تقدم القراءة:

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ٣

الجمعة 5 أغسطس 2022مساءًالجمعة

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

3.8
(4)

أعظم الله أجورنا وأجوركم بشهادة سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين ﴿؏﴾، والثلة الطيبة معه من أنصاره وأهل بيته.

ما إن تحضر كربلاء، إلا ويقترن معها حضور عقيلة الطالبيين زينب بنت أمير المؤمنين ﴿؏﴾، حفيدة النبي الأكرم ﷺ وآله، التي تكسُر قيود التاريخ والزمان والمكان، وتتجلى للمؤمنين وإن لم يكونوا قد رأوا من أحوالها شيء، ونكاد لا نجد شبيهًا لهذا المحضر الوجداني لعقيلة الطالبيين ﴿؏﴾ في قلب الأمة أقرب من حضور الله ﷻ في قلوب أوليائه الكُمَّل، فقلوبهم وعقولهم وسلوكهم مشدودة إليه ﷻ، وقد شغلهم عما سواه كما يعبر القرآن الكريم:  ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّه﴾ النور: ٣٧، فهم التامِّين في محبة الله ﷻ، فنوا كاملًا في محبته ﷻ؛ إذ أن كل ذرات قلوبهم مليئة بذكره ﷻ.

كذلك فإن هذه المرأة الجليلة والتي صُنِعت في أحضان الإسلام وفي بيت الرسالة بواسطة جدها ﷺ وآله، وأمها وأبيها وأخويها ﴿؏﴾؛ فهي تَشغَل قلوب المؤمنين والمؤمنات عما عداهم.

رضا العقيلة ﴿؏﴾ هو باطن الشريعة وحقيقتها

إن من الثابت أن أولياء الله ﷻ لا يفعلون شيئًا إلا عن أمره وإرادته؛ وكذلك شيعة علي ﴿؏﴾ ومحبيه، لا يفعلون في هذه العشرة أيام إلا ما تريده عقيلة الطالبيين ﴿؏﴾، فهم يأتمرون بأمرها، ويطلبون رضاها.

ونحن هذا الجيل قد خبرنا هذه الأحوال؛ فإذا قال أهل العلم المتبحرون في العرفان والمتخصصون فيه أن أولياء الله لا يكتفون بظواهر الأحكام الشرعية، وإن كانوا هم أولى الناس التزامًا بها، ولكنهم يرونها ممرًا ومعبرًا؛ يضمن وصولهم إلى إرادة الله ﷻ ورضاه، وكل هذه الهمة العالية لديهم؛ كونهم يريدون أن يصلوا من الشريعة إلى الحقيقة، أيّ إلى باطن ومؤدى وغرض الشريعة الغراء.

والشريعة في اللغة هي مورد الناس للاستقاء، والإنسان إنما يذهب للشريعة كي يستقي الماء، فالماء هو المطلوب بالذات، والشريعة معبرًا له، وإذا ما أردنا أن نطبق هذا المثال على حال الموالين من الشيعة الصادقين والمحبين لرسول الله ﷺ وآله ولأمير المؤمنين وللصديقة الزهراء ﴿؏﴾، وللحسنين ولعقيلة الطالبيين (ع)؛ فهذا حال المريدين والمتألهين في البحث عن رضا الله ﷻ.

وهكذا حال مريدي العقيلة زينب (ع) من الذين يبحثون عن رضاها، فلو سألت أيّ واحد من هؤلاء المؤمنين؛ هل جاء ليبكي على مصابها؟! فسيقول لك: إني طامع في رضاها، ولكن هذا البكاء هو الطريق الذي حدده ورسمه لنا رسول الله (ص)، والأئمة المعصومين ﴿؏﴾؛ أيّ هو الشريعة، إذ أن رضاها (ع)، وما تريده هو باطن الشريعة ومضمونها، فالبكاء ليس الموقف النهائي، وإن كان مقامًا عاليًا؛ لأن الإنسان إنما تحدث له حالة البكاء عندما ينقبض؛ بسبب فقدان شيءٍ لصيقٍ به، قريب منه، ومتحد معه في جهة من الجهات، فالإنسان مثلاً لا يبكي على عدوه الذي يُضاده ومنقطع عنه، كما إنه لا يبكي على شيء لا علاقة له به من الأصل والأساس، أو لا يربطه به أيّ عنوان من عناوين البكاء، فإنما قيمة البكاء هو بمقدار ما هو كاشف عن القرب والالتصاق والاتحاد.

