بسم الله الرحمن الرحيم
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أنصار الحسين.
عظم الله أجورنا وأجوركم بشهادة سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين وجعلنا وإياكم من الطالبين بثاره.
دور السيّدة زينب ﴿؏﴾ هو ذاته دور رسول الله ﷺ وآله
من أهم الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن: ما حقيقة الدور الذي قامت به السيّدة زينب ﴿؏﴾؟! ومن أين كانت ﴿؏﴾ تستلهم تلك القوة والقدرة والصلابة، وكل ذاك الاقتدار الذي تعجز عنه النساء بطبعهن؟
والإجابة يمكن استنباطها من أفعالها ﴿؏﴾، وعلى نحو الاختصار يمكن القول: بأن دورها ﴿؏﴾ كان هو ذاته دور رسول الله ﷺ وآله، وبذات صلابته وشجاعته! وهو ذاته دور أبيها أمير المؤمنين وأمها الزهراء وأخويها ﴿؏﴾؛ حيث صنعوا أمةً مرتبطةً بهم ومخلصةً لهم إلى أبد الدهر.
المدعَى هنا، أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ تحركت في ظروف مشابهة لظروف جدها رسول الله ﷺ وآله في أول الدعوة، ومن نفس المنطلقات وذات النقطة التي بدأ منها ﷺ وآله، وبذات المنطق القرآني الذي تحرك به ﷺ وآله؛ حيث انطلق وحيدًا تحيط به الجاهلية الجهلاء بشراستها وعنجهيتها وفجاجتها، مع تعدد وتنوع الأصنام، وكثرة العاكفين عليها، فقد تحرك النبي ﷺ وآله كي يمحوا الإثنينية من بين المفاهيم الإسلامية، وبين المسلمين، لجعلها أمة واحدة خير أمة؛ كذلك تحركت السيّدة زينب ﴿؏﴾ من ذات المناشئ والظروف والمشتركات، وذات المحركات الوحيانية، -مع اختلاف المراتب وحفظها- وهي المحدَّثة والمُدَرِّسة والمفسرة للقرآن الكريم، وكما جاء في الرواية عن المؤمن: “يكون مفهمًا، والمفهم محدث “(١)، ولا شك في ذلك؛ فهي من أهل بيت العصمة والطهارة من الذين يوحى إليهم؛ فيتجلى قول الله ﷻ: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ آل عمران:١١٠ فكما كان الدين هو خير الدّين، فقد اتحدوا ﴿؏﴾ معه فأصبحوا خير أمةٍ أخرجت للنّاس.
وسيتبين لنا من خلال ماسيأتي شواهد على صدق المدعى -المشابهة بين دور السيدة زينب ودور رسول الله ﷺ وآله- ولبيان ذلك بحاجة لعدة مقدمات
المقدمة الأولى: اقتدار المرأة وقوة تأثيرها في ساحات الحرب والوغى
وفي سياق إثبات المدعى، وتوضيح الدور الذي قامت به السيّدة زينب ﴿؏﴾ نقول: هناك ثلاثة مستويات لاقتدار المرأة وممارستها لدورها الفاعل عبر تاريخها، خصوصًا في الصدمات والصراعات والحروب؛ سواءً الصعبة والخشنة منها أو الناعمة، وهذه ليست مجرد فرضية! بل هو واقع؛ فالمرأة عمومًا لديها قوة خارقة في تحريك أبعاد اجتماعية كثيرة في ساحة هذا الصراع ومنها.
١- اقتدار المرأة في إثارة وتحريك البُعد الغريزي في الإنسان
ففي الجاهلية، كان اعتمادهم على البُعد الغريزي الحيواني في المواجهات والحروب بنحو عام؛ حيث كانت من عادة العرب اصطحاب النساء من اللاتي يمتلكن طاقةً واستعدادًا لإثارة ذاك البُعد الحيواني. ومن الأمثلة على ذلك، سجع هند بنت عتبة أم معاوية يوم في بدر حيث كانت تقول (٢):
نحن بنات طارق (٣)
نمشي على النمارق
والدر في المخانق
والمسك في المناطق
إن تقبلوا نعانق (٤)
ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق
فراق غير وابق
فهذه الكلمات المهيجة، تهدف إلى تحريك البُعد الحيواني وإثارته والحثّ على التشبث بهذه الدنيا الدنيئة.
