من وصية لأمير المؤمنين عليه السلام كتبها لابنه الإمام الحسن عليه السلام بحاضرين وهو عائد من صفين: (من الوالد الفاني، المقرّ للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدهر، الذام للدنيا … حتى يقول – والخطاب لابنه الحسن عليه السلام – : ووجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي … )(1)
تعتبر وصية أمير المؤمنين عليه السلام لابنه الحسن وصية تجمع كل عناصر التربية والترشيد والتعليم، ولكن ما سنقف عليه في هذا البحث هو عبارة (وجدتك كلي).
كثيرة هي العبارات والمواقف والأعمال التي قام بها الرّسول صلى الله عليه وآله والصّدّيقة الزّهراء عليها السّلام لبيان مقام الإمام الحسن المجتبى وفضائله صلوات الله عليه، بل إن للغيب عناية خاصة بهذا الإمام منذ لحظة ولادته، وتدخّل ربّاني في كل التّفاصيل المحيطة به لدرجة أن تشرف السماء على اختيار اسمه بل على لون قماطه.. عن سودة بنت مسرح قالت في حديثها عن ولادة الإمام الحسن عليه السلام.. “قالت: فأتيته به – تعني رسول الله (ص) – فألقى عنه الخرقة الصفراء ولفه في خرقة بيضاء وتفل في فيه وألباه بريقه قالت: فجاء علي عليه السّلام فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما سميته ياعلي؟ قال سميته جعفراً يا رسول الله، قال: لا ولكنه حسن (و) بعده حسين وأنت أبو الحسن والحسين”.(2)
وتسليط الضوء على الإمام الحسن عليه السلام بهذا النحو يجرنا إلى نوع من المعرفة والولاء والمحبة والتنوّر، ولا يضر في ذلك قلّة المصادر فهي على قلّتها غنية جدا.
مع كل تلك الإضاءات التي زخرت بها أقوال وأفعال رسول الله والزّهراء والأمير عليهم السلام في حق الإمام الحسن إلا أن عبارة الأمير له
(وجدتك كلي) لها تميّز يدعو للتوقّف عندها، فلحنها – فضلا عن مضمونها – له رنين خاص ونغمة خاصّة تناسب عاشقا ومعشوقا، هذا اللّحن ملفت جدّا حينما يصدر من سيّد البلغاء وأمير الكلام
(إِنَّا لَأُمَرَاءُ اَلْكَلاَمِ وَفِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ وَعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصُونُهُ)(3) وأمير الكلام لا يمكن أن يكون أسير الألفاظ تفرض عليه أو عبارات يُجبر عليها بل هو يطوعها ويسوقها إلى حيث يريد. فلحن الكلمة الخاص ومضمونها العظيم ينطبقان انطباقا كاملا على من قيلت في حقه ووجّهت له وهو الإمام الحسن عليه السلام.
ماذا تعني (وجدتك كلي)؟
ربما لو أراد الأمير عليه السلام أن يعطي مؤمّنا وضامنا لتصحيح كل ما يصدر عن الإمام الحسن عليه السلام على نحو الإطلاق فلا يمكن أن يكون هناك أفضل من هذه الكلمة (وجدتك كلي) لأن هذه الكلمة في أبعادها تعني انطباع نفس خصائص أمير المؤمنين في نفس الحسن عليهما السلام.
أبعاد هذه الكلمة تعني أن عليّا عليه السلام مع كل ما قدمه من تضحيات وجهاد – بحيث عد أسطورة في هذا المجال – ومع كل ما قام به من عبادات لم يقوم عليها غيره (
ع)، ومع كل ما حواه من فضائل .. فهو لم يجد في كل ذلك نفسه لأنها كانت بصمات لعليّ متناثرة هنا وهناك، ورذاذ من حقيقة علي توزّ
ع بين مواقفه وبطولاته وعباداته.. وعاءاً واحد استوعب عليّا –
كلّ عليّ – ووجد عليّ نفسه فيه فكان كل عليّ متجسّدا
(وجدتك كلي) ولم يكن ذلك سوى الحسن بن علي عليه السلام.
وهذا الانطباع الكامل والتلاحم التام يبعد كل الإشكالات والتساؤلات حول مواقف الإمام الحسن وقراراته، فحين يدرَك أن الحسن هو عليّ كله متجسّدا و(علي هو الحق والحق هو علي)(4) حينها لا يعود هناك مسوّغ لطرح تلك الأسئلة والشبهات التي تثار حول سيرة الإمام المجتبى .. لماذا صالح؟ لماذا لم يتفق مع الأمير في حرب الجمل؟ … وجدتك كلي تذيب كل تلك الاستفهامات التي تحيط بالإمام الحسن وتطرحها مع كل ما تحمله بعيدا عن طهر سيرته ونقاء سريرته.
