تعدّ المعالجة التاريخية لحياة الإمام الحسن (
ع) وحصرها في جانب الصلح أحد الظلامات و السهام الموجهة إلى شخصيته (
ع) فالانطلاق من الواقع التاريخي – كما أسلفنا – لن يقرأ شخصية الإمام الحسن (
ع) إلّا من حيث ما كتب زيفاً وتحريفاً في قصور الأمويين والعباسيين .
ولكي نقرأ سيرة الإمام الحسن (
ع) قراءة صحيحة علينا قراءتها من خلال التراث الذي تبقى لدينا من رسول الله (ص) الذي قال أن الأمة ستفترق إثنان وسبعون فرقة، أي أنه هناك اثنان وسبعون سهما أريقت بها حقائق الدين وشوهت صورته الناصعة .
السؤال : هل يمتلك هذا الدين الدفاع عن نفسه وإعطاء الصورة الصحيحة أم أنه بحاجة إلى عامل خارجي يضفي عليه اللمعان؟هذا السؤال نمهد به لفهم سيرة الإمام الحسن (
ع) ناصعة بدون شوش أو تشوية القراءة التاريخية.
إن أول ما يجب أن نبدأ منه في الجواب هو أن نقرن بين موجودين (الدين والإمام) فهما متطابقان كامل المطابقة في كل شؤونهما ولا ينفكان أبدا، فالإمام ليس إلاّ حكاية عملية وسلوك خارجي للدين، والدين – في الحقيقة – ما هو إلّا تنظير مقدس لموجود مقدس، وعليه فإن صفات الإمام هي -عينها -صفات الدين التي تضمن فاعليته ونشاطه وتدبيره للأمة في كل حالاتها و أوضاعها. وهذا مضمون ما نعتقد من معنى قول رسول الله (ص ) :
” الحسن والحسين إمامان أو قاما أو قعدا “(1). فالرواية حكاية عن تقدم الدين ومعالجته لضعف الأمة في كل الحالات، ولتتضح لك النتيجة ولكي نحدد صفات الإمام (
ع )لابد من عرض صفات الدين .
خصائص الدين /الإمام :
– الخاصية الأولى الربانية :
الدين صناعة ربانية إلهية قدسية، وتعني أن الدين لا يستقي من أي مصدر سوى الله تعالى لا في العلم ولا في المنهج، وهي لا تشبه التجربة البشرية التي هي – في أعلى مراتبها – وليدة آفاق الإلهام والعبقرية التي لا تتجاوز الحدود الإنسانية البشرية. والإمام يشترك مع الدين في هذه الخصوصية، فهو نتاج وصناعة ربانية إلهية تعجز الإنسانية عن اختراع مثلها .
– الخاصية الثانية الاحتواء :
يسع الدين كل درجات القرب والبعد من العقول والظرفيات، فيخاطب المؤمن المتقي والعالم والجاهل ومن هو من أهل الكتاب بل حتى البعيد الكافر، و يمتاز الدين الإسلامي عن سائر الأديان باستيعابه لكل ذي فطرة. والفطرة مفهوم خاص جاء به محمد بن عبد الله (ص) متناسب مع خلود رسالته وخاتميتها. و يؤكد هذه الاحتوائية القرآن في مباينة شاسعة بينها وبين المعاملة البشرية التي فيها الكثير من الاستثنائية والطبقية الفئوية، يقول تعالى:
﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى﴾ سورة القيامة٣٦-٣٨ فالدين يرسل رسائل الهداية والعناية للجميع، فهو لم يهمل الإنسان حين كان نطفة وأوكل به الملائكة وأدار له العالم كله، وعامله معاملة الهداية والإرشاد حتى اكتمل جنينا، كل تلك العناية الربانية وهو بعد لم يملك العقل والإدراك، أفهل يتركه سدىً إذا ما صار ذا شعور وعقل وإدراك وقد غدت حاجته للهداية أكبر؟!