والروايات الشريفة والكثيرة تشهد على أن السموات والأرضين، والحيتان والبر والبحر، والحجر والمدر، كلها بكت على مصاب أبي عبدالله الحسين (ع)، (١) والإنسان ليس بأقسى من كل تلك الموجودات، فكل الموجودات مرتبطة بالإمام الحسين (ع) وتبكيه، ويصدق البيت الشعري في حال الإمام الحسين (ع):

إلهي تركتُ الخلق طُرًّا في هواكَ‏ وأيتمْتُ العيالَ لكي أراكَ‏
  فلو قطَّعتَني بالحبّ إرْباً  لَما مالَ الفؤادُ إلى سواكَ (٢)

 

فكل الخلق ملتصق بالإمام الحسين (ع)؛ ولذا فعندما يستشهد الإمام الحسين (ع)؛ فإن كل الخلق ينقبض “لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت  بأهلها” (٣)

وهذا كما يقال من مفاد الروايات وتفسير الآيات من مداليل قوله ﷻ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ۞ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ۞ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ۞ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ۞ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَت﴾ التكوير: ١-٦

﴿ِإذَا ٱلسَّمَاۤءُ ٱنفَطَرَتۡ ۞ وَإِذَا ٱلۡكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَت ۞ وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ فُجِّرَتۡ ۞ وَإِذَا ٱلۡقُبُورُ بُعۡثِرَتۡ﴾ الإنفطار: ١-٤

فإذا خرج الإمام (ع) فكل الموجودات على وجه البسيطة تتغير أحوالها، ولا تبكي فحسب؛ فالذي يُثّبت وجودها هو الإمام (ع)، وهذا مما يُعدّ كشاهد على كون حالة البكاء، هي حالة مخففة من هذا الانقطاع عن الإمام (ع).

ولكن البكاء ليس هو الحدّ التام الكامل للإنسان للتعبير عن هذه الحالة من الحزن والانقطاع عن الإمام ﴿؏﴾؛ فالإنسان يفوق كل هذه الموجودات إدراكًا ووعيًا، إن البكاء هو أرضية ومرفأً لفتح الطريق، وشرعة لإدراك القلب والعقل من أجل أن تحلِّق النفس إلى مقامات أخرى، ومرتبة فيها رضا العقيلة وإرادتها (ع)؛ لتغدو النفس كما تريد وترضى مولاتنا السيدة زينب (ع).

وهذا مما قد شاهدناه في زماننا، وهنا نقِيم شاهدين على ذلك:

وقد أشرنا لهم في وقت سابق (٤)، ولكننا نجد إن هذا تأسيس ضروري للدخول في مطلب هذا العام 

الشاهد الأول: أينما تولي وجهك؛ فثمة زينب (ع)

ربما لا نجد في تاريخ النساء امرأة استقطبت الوجدان الاجتماعي، وتحكمت به واستحضرته في قضيتها -خصوصًا المجتمعات الواعية- بنحو دائم؛ كما هي زينب الكبرى (ع) بطلة كربلاء، فنحن نلحظ أن هناك أمر يفوق الأحوال الطبيعية والاعتيادية لحضور العقيلة زينب ﴿؏﴾ في الخطابات الحسينية؛ وإذا ما تأملنا في الأمر، ودققنا فيه؛ سنجد أن المسلمين ليسوا هم الأكثر على وجه الأرض، والشيعة أقل من سائر المسلمين، والعلماء والمفكرين والمحللين، والشعراء والأدباء وأهل القلم، وأهل الإمكانيات العلمية، هم الشريحة الأقل من الشيعة؛ وأيضًا من جانب آخر فإن السيدة زينب بنت أمير المؤمنين (ع)؛ ليست المرأة الوحيدة التي سُبِيت في كربلاء؛ ولكننا رغم كل ذلك نجدها ﴿؏﴾ الحاضرة في كل كربلاء وبكل مفاصلها الدقيقة، وفي كل الخطاب الحُسيني بكل المعايير، مع تنوع تلك المواسم والمراسم وتعددها في شأنية السيدة زينب ﴿؏﴾؛ سواءً أكان الخطاب علميًا، معرفيًا، فكريًا، تحليليًا، أو شعريًا، أم شعوريًا، أو عاطفيًا؛ وسواء أكانت المراسم فنية، أو كتابات، وتأليف، وخطب، وأشعار، ونثر، أو كانت صروح كبناء الحسينيات، والجامعات، والمراكز، أو تشييد الروابط وبناء العلاقات الاجتماعية.