٢- اقتدار المرأة في العرض والكشف العقلي المفاهيمي ،(القدرة على الوعظ والإرشاد)
وفي قبالة ذاك المستوى المتدني، هناك مستوىً آخر راقٍ جدًا؛ حيث لدى المرأة القدرة على التأثير، بأرقى من تلك القدرة التهييجية والإثارية، تكمن في مقدرتها على الوعظ والإرشاد والتربية والتوجيه، فتغدو عنصرًا فاعلًا ومؤثرًا وثابتًا في تلك الحروب وما تستبطنها من صعاب وتحديات وتستلزمه من تضحيات، مما يجعل المرأة ركنًا شديدًا معتمدًا، وأساسًا من أسس وأركان العمل الجهادي والإصلاحي؛ حيث يستمد منها القوة والصلابة والبسالة والصبر على الشدائد والمحن.
وتكمن أهمية الوعظ في القدرة على عرض الحياة الدنيا كونها دار الغرور، وبسط عيوبها وكشف قبائحها، وقصر لذاتها الدنية والزائلة والفانية، والتذكير بالآخرة الباقية كونها دار القرار، أما المرأة وهي الواعظ فمع ما لها من قدرة على العرض والكشف العقلي والمفاهيمي للدنيا وللآخرة تكون مؤثر في حسابات الإنسان الرياضية؛ فيدخل الموعوظ -الذي يراد له أن يتعظ- في عملية مقايضة؛ بيع وشراء بينه وبين نفسه مع الله ﷻ!
فالقرآن الكريم يعدّ الجهاد في سبيل الله ﷻ هو في حقيقته شراء للآخرة (٥)، فالمجاهد في سبيل الله يشري الحياة الدنيا بالآخرة، أيّ يبيع دنياه الفانية، ليشتري الآخرة الباقية؛ تمامًا كما فعل السحرة حين قالوا لفرعون: ﴿قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ طه:٧٢، أو كما فعل الحرّ بن يزيد الرياحي عندما قال أنه لا يختار على الجنة شيئًا (٦).
وبالطبع فإن هذه المحركات والبواعث والدوافع، تتسع ظرفيتها بالتبع لظرفية ما يريده الإنسان ويرنو إليه، فإذا ما أراد شيئًا غاليًا وثمينًا، فيغدو باعثًا على قدرة على الصبر، وتحمل الصعاب مهما بلغت واستحكمت، وهذا ما نلاحظه في جواب السحرة، فرغم تهديد فرعون ووعيده: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ الأعراف:١٢٤؛ إلا أن جوابهم كان قطعيًا: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾.
وإذا ما رجعنا إلى كربلاء، سنرى أن وجود نساء أهل البيت ﴿؏﴾ والسيّدة زينب ﴿؏﴾ بالخصوص، كان له الأثر البالغ لترجيح الشهادة وشراء الآخرة بالدنيا، كما فعل الإمام الحسين ﴿؏﴾ تمامًا، حيث كان يحرك ذاك الحسّ والبُعد الروحي الأخروي لدى أصحابه، والملاك في ذلك هو الذب عن حرم رسول الله ﷺ وآله، لذا كان يردد في عدّة مورد: “أَلامِنْ ذَابٍّ يَذُبُّ عَنْ حَرَمِ رَسُولِ اللَه” (٧).
حيث ﴿؏﴾ لم يقل (آل رسول الله)، فالتعبير بكلمة (حرم رسول الله) أيّ أنه حرم، ويحتاج إلى صون العرض والستر والناموس والرفعة، فهذه ليست مجرد كلمات تثوير وتهييج، بقدر ما هي حركة لعقد رابطة وإنشاء علاقة عظمى بالقيم الإلهية الربّانية؛لخلق هذا الارتباط الدفاعي بين أصحاب الإمام الحسين ﴿؏﴾ وحرم رسول الله ﷺ وآله، يقول الله ﷻ: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ﴾ التوبة:١٢٠، ولا شك أن ذلك كان الملاك المحرك لأصحاب الإمام الحسين ﴿؏﴾.
