويف والترهيب كفيل بسلب إيمانهم وعقيدتهم.
﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلا﴾ [الاحزاب: 18]
المعوقون صنف آخر غير صنف ضعيفي الإيمان والذين في قلوبهم مرض، فالمعوقون لا يتقدمون بأنفسهم وأيضا يصدّون غيرهم عن التقدم، والسبب:
﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [الأحزاب: 19]
الشح والبخل من الصفات الأساسية التي تسبب الأمراض الروحية، وهو ليس مطلق الشحّ بل هم
﴿أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾ تحديدا، ومعناه أنك تجد أحدهم -مثلا- مستعدا لإنفاق مبلغ كبير في سفرة سياحية، ولكنه غير مستعد لإنفاق
عُشر هذا المبلغ في عمل الخير، فهو ليس شحيحا بكل شيء، بل شحيح في الخير فقط!
ولكن لماذا
﴿تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾؟ ذلك لأن حالة الإنسان الروحية تنعكس على بدنه، وحالة بدنه تنعكس على روحه، فالضعف في الإيمان والمعتقد يبرز بشكل تخاذل وجبن في المواجهة.
وفي مقابل أولئك تعرض الآية صورة على النقيض
﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا﴾ [الأحزاب: 22- 23] فعندما رأى المؤمنون الأحزاب بكثرتهم وعددهم، ومع وجود المنافقين والقلوب المريضة قالوا
﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ أي هذا ما كان رسول الله يتكلم عنه، وهذا هو التطهير الذي كان الوحي يدعو رسول الله للقيام به
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ..﴾ [الأحزاب: 1] أي طهر هذا الواقع من الشرك والضعف والانحراف وأسّس الحضارة الإلهية. إن ردة فعل هؤلاء المؤمنين كانت معاكسة تماما لظاهر ما يفرضه الظرف، لأن الهوية صادقة وكاملة والقلب والعقل مليئان بتوحيد الله سبحانه وتعالى ولذلك
﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾.
نجد في وسط الآيات آية مهمة واعتقد أن فهمها هو خلاصة هذا الحديث، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]
فلماذا جاءت وفي هذا الموقع؟ وما سر هذه الآية؟
القرآن ذكر نموذجين للتأسي فقط هما:
- نبي الله إبراهيم عليه السلام ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ..﴾ [الممتحنة: 4]
- رسول الله صلى الله عليه وآله, في هذه الآية ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..﴾
لا شك أنه لا غنى عن الأسوة الكاملة، فمجتمع بلا أسوة ليس له مستقبل، وإنسان بلا أسوة لا يمكن أن يستقيم، وأسوة غير رسول الله لا بد أن يعتريها نقص ما، لذا فالإنسان بحاجة لقدوة متأسية تأسيا كاملا برسول الله، تضع قدمها حيث وضعها رسول الله صلوات الله عليه، وليسوا سوى أبناء فاطمة وعلي صلوات الله عليهم.
ولذلك جاء بعد هذه الآية قوله تعالى
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِر وما بدّلوا تبديلاً﴾ فليس كل من آمن صدق، وليس التأسي برسول الله بمقدور كلّ أحد، فالتأسي به صلى الله عليه وآله درجات، وأعلى من يحقق التأسي برسول الله ويخرج ليمثل الإسلام كله في قبال الكفر كله هو الإمام الحسين، وأجدر من يؤدي أعلى مراتب الجهاد وهو إعلان كلمة الحق في وجه سلطان جائر هي السيدة زينب (
ع).
لقد تدارك الإمام الحسين والسيدة زينب عليهما السلام كل نقاط الضعف الموجودة في معركة الأحزاب، وطهروا هذه الثلة التي التحقت بهما، فهما فعلا من يستطيع التأسي الكامل برسول الله صلى الله عليه وآله.
ولذلك التفاوت بين الأحزاب وكربلاء أن كل نقاط الضعف أزيلت في معسكر الحسين عليه السلام، من قبل من استطاع أن يتأسى برسول الله تأسيا كاملا، وتمكن من القيام بعملية التطهير.
وإذا كانت ضربة علي تساوي عمل الثقلين فإن سبي زينب عليها السلام كان علاجا لمرضى القلوب، والغارقين في الملذات، المتبعين للشهوات، الطالبين للسلامة.
مرتبط
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يوجد محاضرات قيمة للاستاذة الفاضلة ولكن غير موجودة في الموقع مثل محاضرات قدم صدق و محاضرة ان الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة والكثير من المحاضرات القديمة ولكن غير موجودة حاليا