﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا(3)﴾
تزخر حياة الإمام الحسن بالفضائل والقيم منذ لحظات ولادته الأولى، حيث نبأ النبي (ص) عن موقع ودور الإمام الحسن (
ع) ، وكانت حياته فيما بعد ترجمانا لما قاله رسول الله (ص).
والقارئ لسيرة الإمام الحسن (
ع) يرى بوضوح كيف بالغ النبي (ص) في إظهار خصائص هذا المولود، فقد اهتم اهتماما بالغاً في التفاصيل كاسمه ولباسه، وغذائه، ومناغاته، وكل ذلك كان بانتخاب وحياني وتطبيق نبوي وأحيانا بلا توسط من أمير المؤمنين ولا الصديقة الزهراء (
ع)، وفي هذا نكتة عرفانية لست في مورد الحديث عنها.
لقد قلّد رسول الله(ص) الإمام الحسن (
ع) قلائد كثيرة من مناقب وسجايا وفضائل بحيث لا يبقى شك لدى أحد من المسلمين في موقعية الإمام الحسن (
ع)، ولو وقفنا فقط على تصريحات النبي (ص) في الأسبوع الأول من مولد الإمام الحسن لكانت دليلا كافيا على أن للإمام الحسن من الموقع ما يستحق به المودة والمحبة والإطاعة كما يستحقها رسول الله (ص) ، وأن من أحبه فقد أحب رسول الله (ص) ومن آذاه فقد آذى الله ورسوله، إلا إذا اتهمنا النبي (ص) في عقلانيته أو في عاطفته أو في حكمته!
أما إذا قرأنا تلك الروايات على أنها صادرة من النبي الخاتم واحتفظنا للنبي (ص) بخصوصيات النبوة والبعثة والمقام فسوف يتغير منهجنا في فهم هذه الروايات والتعاطي معها، ويكفينا نص القران الذي نقرأه جميعا قول الله في شأن رسول الله (ص)
﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ الحشر: 7 فالآية تعني أن كل عمل يصدر من الرسول خذوه، والأخذ هو تناول الشيء بجدّ. فعندما نقول فلان يأخذ عن فلان علمه، فنحن نعني أنه يأخذه بجدّ.
أقوال النبي (ص) في الإمام الحسن منذ ولادته كثيرة، لكن سوف آخذ قولاً واحداً يرويه الفريقان، والذي ينكر هذا القول ينكر مسلمة من مسلمات سيرة رسول الله (ص) وهو من جهة أخرى واضح في تأكيد ما ادعيناه.
الرواية هي قول رسول الله (ص) : “ياحسن أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي”.
الخَلق (بالفتح) هو الصورة الظاهرية وشكل الإنسان الخارجي، وهي مسألة وراثية، لكن لا يوجد شك أنها أيضا موهبتية، أي عطية من الله لأن الإنسان لا يختار شكله، فعندما يقول رسول الله (ص) أشبهت خلقي يعني ظاهر هيئتي فنعلم أن هذه موهبة إلهية للحسن (
ع) ، إذ كان يمكن أن يشبه الحسن أمه الزهراء (
ع) أو أبا طالب، أو نبي الله إبراهيم فهو جده، لكن الله وهبه هذا الشبه برسول الله (ص) . لذا تناغيه الصديقة الزهراء (
ع) بقولها: أنت شبيه بأبي لست شبيه بعلي. إذن فشبه رسول الله عناية ربانية إلهية وتخطيط لهيئة الإمام الحسن (
ع) .
والخُلق هو الأخلاق والملكات والسجايا، ولا شك أنها اختيارية تحصيلية وليست موهبتية، وتُنال بالمجاهدات الروحية، ولا تكون السجايا وملكات بالتظاهر والتكلّف، فكثير ممن يتحلّم داخله يغلي، ما يعنيه النبي بأن الحسن شابه خلقه هو أن سجايا وأخلاق الحسن (
ع) هي من قبيل أخلاق رسول الله (ص) ، لا تتبدل ولا تتغير، فكأنه مفطور عليها، ولا يمكن أن يخالف أخلاق رسول الله يوما، وهذه ليست من قبيل الموهبة بل هو اقتداره ومكنته التي أوصلته إلى هذه المرحلة.