فزينب (ع) هي المرأة الوحيدة التي تفاعل معها المجتمع الإنساني بشكل شعوبي؛ بكل ما للكلمة من معنى؛ فأينما تولي وجهك صوب كربلاء فثمَّة زينب ﴿؏﴾.

ويكفينا شاهد على ذلك؛ ردة فعل الوجدان العملي المترتب على وعي وإدراك الوجدان الديني؛ فالوجدان الديني يرى أن زينب ﴿؏﴾ قد أحسنت للإمام الحسين (ع)، والله ﷻ يقول: ﴿هَلْ جَزَآءُ ٱلْإِحْسَٰنِ إِلَّا ٱلْإِحْسَٰنُ﴾ الرحمن:٦٠، ونحن نعلم أن ﴿جَزَآءُ ٱلْإِحْسَٰنِ إِلَّا ٱلْإِحْسَٰنُ﴾ ليس حكمًا شرعيًا، بمعنى ليس الذي فعل لك الإحسان يتوجب عليك شرعًا أن تحسن إليه؛ فهذا ليس أمرًا مولويًا، إنما هو إرشاد إلى حكم العقل العملي؛ فالذي يأمر بالإحسان لمن يُحسن له هو الوجدان والعقل العملي.

فزينب (ع) أحسنت بكل ما قامت به وقدمته، على وجه تام وكامل، فهي تامة في محبة الله  وذكره ﷻ، وتامة في محبة الإمام الحسين ﴿؏﴾، وتامة في أداء وظيفتها وتكليفها الشرعي، وتامة في القيام بدورها الاجتماعي، وتامة في إيصال الناس إلى هداهم، فلقد أحسنت في كل شيء؛ ولذا جاءت وتولدت ردة فعل لدى الوجدان (المجتمعي) الواعي، فلا يُجازى الإحسان إلا بالإحسان. 

وهذا الوجدان وسّع كثيرًا في التعامل مع كربلاء وامتداداتها في المجتمعات الإنسانية، إذ لا يوجد امرأة أخذت موقعًا استثنائيًا في المنابر والمجالس، واحتلت جزءًا كبيرًا من الضمير الإنساني كزينب بنت أمير المؤمنين ﴿؏﴾، بل إذا ما قسنا الحال مع أمها الزهراء (ع) وهي سيدة نساء العالمين، قد نجد هناك من قد يشكك في أبعاد مظلوميتها (ع)، ويحاول التخفيف من قبح ما وقع عليها من القوم؛ لكن الحال مختلف مع العقيلة زينب ﴿؏﴾ اذ لا نجد هذا كائنٌ، فلم ولن يكون، ولن يقبل ويرضى المجتمع الإنساني بالتخفيف من هول ما جرى وعظيم المظلومية، أو النظرة بسطحية لمصاب السيدة زينب (ع) بأيّ حال من الأحوال.

فالضمير الإنساني وما يجمع الإنسانية، والعقول والأرواح المتباينة، لا ترضى بالتعامل في شأن السيدة زينب (ع) بما ترضاه لغيرها؛ فهي امرأة استثنائية.

الإرشاد الضميري الاجتماعي العملي والإرشاد الوجداني

وشاهد على ذلك، نجد أننا في عاشوراء الحسين ﴿؏﴾، وقد خصص المنبر الحسيني كل ليلة ويوم من المحرم لأحد أبطال كربلاء، فيومٌ للعباس، ويومٌ للقاسم، ويومٌ للأكبر، ويوم لرقية، وآخر لعبد الله الرضيع ويومٌ للأنصار ﴿؏﴾؛ وإذا أردنا أن نحلل تلك الظاهرة؛ سنجد أن كل الأحداث والتي نحن نقسمها على العشرة الأيام هي أحداث متداخلة، وقد حدثت في وقت واحد، فمن الذي قسمها وبأيّ أمر؟ ومن الواضع والمرجع لهذه الظاهرة؟

ففي طوال العشرة أيام والتي وُزِّعت وتُوسِّع فيها بهذا النحو، فإن ذات هذا الإرشاد الوجداني أضاف إلى هذه التقسيمات إرشاد وتوجيه آخر؛ وهو حضور العقيلة (ع) زينب بنت أمير المؤمنين ﴿؏﴾ بالاسم والعمل والأوصاف، مع كل فرد من أفراد تلك الكوكبة، لذا نجد عند الحديث عن القاسم أو حبيب بن مظاهر، أو عبد الله الرضيع، أو غيرهم من أبطال كربلاء، لا بدّ من ذكر زينب (ع)، فهي الحاضرة مع هذا التوسع، وفي كل يوم من الأيام وليلة من الليالي.