الإمام الحسن (
ع) يتعاطى مع الأمة بهذا الاحتواء، ولو قرأنا الرواية:
(الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا) تحت ظل هذا المعنى سنجد أن مشاعر الإمام الحسن وأحاسيسه المسؤولة ليست حصراً على نمرقة وصفوة مختارة -نعد أنفسنا منها – فهو ولّي للمؤمن وللكافر وللمعرض على حد سواء .ولقد عمل الإمام الحسن على تصدير رسالة أبيه أمير المؤمنين حتى لأكثر الناس وحشية من الذين حاربوا أباه لعل فيهم من له بقايا أنقاض إنسان قابلة لأن يعيد الإمام بناءها من جديد، و نشط من أجل ذلك أشد النشاط حتى أدى رسالته في كتابة الصلح لإنقاذ الأبعدين . وهذا ما عنيناه من شأن الإمامة ودورها وطبيعتها. فالإمام لا يترك أمته التي لا همّة لها على القيام أو يعرض عنها، ولقد ألقى الإمام الحسن (
ع) حجته على ضعافها وأقلها علما ومعرفة وراح في نصرتهم وهدايتهم، وهو ماض في ذلك وإن كلفه الأمر أن يرمى بسهام الاتهام .
مصاديق معاصرة للاحتواء الحسني :
وجّه السيد الشهيد محمد صادق الصدر في بواكير مرجعيته خطابا للغجر في العراق(2) الذين كانت المرجعية تستنكف من الحديث معهم، فهم أناس رحّل لا يعيشون إلّا على الغوغاء والعصبيات والأحقاد، ولا يمكن تصور إصلاحهم ولا بنسبة واحد من المائة ما أحدث ردة فعل كبيرة انتقد السيد عبرها ولقي أشد المعارضة واللوم والعتب ممن حوله، لكنه ألقى الحجة عليهم مبينا أن الحوزة –ولابد- مسؤولة عن الغجر وغيرهم، ومحاسبة بين يدي الله .
كما جاء في سيرة الشهيد السيد محمد باقر الصدر، أنه ضمن جهاده ضد البعثيين وجّه خطابا إلى الشعب العراقي بكل طوائفه يقول في مطلعه ” يا شعبي العراقي العزيز، أيّها الشّعب العظيم إنّي أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهاديّة، بكلّ فئاتك وطوائفك: بعربكَ وأكرادك، بسنّتك وشعيتك، لأنّ المحنة لا تخصّ مذهباً دون آخر، ولا قوميّة دون أخرى، وكما أنّ المحنة هي محنة كلّ الشعب العراقي، فيجب أن يكون الموقف الجهاديّ والرّدّ البطوليّ والتلاحم النضالي هو واقع كلّ الشعب العراقي” (3) وبسبب هذا الخطاب سددت للسيد الشهيد كثير من السهام حتى من الخاصة والأقربين في الحوزة العلمية، وكان الشهيد قد أفصح فيه عن أن المِحنة لا تخص مذهبا دون آخر ولا قومية دون أخرى وإنما هي محنة كل الشعب العراقي وأنه يستوجب قبالتها أن يكون الموقف العراقي والرد الجهادي البطولي والتلاحم النضالي هو واقع الشعب العراقي .
وإذا كان السيد الشهيد قد تبنى في خطابه أبناء الخلفاء الراشدين وأرسل لهم رسائل فإن الرجل غير جاهل بردة الفعل من حوله، وعلى معرفة بما ستنقلب به الأمور عليه، لكن رحمته ومحبته للإسلام ومعرفته بإمامة الحسن (
ع) تجعله يبحث عن الخاطئ والجاهل والمُعمّى عليه ليوصل إليه خطاب الإسلام .
لقد أبان النموذجان السابقان عن خطأ منهجية النهضويين الذين يستنكفون من خطاب الطغاة والخنوع لهم ويعدلون عن الاهتمام بالشعوب على أي مستوىً كانوا . كما أنه قد بان من خلالهما منطق الدين وسعة الأفق التي يُنزل بها إلى أقل الناس تديّنا ليحتويه حلماً وصبرا، غير مكتف بنخبة أو لون أو عرق، فالدين لا يلزم الناس بأكثر من الحدّ الذي يحفظون به إسلامهم، وبهذا الحدّ يجب أن يُعتنى بهم ليُنمّى إيمانهم، وأما سوى ذلك فمن شأنه أن يوقع الضرر على الرسالة . وهذا ما يحتاج إلى قدرة في إدارة الخطاب الديني من أجل تحقيق أهداف الدين وإيصاله لجميع الناس، وإن كان هذا اللسان سيرفض من قبل المقدسين بالدرجة الأولى (4) .