٣- الاقتدار في البعد التحريكي لكل قوى الإنسان بما له ارتباط بالروح
نحن دائمًا نتصور أن الأعمال تختص بما يأتي به الإنسان من جوارحه؛ كأن يتكلم ويقوم ويقعد وينفعل ويبيع ويشتري، لكن القرآن الكريم يؤكد أن مفهوم العمل يشمل أيضًا الصفات والميول والعواطف والحب والبغض، يقول ﷻ: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ النساء: ١٢٨
فدائرة العمل في القرآن الكريم، وفي الإلهيات أوسع من الجوارح ﴿ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾؛ فالإحسان والتقوى ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ ليسا عمل الجوارح، وليسا وصفًا للفعل في الخارج فقط، بل نية العامل، وعمل قلبه؛ فالقلب يعمل أن يكون محسن وتقي.
وكل الحالات الروحية للإنسان إنما هي أعمال! بل وكل المعاني التي تتعلق بقلب الإنسان، كأن يحب أو أن يبغض أو يوالي أو يعدل أو ينجذب أو يميل نحو فلان من النّاس، أو يلوي على فلان، أو يعرض عنه؛ فهذا كله عمل! لذلك يقول: كما في قول الله ﷻ: ﴿أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ النساء:١٣٥، فالعمل الصادر عن الروح، وفق بيان القرآن الكريم يدخل في دائرة العمل.
وعلى ذلك؛ فإذا ما حفرنا في الأدبيات الدينية وتعمقنا في سبرها، سنجد أن هناك قوة مركزية غائبة عن أذهاننا، بما تعد مستوى ومرتبة ثالثة أرفع وأجلّ من تلك القوتين اللتين أشرنا إليهما -التهييج، والآخر العرض والكشف العقلي المفاهيمي – والمركز المحرك لهذه القوة هي الروح، فإذا ما هيمن عليها أحدهم، فهو سهيمن على منابع القوة لدى الإنسان، وامتياز هذه المحرك عن غيره من المحركين السابقين؛ كون الإنسان الذي ينطلق منه لا يتخلف أبدًا ولا يتراجع عن هدفه وغايته مهما تكالبت عليه الظروف والصعاب وتوالت عليه الابتلاءات، بحيث يتحد الفاعل مع الفعل الذي يصدر منه فيصيران شيئًا واحدًا، بل ويكون الفاعل الأقدر على تحقيق أثر أصيل وعميق في التاريخ ومدى الأزمنة.
لذا فنحن ندرك وجدانًا أن لوجود السيّدة زينب ﴿؏﴾ في النهضة الحُسينية وحضورها الأثر البالغ ليس في إحداث موجة غضبية عارمة ضد بني أمية فحسب؛ بل وفي تسخير القلوب وتليينها، وتحويلها إلى أوعية تنهل من الآخرة، وترفض الدنيا، بأطهر وسيلة وأجل غاية.
المقدمة الثانية: روح السيّدة زينب ﴿؏﴾ تحولت إلى صبر!
وحتى يتضح لنا ماهية الدور الذي قامت به السيدة زينب﴿؏﴾ وبحسب المدّعى- الدور الذي يشابه دور رسول الله ﴿ص﴾ نحن بحاجة للتعرف على كيف تحولت روح السيدة زينب ﴿؏﴾إلى صبر؟! وهذا يقتضي منا الحديث حول مقدمتين مرتبطة بالروح
مسارات الروح
فهذه الروح -كما بنى على ذلك المفسرون أو الفلاسفة خصوصًا صدر المتألهين- لها مساران تتصل بهما بشكل مباشر واتصال حضوري كشفي؛ وكان الإمام الخميني يشير بأن هذا هومعنى الفطرة، وهي حالة الكشف:
- الإنسان إما أن يختار للروح المسار الذي يشرح بالكفر صدره، ويتحقق بالكفر، فيصبح من شرّ البرية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ البينة:٦
- وإما أن يختار مسار المعتقدات الحقة، ويعمل وفقها؛ فيتصل بالواقع الخارجي مع عقيدته تلك، ليصبح من خير البرية ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ البينة:٧
فكيف امتازوا فيما بينهما؟ هؤلاء شر البرية، وأولئك صاروا خير البرية؟!
فهذا المقام الذي بلغه كلاهما ليس بسبب صدور الأعمال فحسب! فالأعمال ليست هي النقطة النهائية والقوية والثابتة والتي تحقق هذا المقدار من التأثير؛ إن الذي يحدث هذا الأثر العميق والجوهري في الحقيقة، هو أعلى مرتبة في الإنسان وهي الروح؛ فالروح لها أعمال كما للبدن -حسبما أسلفنا في المقدمة الأولى- هذه الروح تتصل بعالم الحقيقة، وبعالم الواقع والعينيات الخارجية الحقيقية، فهي التي تملك تلك القابلية، وهذا معنى فطرة الإنسان ولزوم التشبث بهذه الفطرة.