قد يتساءل البعض:
هل هناك ضرورة على التركيز على دور الإمام الحسن (
ع) السياسي والاجتماعي، أم أن ما نحتاجه هو حياة الإمام الحسن العرفانية الأخلاقية؟
يجب أن نلتفت إلى مسألة، وهي أنه إذا كان الإنسان لا يتصدى للشأن العام ولا يتصدى لقضايا الأمة فلا يهمنا أن نبحث ونقرأ نحقق في مواقفه السياسية والاجتماعية، لأنه عاش نكرة، لكن إذا كان شخصا منصبا من قبل الله، وإماما مفترض الطاعة فإن دراسة حياته السياسية ومواقفه الاجتماعية ضرورية للتأسي والاتباع، نحن ندرس حياة الإمام الحسن (
ع) حتى نتعلم منه، ويكون ميزانا لنا، بدل ما نتوهمه من موازين.
سبب انتخاب عنوان الفتح الحسني:
انتخاب هذا العنوان هو في الحقيقة تلفيق بين الآية القرآنية التي أنزلها الله حمدا وثناء ومنة على رسول الله (ص) بعد صلح الحديبية وبين قول الإمام الحسن (
ع) لمن لامه على مسألة الصلح فقال إنما تأسيت برسول الله (ص) في صلح الحديبية، فكما صالح صالحت، هذا الكلام من الإمام الحسن ليس مجرّد ادّعاء بل تذكير وإحياء لقول رسول الله (ص) في حق الإمام الحسن (
ع) أشبهت خَلقي وخُلقي.
لم يكن زمن الإمام الحسن (
ع) بعيدا عن زمن جده رسول الله، كانت مواقفه (ص) ما تزال حاضرة في أذهان المسلمين، كانوا قريبين من عصر نزول القرآن ومعاصرين للأحداث التي تنزل آيات من السماء لتفصّلها، لذلك من المفترض أن تظلّ مرتكزة في أذهانهم لعدة أجيال. فعندما يستشهد الإمام الحسن (
ع) بفعل رسول الله (ص) فهو يقول ضمنا أن اتهامه اتّهام لرسول الله نفسه، لأنه أشبه الناس به، فهل يستطيعون اتّهام نبيّهم بأنه كان ينطق عن الهوى، أو أنه منساق خلف عواطفه أوأنه يتصرّف دون حكمة؟ إنّ تعريض الإمام الحسن للمساءلة هو مساءلة لرسول الله نفسه.
إذا جمعنا قول رسول الله (ص) (ياحسن أشبهت خلقي وخلقي) مع قول الله تعالى (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) نصل إلى أن ما اصطلح عليه بـ (صلح الحسن) هو في الواقع (فتح حسنيّ) . ونحن في هذا البحث لا نهدف إلى طرح مبررات الصلح الحسني بل إلى الحديث عن جوهر الفتح الحسني، فآية الفتح تتكلّم عمّا يستبطنه صلح الحديبية، وعن نتائج ما بعد الصلح.
أن يتّخذ الإنسان موقفا مسالما متأسيا بالإمام الحسن (ع) فهذا مطلوب أحياناً، لكن إذا كان هذا الموقف المسالم لا يستبطن نصرا فلا يُحسب اقتداء وتأسّيا بالإمام الحسن (ع)، ولذا حين يستبدل القرآن في حديثه عن صلح الحديبية كلمة صلح بكلمة فتح فليس ذلك عن اعتباط، إذ ليس كلّ صلح يؤدي إلى فتح، فالمفتاح كما يفتح فهو يغلق ويقفل أيضا، تديره إلى اليمين فيصبح مفتاحا، وتديره إلى اليسار فيصبح مغلاقا، ولا يوجد شيء مفتاحه غير مغلاقه. المفتاح هو المفتاح لكن المدار هو حركته، وفي أيّ اتّجاه تكون. لذا ينبغي الحذر من ادّعاء الاقتداء بسلمية الإمام الحسن في الأمور السياسية والاجتماعية، فهو في كثير من الأحيان – للأسف – ادّعاء لفتح مزيّف.