إن هذا النوع من السلوك الاحتوائي يفصح –أيضا– عن فكر القيادة التي تأسست واقتدت بالإمام الحسن الذي لم يتبرم ولم يلقِ باللائمة على الآخرين . و إذا كان هناك ذم للكسل في النصوص الدينية فهو في أكثره لهذا المعنى من عدم الهمّة في تحمل المسؤولية ، فالإمام والقائد الحقّ يفتح باب الأمل للأبعدين ويرى أنهم يستحقون منه الخطاب، فإذا كان قاعدًا فإنما فعل ذلك لإحساسه وشعوره بجهل الأمة، ولأجل أن يفتح برحمته للأبعدين منهم نافذة الأوبة والرجوع .
إذا قرأنا حياة الإمام الحسن (
ع) كلها من أولها إلى آخرها فسوف نرى أن الإمام كان يقعد مع القاعد ويقوم مع القائم، لا بمعنى قعود الخمول والاستسلام –والإمام هو النهضوي المصلح – وإنما قعود المصلح لضعف الأمة ، ولا زال في تعاطيه مع الأمة إلى الآن على نفس المنوال.
لقد ترفق الإمام الحسن بهذه الأمة لما كانت على غير استعداد للإيثار وللحركة وكان شمسا تشع على الجميع ، يقول الإمام جعفر الصادق (
ع) :
” والله أن ما قام به الحسن بن علي خير للناس مما طلعت عليه الشمس “ . فالشمس تطلع على الغني والفقير والضعيف والقوي وعلى الجميع بلا استثناء، وقد مدّ يده لأناس بُني إيمانهم على أُسس بني أمية ليسعهم بذلا وحلما، متحملا سهام الاعتراض الموجهة إلى شخصه بالذل والخزي والخذلان حتى من المقربين الذين راحوا يرمون بنقصهم على الإمام .
ولعل من أصعب وأشق المواقف على الإمام الحسين في حياة أخيه أمره أن لا يدافع عنه ولا أن تراق فيه محجمة من دم، ولعل السر في ذلك أن الإمام الحسن أراد أن تبقى المظلومية للإمام الحسين ولكربلاء خالية من الثارات والاقتصاص والمطالبة بالدماء. فما أحلمك وما أرأفك وما أحكمك وما أصبرك وما أعقلك وأبعد نظرك يا مولاي يا أبا محمد .
(1) عوالي اللآلي ج4، ص93
(2) ننصح بالاستماع إليها تحت عنوان : ( السيد الشهيد محمد صادق الصدر يخاطب الغجر).
(3) نص الخطاب : [بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصَحبه الميامين.
يا شعبي العراقي العزيز ، أيّها الشّعب العظيم إنّي أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهاديّة، بكلّ فئاتك وطوائفك: بعربكَ وأكرادك، بسنّتك وشعيتك، لأنّ المحنة لا تخصّ مذهباً دون آخر، ولا قوميّة دون أخرى، وكما أنّ المحنة هي محنة كلّ الشعب العراقي، فيجب أن يكون الموقف الجهاديّ والرّدّ البطوليّ والتلاحم النضالي هو واقع كلّ الشعب العراقي.
وإنّي منذ عرفت وجودي ومسؤوليّتي في هذه الأمّة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسّني على السّواء، ومن أجل العربيّ والكرديّ على السواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحّدهم جميعاً وعن العقيدة التي تضمهم جميعاً، ولم أعِش بفكري وكياني إلّا للإسلام طريق الخلاص وهدف الجميع.فأنا معك يا أخي وولدي السّنّي بقدر ما أنا معكّ يا أخي وولدي الشيعي .. أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام؛ وبقدر ما تحملون من هذا المشعل العظيم لإنقاذ العراق من كابوس التّسلّط والذّل والاضطهاد. إنّ الطّاغوت وأولياءه يحاولون أنْ يوحوا إلى أبنائنا البررة من السّنة أنَّ المسألة مسألة شيعة وسنة ليفصلوا السّنة عن معركتهم الحقيقيّة ضدّ العدوّ المشترك.