هوية الروح هي الاتصال بالله ﷻ
إذا ما رجعنا إلى مباني الروح، خصوصًا بالاستناد إلى مباني صدر المتأهلين، فهوية الروح هي الارتباط والاتصال بالله ﷻ؛ فالروح في واقعها ليست مجرد متصلة بالله ﷻ فقط، بل هي نفخة من روحه ﷻ، أو لنقل هي بصمة الله ﷻ في الإنسان -إن صحّ التعبير-؛ لتكون هوية الإنسان: الاتصال به ﷻ!
فإذا كانت أعمال الإنسان تنطلق من هذه الرتبة العالية؛ سيغدو من المستحيل أن يستمد قوته واقتداره وتأثيره من مصدر غير الله ﷻ، أو يعتمد على غيره ﷻ. فإن القوة لله جميعًا! (٨) ؛ حينها ستصبح صفات الإنسان مُفْرَغة عليه من عند الله ﷻ.
يقول ﷻ: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ البقرة:٢٥٠ فقولهم: ﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾؛ أيّ كل ما هو موجود من صبر أفرغه علينا، وكأن في ساحة الفيض الإلهي، يوجد الصبر الذي قد ملأ أوعية الوجود؛ فإذا ما أفرغ الله ﷻ الصبر على الإنسان، وأفاض ﷻ هذه الصفات مباشرةً على تلك الروح المتصلة بالله ﷻ؛ سيصبح هناك اتحاد بين الفعل والفاعل، وبين المراد والمريد؛ حيث لا توجد بينهما واسطة، فتكون هناك وحدة بين أفعالهم وبين ما منحهم الله ﷻ من صفات في أعلى مستوى الوجود؛ فيكون صبرهم ذاك ليس ضمن عملية مقايضة بيع وشراء، وليس عن تصبر وترك للحياة الدنيا وزخارفها، وتغليب للآخرة عليها، بل هو ذاتي، والفاعل يكون هو الصبر! عندها لن يقف موجود أمامه ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
إننا إذا دققنا في نسبة الروح لله ﷻ، وأن ماهيتها هي في الحقيقة الاتصال بالله ﷻ، فسنجد أنه إذا أصبحت هذه الروح من ﴿هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾؛ ستتصف بأسماء الله ﷻ وصفاته.
وبناءً على هذه المقدمات، تكون السيّدة زينب ﴿؏﴾ ليست صابرة فحسب بل هي (صبر) ! فقد أفرغ الله ﷻ عليها صبرًا، وهي الجديرة بذلك! وتتحول إلى اقتدار، لا أنها مقتدرة، وإلى تأثير، لا أنها مؤثرة، وتكون قطع الباطل وإماتته -حيث أن الله ﷻ يجري على يديها إماتة الباطل- لا أنها مجرد قاطعة مميتة.
ويكون الدور الذي أتت به،ليس دورًا تهييجيًّا تثويريًّا فقط، وليس دورًا يدفع باتجاه الآخرة ويقطع عن الحياة الدنيا فحسب، وإنما هو دور يجعل الأرواح ملتحمة مع الحقّ، منفصلة عن الباطل تمامًا، كقطع شجرة الباطل؛ فالمسألة ليست أن زينب ﴿؏﴾ كانت شُجاعة، بل هي (الشَّجاعة)! وليست هي القاهرة لعدوها، بل هي (قهر العدو)، وليست هي غاضبة لله ﷻ، بل هي (الغضب الإلهي)! وليست هي ناقمة لله ﷻ، بل هي (النقمة الدامغة)؛ نحن نقول ونحن نزور أمير المؤمنين ﴿؏﴾ فنقول: “السَّلامُ عَلى حُجَّةِ الله البالِغَةِ وَنِعْمَتِهِ السَّابِغَةِ ونِقْمَتِهِ الدَّامِغَةِ” (٩).
السيّدة زينب ﴿؏﴾ ودورَيْ: إحياء الحق، وإماتة الباطل.