مع آية الفتح:
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2)﴾ الفتح
تتحدث الآية بلسان المنّة والعطية الإلهية، فهذا الفتح هبة ربّانية وهبها النبي (ص) ، ثم تشير إلى نكتتين:
مالفرق بين الفتح المبين والفتح المدّعى؟
كل فتح إذا كان وجه الحكمة فيه خفيّا إلى حد الغموض بحيث لا يستطيع أحد كشفه، فإنه لا يكون مبينا، لأن المبين بيّن واضح، وعندما تقوم جهة بدور اجتماعي أو سياسي مدّعية بأنها حققت فتحا، لكن وجه حكمته خفي على الناس، وحين يسألون يُحالون إلى شيء غائب مجهول فاعلم أن هذا (فتح زعامتي) .
نعم، بعض الفتوحات لا يفهمها إلا المتخصّصون، كالفتوحات الروحية العرفانيّة. فكتاب الفتوحات المكيّة لابن عربي مثلا مغلق ويستغرق فهمه دراسة سنوات، ولكن هذا الأمر لا يمكن تطبيقه في الشؤون الاجتماعية، لأن الفتح فيها يجب أن يكون مبينا.
إذن؛ من أجل أن يصبح الفتح حسنيّا لابدّ أن يكون بيّنا واضحا. قد يعترض أحد ويقول: إذا كان الفتح الحسني واضح، فلماذا لم يفهمه الناس واعترضوا عليه ولم يقبلوه؟
غدا سنصنّف الذين كانوا حول الإمام الحسن ونخرج المجموعة التي لم تفهم الفتح المبين، ونوضّح بأي معنى لم يفهموا، ونعرف هل أنهم فعلا لم يفهموا، أم أنهم لم يرضوا أن يكونوا بهذا المقدار من المأمومية!
أن يكون الفتح مبينا واضحا لا يعني بالضرورة أن يعلن القائد على الملأ الحكمة من حركته، لكنه سيكون واضحا في أهدافه للأتباع المخلصين المحبين، وللعقلاء الواعين.
- ثانيا : أن هذا النصر عزيز.
ومن الملفت أن الآية وصفت النصر بأنه عزيز، في حال أن العزّة وصف للإنسان المنتصر.
متى يكون النصر والفتح عزيزا؟
إذا كان هذا النصر نادرا وفريدا من نوعه، يندر أن يكون له مثيل، ولذا يكثر مدّعو تحقيق مثله.
ولا يمكن أن يأتي بالنصر العزيز إلا الإنسان العزيز، أما الجبان الأناني لئيم السجايا فلا يحقق النصر. حتى لو ملك المال، فما دام بلا فهم ولا علم فإنه لا ينتصر. وحتى لو حقق نصراً ما فلا يكون نصره عزيزا، لأنه يفتقر إلى السجايا العزيزة.
الصلح الحسني بين الوهم والحقيقة:
يوجد فرق بين السيرة الحسنية الواقعية والسيرة الحسنية كما نتوهمها. كثيرون فهموا صلح الإمام الحسن (
ع) بشكل خاطئ، ولم يقرأوه كفتح، قرأوه كمغلاق لا كمفتاح كما أراده الإمام الحسن (
ع) .
الصلح الحسني فتح مبين كفتح جده رسول الله (ص) ، ولأن دور النبي كان تحرير الإنسان كما يحكي القرآن ذلك في قوله:
﴿ ويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ الأعراف: 157 فالدور الحسني هو كذلك.