وأريد أنْ أقولها لكم يا أبناء علي والحسين، وأبناء أبي بكر وعمر :أنّ المعركة ليست بين الشيعة والحكم السّني.إنّ الحكم السنّيّ الذّي مثّله الخلفاء الرّاشدون والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، حمل عليٌ السيف للدفاع عنه إذْ حارب جنديّاً في حروب الرّدة تحت لواء الخليفة الأوّل..، وكلُّنا نحارب عن راية الإسلام وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبيّ. إنّ الحكم السّنيّ الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة- قبل نصف قرن- بوجوب الجهاد من أجْله، وخرج مئاتُ الآلآف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الإسلام، ومن أجل حماية الحكم السنّي الذي كان يقوم على أساس الإسلام.
إنّ الحكم الواقع اليوم ليس حكماً سنيّاً، وإن كانت الفئة المتسلّطة تنتسب تأريخيّاً إلى التّسنّن. إنّ الحكم السّنّي لا يعني حكم شخص ولد من أبوين سنّيين، بل يعني حكم أبي بكر وعمر الذي تحدّاه طواغيت الحكم في العراق اليوم في كلّ تصرّفاتهم، فهم ينتهكون حرمة الإسلام وحرمة عليّ وعمر معاً في كلّ يوم، وفي كلّ خطوة من خطواتهم الإجراميّة. ألا ترون – يا أولادي وإخواني – أنّهم أسقطوا الشعائر الدينيّة التي دافع عنها عليّ وعمر معاً؟!ألا ترون أنّهم ملأوا البلاد بالخمور وحقول الخنازير وكلّ وسائل المجون والفساد التي حاربها عليّ وعمر معاً؟!ألا ترون أنّهم يمارسون أشدّ ألوان الظلم والطّغيان تجاه كلّ فئات الشعب؟! ويزدادون يوماً بعد يوم حقداً على الشعب، وتفنّناً في امتهان كرامته والانفصال عنه، والاعتصام ضدّه في مقاصيرهم المحاطة بقوى الأمن والمخابرات، بينما كان عليّ وعمر يعيشان مع الناس وللناس وفي وسط الناس ومع آلامهم وآمالهم.ألا ترون إلى احتكار هؤلاء للسلطة احتكاراً عشائريّاً يسبغون عليه طابع الحزب زوراً وبهتاناً؟! وسدّ هؤلاء أبواب التقدّم أمام كلّ جماهير الشعب سوى أولئك الذين رضوا لأنفسهم بالذل والخنوع، وباعوا كرامتهم وتحوّلوا إلى عبيد أذِلاء.
إنَّ هؤلاء المتسلّطين قد امتهنوا حتّى كرامة حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث عملوا من أجل تحويله من حزب عقائديّ إلى عصابة تطلب الانضمام إليها والانتساب لها بالقوّة والإكراه، وإلّا فأيُّ حزب حقيقيّ يحترم نفسه – في العالم- يفرض الانتساب إليه بالقوّة؟!إنّهم أحسّوا بالخوف حتّى من الحزب العربيّ الاشتراكي نفسه الذي يدّعون تمثيله، أحسّوا بالخوف منه إذا بقي حزباً حقيقيّاً له قواعده التي تبنيه، ولهذا أرادوا أن يهدموا قواعده لتحويله إلى تجميع يقوم على أساس الإكراه والتعذيب ليفقد أيّ مضمون حقيقيّ له.
يا إخواني وأبنائي من أبناء الموصل والبصرة .. من أبناء بغداد وكربلاء والنجف … من أبناء سامرّاء والكاظميّة .. من أبناء العمارة والكوت والسليمانيّة .. من أبناء العراق في كلّ مكان، إنّي أعاهدكم بأنّي لكم جميعاً ومن أجلكم جميعاً، وأنّكم جميعاً هدفي في الحاضر والمستقبل .. فلتتوحّد كلمتكم، ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الإسلام، ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلّطة، وبناء عراق حرّ كريم تغمره عدالة الإسلام وتسوده كرامة الإنسان، ويشعر فيه المواطنون جميعاً – على اختلاف قوميّاتهم ومذاهبهم – بأنّهم إخوة، يساهمون جميعاً في قيادة بلدهم وبناء وطنهم، وتحقيق مثلهم الإسلاميّة العليا المستمدّة من رسالتنا الإسلامية وفجر تاريخنا العظيم…والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(4) كان السيد الإمام يقول أن السهام التي كان يلقيها علي الشاه أهون علي من السهام التي تأتيني من المقدسين .ما ذبحني وماقاتلني الشاه إنما ذبحتني سهام المقدسين .
مرتبط
0 تعليق