في مثل هذا اليوم -من الحادي عشر من المحرم الحرام- تغادر عقيلة الطالبيين ﴿؏﴾ كربلاء، مودعة أرضها المباركة شطرًا من قلبها الطاهر ملقىً على التراب بجانب الجسد الطاهر لأخيها الحسين ﴿؏﴾، فيتمثل تلك الجراحات، ذائب ممزق موذَّرً موزع تصهره أشعة الشمس الحارقة، كما هي أحوال جسد الحسين ﴿؏﴾ يسفي على قلبها الأعاصير الحارة، فيتقلب على نيران الدم النازف.
وأما الشطر الآخر منه، فهي تحمله بيدها، وقد جعلته جلمودًا، بل صيرته صخرًا لا يعبأ بالوجع، ولا يصغي لآهات الفقد، ومع كل ذلك، فقد خرجت كالصبح إذا أسفر، يشقّ غياهب الظلام، ويمزق أستاره، وهي كما يصف أبوها أمير المؤمنين ﴿؏﴾ من الكُمَّل من أولياء الله والعلماء العاملين: “مصباح ظلمات، كشاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم” (١٠).
فما كانت الأحزان لتلجمها عن منطقها الحقيقي والحيّ، ولم تكن المصائب لتخرسها عن بيانها الجليّ والواضح. مضت لا يلوي من عزيمتها جبابرة الأرض وطغيانهم، ولا يصرفها عن وظيفتها الإلهية أحد من مستكبري السلطان أو طالبي الدنيا؛ وقد مارست بذلك الدورين المخولين بها: إماتة الباطل واقتلاعه، وإحياء الحق؛ فوثبت ﴿؏﴾ إلى ذلك مبادِرةً لا نظير لها تشابه بذلك الدور دور جدها رسول الله ﷺ وآله..
فالسلام عليها يوم ولدت، ويوم جاهدت وضحت وصبرت صدحت بالحق وأبانت وأحيت وأماتت، ويوم تبعث حيًا.
- رجال الكشي، محمد بن سعد الكشي (١)، ومحمد بن أبي عوف البخاري، عن محمد بن أحمد ابن حماد المروزي، رفعه قال: قال الصادق ﴿؏﴾: “اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنا، فإنا لا نعد الفقيه منهم فقيهًا حتى يكون محدثًا، فقيل له: أو يكون المؤمن محدثًا؟ قال: يكون مفهمًا، والمفهم محدث”. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج ٢، ص ٨٢
- نحن بنات طارق * نمشي على النمارق – – مشي القطا البوارق * المسك في المفارق – – والدر في المخانق * إن تقبلوا نعانق – – أو تدبروا نفارق * فراق غير وامق – وفي لسان العرب عن ابن بري أن الشعر لهند بنت بياضة بن رباح بن طارق الأيادي قالته يوم أحد تحض على الحرب وهو قولها: نحن بنات طارق…. أعيان الشيعة ج١ ص٢٥٥،
مناقب ابن شهرآشوب: وفي شوال غزوة أحد، وهو يوم المهراس، قال ابن عباس و مجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق: نزل فيه قوله: ” وإذ غدوت من أهلك ” وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. زيد بن وهب: ” إن الذين تولوا منكم ” فقالوا: لم انهزمنا وقد وعدنا بالنصر؟ فنزل: ” ولقد صدقكم الله وعده “.
ابن مسعود والصادق عليه السلام: لما قصد أبو سفيان في ثلاثة آلاف من قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله ويقال: في ألفين، منهم مائتا فارس، والباقون ركب، ولهم سبعمائة درع، وهند ترتجز: نحن بنات طارق * نمشي على النمارق والمسك في المفارق * والدر في المخانق وكان استأجر أبو سفيان يوم أحد ألفين من الأحابيش يقاتل بهم النبي صلى الله عليه وآله. بحار الأنوار ج٢٠ ص١١٦-١١٧ - طارق هو النجم الطارق الذي يأتي بسرعة ويضرب قلب السماء.
- أيّ تقبلوا على الحرب.
-
إشارة إلى قول الله ﷻ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ التوبة: ١١١.
-
تاريخ الطبري، الطبري، ج٤، ص ٣٢٥
-
اللهوف في قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس، ص٦١
-
إشارة إلى قوله ﷻ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ البقرة:١٦٥
-
الزيارة المطلقة الثالثة لأمير المؤمنين ﴿؏﴾
-
نهج البلاغة، ج٦، ص٣٦٣
0 تعليق