فما الذي دلَّ الوجدان على هذا الاستحضار؟ وكيف كان؟ وكيف فُككت مواقفها ﴿؏﴾؛ بحيث يصبح لها في كل يوم حديث، ويعمّ تأثيرها.

إنها ردة فعل للوجدان الواعي المتفاعل، وهو موقف تفاعلي وعملي وقويّ وواعٍ مع كربلاء، وبالطبع إن هذا الموقف لم يأتِ من خلال نصّ ولا أمر من قبل الله ﷻ، ولا من قبل المعصومين ﴿؏﴾؛ ولكن هذا التوزيع وهذا الإرشاد، وبهذا النحو وهذه الكيفية الحاضرة وبشدة؛ هو إرشاد ضميري اجتماعي عملي، أضف إلى ذلك هناك إرشاد ثانٍ أيضًا وهو إرشاد وجداني، وهذا الدليل لا يوجد عليه دليل، لكن الوجدان يستبطن الدليل الموجود في الخارج.

وكأن عقيلة بني هاشم (ع) قد بَنَت فوق كل نظام الدنيا بناءً لا ُيدرك أمده، بَنَته على الوجدان والضمير الاجتماعي، وعلى هذا يمكن أن نفسر قولها (ع) ليزيد -عليه لعائن الله-: “لَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا” (٥) لأنه ليس هناك في الخارج من شيء كي يستطيع أن يقضي عليه، أو يدركه، إنما هو بناءٌ شامخٌ  في الوجدان، وفي الضمير الاجتماعي، وهو أحد أسباب تثبيت هذه الثورة، وأحد غاياتها، وهذا الدور للسيدة زينب (ع) هو أحد غايات ثورة الإمام الحسين (ع)، فإن احتواء الضمير الاجتماعي وترشيده، وتوجيهه، وتعليمه، وتحديد وظيفته، ووضعه على الشريعة، كي يصل إلى باطن الحقيقة.

إن الضمير إذا أحب وتعلق بحقيقة، فإنه يَفِي ويقوم بواجبه وبوظيفته على أكمل وجه؛ ولذلك نجد الطغاة يخافون من هذه الضمائر الحيّة، ويتعاملون معها بحذر تام. 

الشاهد الثاني: كل المناسبات ولدت بالتبع لإحياء كربلاء، وزينب ﴿؏﴾ حاضرة 

إن تاريخ المنبر الموالي يشهد أن إحياء جميع مناسبات أهل البيت (ع)، كمولد وشهادة رسول الله (ص)، ومولد الأمير وشهادته والغدير، كلها قد ولدت بالتبع لإحياء واقعة كربلاء، فالأصل إن الشيعة كانوا يقرأون في كل المناسبات على الإمام الحسين (ع)، وأحداث كربلاء والتي تُحضَّر فيها زينب (ع). 

أما ظاهرة الفصل بين المناسبات فتعدّ ظاهرة جديدة ما يقارب المئتين سنة أو أقل، وهي من أثر البكاء على الإمام الحسين (ع)؛ حيث انجرت إلى البكاء على رسول الله (ص).

ويمكن القول هنا؛ إن هذا تدخل من الذهن الإنساني، وهذا نظام واقعي حقيقي في عالم المعاني؛ فالذهن يبدأ من معنى محدد، ثم يبسط هذا المعنى ويفصله، ومن ثم ينتقل من الأصول إلى الفروع، وكما يعبرون عنه التجوز من الحقيقة إلى المجاز، وهذا لا يكون دون ميزان أو معيار، بل له سياقات موضوعية، ومناسبات معينة، وهو نشاط القلب، -فالقلب والوجدان لهما نشاط وفاعلية-؛ لأن القلب والعقل كي يحكم على الأمور المتشابهة بحكم واحد في ما يجوز وما لا يجوز؛ ينتقل من المعاني التي يجد بينها مشتركات.