كان ذلك حديث حول كلمة (كلي) ولكن ماذا لو تحدثنا عن الكلمة الأولى في العبارة (وجدتك).
ما هو الوجدان؟
سنمر في هذه الجلسة على معنى الوجدان على أن نفصّله لاحقا ..
الوجدان نوعان:
1. وجدان بعد غياب وفقدان.
2. وجدان لا يسبقه فقدان.
والأوّل: إما أن يكون بعد بحث وطلب كما (تجد) شيئا تبحث عنه وتطلبه، وإما أن يكون لا عن طلب ولا بحث، بل بعد غفلة عنه أصلا، فكثيرا ما (يجد) الإنسان مالا يطلبه ولا يبحث عنه ولكنّه حين يجده يدرك أنه مراد له ومطلوب سوى أن غفلته عنه لم تجعله يفكر في طلبه. وطبيعي أن لا يشعر الإنسان بأهميّة ما هو غافل عنه فلا يسعى للبحث عنه وطلبه، وذلك نظير عدم شعورنا بقسوة العذاب وفداحة الألم في قوله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(5) ذلك لأننا غافلون عن معنى هذه العناية الإلهيّة التي هي الأصل في تعامل الله مع خلقه فهو سبحانه من يريد أن يكلّم خلقه وينظر إليهم ويزكّيهم لذا فإعراضه عنهم بهذه الكيفيّة وحرمانهم من هذه العناية هو غاية العذاب ومنتهى الألم. الغفلة عن هذا المعنى وعدم وجدان هذا الشعور يجعلنا لا نطلب أن نبقى محطّ تلك العناية ولا نتأثّر بالتالي للحديث عن حرمانها.
أما النوع الثاني من الوجدان: فهو ما لم يكن عن فقدان ولا غياب بل هو نوع من أنواع المعرفة وهو ما تعبّر عنه الآية: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ﴾(6) فهي لا تعني أنك كنت ضالّا فهديت بل تعني أنّك برزت إلى عالم الوجود مهديّا، وهذا ما سنشرحه ونتعرّض له تفصيلا في الجلسة القادمة.
(وجدتك كلي) بالفهم القرآني:
ولكي نوضح هذا المدّعى – وهو أن الحسن هو كلّ عليّ متجسّدا – لنستعن بالقرآن الكريم، فالقرآن هو ما يمكن أن يفسّر آل محمد عليهم السلام كما هم تماما من يفسره ويوضّحه، والقرآن يوضّح المعالم الأساسية التي نحتاجها لمعرفة الإمام، وما كتب التاريخ والسيرة إلا حواشي جانبية وتوضيحات هامشية للمعصوم عليه السلام.
علينا أن نشير إلى أمر مهم وهو أن كل ما يجري على القرآن من أحكام أساسية يجري عليهم صلوات الله عليهم لأنهم لا يفترقون عنه في الذّات والأوصاف والخصائص، والغايات، وكما أن القرآن مثاني يوضّح بعضه بعضا ويفسّر بعضه بعضا فالأئمة كذلك.
يقول تعالى:
﴿نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾(7)
علينا أن نفهم معنى أن (القرآن مثاني) لنفهم به كيف أن عليّا وجد كله في الحسن عليه السلام.
معنى أن القرآن مثاني:
القرآن مثاني من جهتين:
الأولى: أنه لا يختلف ولا ينتاقض
﴿وَلَوْ كَانَ
مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا
﴾(8) فالقرآن في حقيقته يتحدث عن مفهوم واحد أساس هو كيفيّة وصول الإنسان إلى مقام الإخلاص والعبوديّة وعرفان الله تعالى، وهذا المفهوم الأساس يُطرح في آيات القرآن بأبعاد مختلفة، فمرّة يتكلم عنه القرآن في بعده التوحيدي، ومرّة في بعده الاجتماعي أو الأسري أو الأخلاقي .. لكن النّتيجة أنها في الحقيقة ألفاظ كثيرة لمفهوم واحد، ولذا هي مثاني أي حين يعطف بعضها على بعض فإن كل مفهوم ينثني على المفهوم الآخر فيزيده جلاء ووضوحا. فالقرآن يوضّح بعضه بعضا ويؤكّد بعضه بعضا.