يقع الكثيرون في اللبس، فيصالحون ويسلب صلحهم الهوية والعزة، والحال أنهم يدّعون أنهم يتخذون موقف الإمام الحسن (
ع) ، والحال أن كليهما في الظاهر صلح، لكنهما مختلفان في الجوهر.
كان موقف الإمام الحسن (
ع) فتحا، ومن لم يستطع فهمه لم يكن ليفهم حركة الإمام الحسين (
ع) فهو يقول:
“من لحق بنا استشهد ومن لم يلحق بنا لم يدرك الفتح” يعني من لم يكن حسنيا لا يمكن أن يكون حسينيا، فلا يكون الشخص حسينيا بشكل مفاجئ أو بطفرة ما.
إذن من يدّعي التأسي بالإمام الحسن (
ع) ، ويسم نفسه بأنه حسنيّ، فعليه أن يعرف أولا أن كل سيرة الإمام الحسن (
ع) وتعاطيه مع الشأن الاجتماعي والسياسي كانت فتحا يتجلى فيها الدور الإلهي
﴿وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾ سبأ: 26.
ربما كان للبعض دور يشبه دور الإمام الحسن، ولكن الإمام الحسن دوره فتح، أي أنه مفتاح لنصر عظيم، لكن المفتاح لو نقص منه سنّ واحد فلن يكون صالحا، فتأمل.
الإمام الحسن شبيه يوسف:
توجد رواية في البحار مضمونها أن أشبه الأئمة بنبي الله يوسف الإمام الحسن والإمام المهدي (
ع)، ولقراءة وجه الشبه ثلاثة آراء:
1- يرى كثير من المحققين والباحثين أن وجه الشبه هو الهيئة والسمات الجمالية.
2- أن وجه الشبه هو صفة الاجتباء، فهي صفة موجودة في الإثنين، أما الحسن فمن أسمائه المجتبى، وعن يوسف يقول الله سبحانه وتعالى على لسان يعقوب ﴿وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ يوسف: 6.
3- أن تشابههما في الابتلاء وعدم معرفة القيمة الإلهية الواقعية لهما، فيوسف باعوه بدراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، فكادوا له. وكذلك الإمام الحسن (
ع) . يوسف بيع لفرعون من الفراعنة، والأمة ارادت أن تبيع الحسن لمعاوية. ونحن نعلم أنه كثرت الخيانات في جيش الإمام الحسن (
ع) ومن أقرب المقربين ،وكان جيشه جيشا مليئا بالنوايا الفاسدة والخذلان، سبّوا إمامهم وكفّروه واستحلوا دمه ونهبوا أمواله، ولم يبق معه من يأمن غوائله إلا خاصة معدودين من شيعة أبيه. والأغلب كان يقبض من معاويه أموالا مقابل تسليم الإمام الحسن لمعاوية! فكيف يقبل من سيفتح الله على يديه فتحا مبينا وينصره نصراً عزيزاً أن يباع لمعاوية؟
جاء في الأثر عن زيد بن وهب الجهنيّ، قال:
«لمّا طُعن الحسن بن عليّ بالمدائن أتيته وهو متوجّع، فقلت: ما ترى يا ابن رسول الله، فإنّ الناس متحيّرون؟ فقال: أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء، يزعمون أنّهم لي شيعة، ابتغوا قتلي، وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني، فتضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتّى يدفعوني إليه سِلماً، فو الله لئن اُسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسيره، أو يمنّ عليّ فتكون سبّة على بني هاشم إلى آخر الدهر ومعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحيِّ منّا والميت».
(1)
إذن فقد أشبه الإمام الحسن نبي الله يوسف ليس فقط في جماله واجتبائه بل في مظلوميته كذلك، حين خانه أقرب المقربين والعارفين بفضائله. وبماذا يمكن أن يباع مثل الإمام الحسن (
ع) ، وبأي مقابل!
يعقوب بكى على يوسف حتى
﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ يوسف: 84 فأي جرح في قلب الزهراء خلّفته خيانة الأمة لولدها الحسن.
ألا لعنة الله على الظالمين.
مرتبط
0 تعليق