 ويعود الفضل في كل ذلك للضمير والوعي والإدراك الاجتماعي النيّر، كما يعود كل ذلك بعد الحسين (ع) إلى عقيلة الطالبيين ﴿؏﴾، فهذه المرأة العظيمة والجليلة قامت بعمل عظيم وأدت دورًا اجتماعيًا استحقت به وبكل جدارة كل ردة هذا الفعل، وهذا الوفاء من قبل الناس  والمجتمع.

معرفة شأن العقيلة ﴿؏﴾ ودورها الاجتماعي ضمن رؤية قرآنية

وبالعودة لحديثنا في هذه الدورة العاشورائية حول الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ ومن زاوية ورؤية قرآنية نقول؛ فنحن لا نستطيع تفسير ما يتعلق بشأن السيدة زينب (ع)، فبعض الناس قد يكتب كتبًا أدبية جيدة، ولكنها في الحقيقة متأثرة بتصوراته هو فحسب.

أما تفسير ما هو في شأن المعصومين (ع)، أو في شأن السيدة زينب ﴿؏﴾ -والتي هي تلو المعصوم ﴿؏﴾-، لا مجال أن يترك العنان للذهن ولتصوراته كيفما أراد بحال من الأحوال؛ بل يجب أن يكون هناك ضابطة، وهو القرآن الكريم؛ فالسيدة زينب (ع) ربيبة القرآن الكريم، وربيبة علي وفاطمة ﴿؏﴾، وربيبة الحسنين (ع).

ونحن جميعنا مأمورون أن نكون للحسين ﴿؏﴾ شيعةً وأتباعًا ومؤيدين؛ ولكن لا يوجد من يسعه أن يرتقي لاتباع ومشايعة وملاحقة الإمام (ع) كما هي عقيلة الطالبيين زينب بنت أمير المؤمنين (ع)؛ فإنه وبمقتضى عقيدتها كانت تتبعه منذ نعومة أظفارها كما تشير إلى ذلك بعض التحقيقات والروايات والنقولات التاريخية؛ حيث  كانت تتبعه في كل شيء، وكأنها تطبق ما ورد في المناجاة ” المُتَقَدِّمُ لَهُم مارِقٌ وَالمُتَأخِرُ عَنهُم زاهِقٌ وَاللازِمُ لَهُم لاحِقٌ” (٦)؛ وهذا هو مقتضى عقيدتها (ع).

ولكنها وفي مثل هذه الليلة تبدأ مرحلة الوداع والانفصال، فما أبلغها حينما قالت  “ما توهمت يا شقيق فؤادي…. كان هذا مقدرًا مكتوبًا”(٧)، يقف أستاذنا الشيخ جوادي الآملي عند قولها (ع) هذا ويقول: فأنت عندما تفصل وتشق بين موجودَين حسيَّين ماديَين، فأنت لا تعلم بأيّ مقدار هم يتألمون، وأحيانًا قد تشق بين علاقتين وأيضًا لا تعلم بمقدار الألم، ولكن إذا كان المشقوق هو الفؤاد؛ فلك أن تتخيل شدة ذلك الألم والوجع، ولتذهب في ذلك كلّ مذهب.


  1. إن أول من أشار لتفاعل السماء مع مصيبة سيد الشهداء بالبكاء عليه دمًا عقيلة الطالبيين زينب (ع) حين جهرت بهذه الحقيقة في الخطبة التي القتها بالكوفة: «ويلكم أتدرون أي كبد لمحمد فريتم ، وأي دم له سفكتم، وأي كريمة له أصبتم ؟ ” لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، ولقد أتيتم بها، خرقاء شوهاء طلاع الأرض والسماء، أفعجبتم أن قطرت السماء دما؟! ولعذاب الآخرة أخزى» الأمالي – الشيخ المفيد – الصفحة ٣٢٣ وباختلاف بسيط في بعض الالفاظ اوردها الطبرسي في الاحتجاج: أَتَدْرُونَ وَيْلَكُمْ أَيَّ كَبِدٍ لِمُحَمَّدٍ (ص) فَرَثْتُمْ وَأَيَّ عَهْدٍ نَكَثْتُمْ،
    وَأَيَّ كَرِيمَةٍ لَهُ أَبْرَزْتُمْ وَأَيَّ حُرْمَةٍ لَهُ هَتَكْتُمْ وَأَيَّ دَمٍ لَهُ سَفَكْتُمْ‏ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ‏ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا لَقَدْ جِئْتُمْ بِهَا شَوْهَاءَ صَلْعَاءَ عَنْقَاءَ سَوْدَاءَ فَقْمَاءَ خَرْقَاءَكَطِلَاعِ الْأَرْضِ أَوْ مِلْ‏ءِ السَّمَاءِ، أَفَعَجِبْتُمْ أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ دَماً وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى‏ وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ” الاحتجاج – الشيخ الطبرسي – ج ٢ – الصفحة ٣٠