والثانية: إن لهذا التعاطف والانثناء في القرآن أثر أساسي في طبيعة الهدف الذي يريده القرآن، فالقرآن يريد أن يربّي إنسانا عارفا، والعرفان هو أن ينصرف الإنسان من الانشغال عن غير الله إلى تمام الانشغال بالله والإخلاص هو هذا. فكما أن القرآن في نفسه منثنٍ ومتعاطف فهو أيضا يثني ويعطف نحو هدف وجود الإنسان، وأثر قراءة هذا القرآن (المثاني) هو رفع الإنسان إلى درجات ومقامات أعلى وحالات معنوية وروحية أرقى تثني الإنسان عما سوى الله، لأن القرآن يتمركز حول حقيقة واحدة وهي أن ما يستحق الانعطاف إليه هو الله وحده فقط. لذا فهو يعطف الإنسان معه إلى حيث التوحيد الصرف لأنه كتاب التوحيد الخالص.
بعد أن فهمنا أن القرآن مثاني لنفهم في ضوء ذلك معنى (وجدتك كلي) فالقرآن هو ما يفسر أحوال آل البيت كما أسلفنا.
عرفنا أن معنى كون القرآن مثاني هو أنه لا يختلف ولا يتناقض، وعلي عليه السلام هنا يقول أنه لا اختلاف ولا تناقض بينه وبين الحسن عليه السلام، فلا مغايرة بين عليّ والحسن إذ وجد عليّ كله بارزا في حسَنه، بحيث أنك لو قرأت عليّا وقرأت الحسن فستجدهما واحداً كمثاني كتاب الله ينعطف أحدهما على الآخر في انسجام كامل.
الإمام الحسن (أحسن الحديث):
ذلك الكتاب المثاني هو أحسن الحديث ﴿
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ﴾
(9) والحسن الذي ينعطف على عليّ (
ع) ويتثنّى في وجوده بانطباق كامل مع عليّ – كما آيات الله تماما – هو أحسن الحديث أيضا، وخصوصيّات القرآن متمثّلة فيه كما تمثّلت في عليّ عليهما السلام.
القرآن أحسن الحديث لأربعة خصائص هي:
- أنه الحق المحض ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾(10) فالقرآن كتاب الحق المحض ففيه الحق الكامل وحسن الحديث وقيمته هو أن لا يختلط بالباطل، لأن اختلاط الحق بالباطل يضرب بينك وبينه حجابا فلا تنعطف عليه ولا تنثني إليه، وإنما كان القرآن أحسن الحديث لأنه الحق الصرف. وعليّ أيضا هو الحق الصرف أليس هو محور الحق (علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار)(11) فعليّ عليه السلام فيه منتهى الحقّانية، والحسن (كل علي) هو أيضا كذلك.
-
أنه الكلام الفصل ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ • وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ (12) فالقرآن أحسن الحديث لأنه الكلام الجاد الذي لا تخالطه ركاكة تسلبه حسنه، هو فصل قاطع ليس وراءه حق ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى﴾.(13)
- أنه الكلام الجامع الذي فيه كل ما يحتاج له البشر.
- أنه كلام جميل، فمع حقّانيّته وفصله وجامعيّته فهو مكسو بأرقى مستوى من البلاغة والبيان، وبدون هذا الجمال لا يمكن أن يكون أحسن الحديث لأن الجمال بُعد من أبعاد الإنسان في وجوده ولو لم يجده في القرآن مع كل تلك الخصائص فسيظل يبحث عنه خارجه.
الآيات القرآنية مفاهيم واحدة، كلّها تحكي حقيقة واحدة لذا فهي مثاني يتثنى بعضها على بعض، و هكذا هو التقابل بين أمير المؤمنين وبين الإمام الحسن، وفي حين يعبّر عموم الآباء في حقّ أبنائهم بقولهم “أجد نفسي فيك” فإن أمير المؤمنين على عكسهم فلا يقول: (وجدتني فيك) بل (وجدتك كلي) لأن عليّا لم يجد نفسه في خيبر ولا في حنين ولا في المباهلة ولا تحت الكساء، عليّ ينبض بكلّ عروقه في الإمام الحسن، ولو نبض في الحسن عرق من غير عليّ لصرّح به أمير المؤمنين كما قال لابن الحنفية حين أعطاه الراية يوم الجمل فتقدم بحذر وبطء .. قال له: (ويحك لقد لحقك عرق من أمك)(14) لكن الحسن نبض بأمير المؤمنين عرقا عرقا وخليّة خليّة فكان كل عليّ صلوات الله عليه.
1. نهج البلاغة –خطب الإمام علي (ع) ج3 ص37
2. كنز العمال – المتقي الهندي ج13 ص652
3. تحف العقول– ابن شعبة الحراني ص7
4. الخصال – الشيخ الصدوق ص559
5. ال عمران: 77
6. الضحى: 7
7. الزمر: 23
8. النساء: 82
9. الزمر: 23
10. الاحزاب: 4
11. بحار الأنوار ج30 ص352
12. الطارق: 13-14
13. النجم: 42
14. البحار ج 43 ص98
مرتبط
0 تعليق