    • عن محمد بن جعفر، عن محمد بن الحسين، عن وهيب بن حفص النحاس، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: ان الحسين (عليه السلام) بكى لقتله السماء والأرض واحمرتا، ولم تبكيا على أحد قط الا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي (عليهما السلام) – عن سعد بن عبد الله، عن محمد ابن الحسين باسناده مثله.
    • – وحدثني علي بن الحسين بن موسى بن بابويه وغيره، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحسن بن علي بن فضال، عن حماد بن عثمان، عن عبد الله بن هلال، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: “ان السماء بكت على الحسين بن علي ويحيى بن زكريا، ولم تبك على أحد غيرهما، قلت: وما بكاؤهما، قال: مكثوا أربعين يوما تطلع الشمس بحمرة وتغرب بحمرة، قلت: فذاك بكاؤهما، قال: نعم”. – كامل الزيارات – جعفر بن محمد بن قولويه – الصفحة ١٨١
  2. شاع على لسان الخطباء الحسينيين نسبة هذين البيتين للإمام الحسين (ع)، والمقصود منه إن البيتين يناسبان لسان حال الإمام (ع)، وإلا فلم يثبت أنهما من نظم الإمام (ع)، بل لم يثبت أنه تمثل بهما؛ فليس هناك من المؤرخين ممن تصدى لتفاصيل مقتل الإمام ﴿؏﴾، ولا ممن ترجم له ادعى أنه تمثل بهما، نعم نسب بعضهم البيتين لرابعة العدوية، وبعضهم نسبه إلى إبراهيم بن أدهم البلخي المعروف بالتصوف. 
  3. روى المحدثون عدة روايات تبلغ حد التواتر وتتفق في مضمونها أن الأرض لا تخلو من إمام معصوم، ولو رفع من الأرض لساخت بأهلها، ومنها ما أورده محمد بن الحسن الصفار في بصائر الدرجات، ص٥٠٩، والشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا، ج٢، ص٢٤٧
    • حدثنا محمد بن محمد عن أبي طاهر محمد بن سليمان عن أحمد بن هلال قال اخبرني سعيد عن سليمان الجعفري، قال: سألت أبا الحسن الرضا(ع) قلت: تخلو الأرض من حجة الله؟ قال: لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت باهلها”
    • وبنفس المضمون أورد الصفار في بصائرة، ص٥٠٩ عدة روايات منها
    • -حدثنا محمد بن عيسى عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة الثمالي، قال :قلت :لأبي عبد الله (ع) تبقى الأرض بغير امام؟ قال: لو بقيت الأرض بغير امام لساخت”
    • -حدثنا محمد بن عيسى قال حدثني المؤمن حدثني أبو هراسة عن أبي جعفر (ع) قال: لو أن الامام رفع من الأرض ساعة لساخت باهله كما يموج البحر باهله”
    • – حدثنا محمد بن علي بن إسماعيل عن العباس بن معروف عن علي بن مهزيار عن محمد بن الهيثم  عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا (ع) قال: قلت: له يكون الأرض بلا امام فيها؟ قال: لا إذا ساخت باهلها”
  4. زينب والضمير الاجتماعي.. تبادل مودة ووفاء
  5. من خطبة السيدة زينب ﴿؏﴾ في مجلس يزيد، الملهوف على قتلى الطفوف، السيد بن طاووس، ص٢١٨
  6. الصلوات الشعبانية المروية عن الإمام زين العابدين ﴿؏﴾  مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ص٨٢٨
  7. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج٤٥، ص١١٥

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 3.8 / 5. عدد التقييمات 4

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 3.8 / 5. عدد التقييمات 4

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 114٬523 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها