تقدم القراءة:

رسالة إلى الحسن ﴿؏﴾ ٣

الجمعة 25 سبتمبر 2020صباحًاالجمعة

الوقت المقدر للقراءة:   (عدد الكلمات:  )

0
(0)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.
السلام عليك يا رسول الله وعلى أمير المؤمنين وعلى الصديقة الطاهرة وعلى الحسن بن علي، السلام عليك يا أبا عبد الله، عظم الله لكم الأجر ساداتي وموالي في شهادة أبي محمد الحسن بن علي صلوات الله وسلامه عليه، وعظم الله أجوركم أخواتي وبناتي المؤمنات.
كنا نتحدث حول الرسالة التي أرسلها أمير المؤمنين ﴿؏﴾ لابنه الحسن صلوات الله وسلامه عليه أو كتبها إليه، وكما أسلفنا القول أن فيها أهم الأصول التربوية الثابتة، وسنتحدث هنا عن إحدى هذه الأصول الثابتة في الرسائل الإلهية والتي تجلّت في الإسلام بشكلٍ واضح:
تمرين الأبناء على طاعة الله ﷻ والارتباط به تعالى:
من السنن المؤكدة أن يؤذن في أذن الوليد، الأمر الذي يسانخ فطرته، فالإنسان يولد ووجهته وبوصلة قلبه نحو الله ﷻ، وما يحدث بعدها من انصراف إلى عالم المادة والغفلة إلى غير الجهة التي فطر عليها؛ يحدث ذلك نتيجة ضغوط الدنيا ومجريات الحياة. وهنا يأتي دور الوالدين في الاهتمام بالمحافظة على هذه الخاصية (السعادة الروحية).
يقول أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لابنه الحسن ﴿؏﴾ “فَإِنِّي أُوصِيكَ  بِتَقْوَى اللَّه أَيْ بُنَيَّ ولُزُومِ أَمْرِه، وعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِه والِاعْتِصَامِ بِحَبْلِه، وأَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنَكَ وبَيْنَ اللَّه، إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِه، أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وأَمِتْه بِالزَّهَادَةِ، وقَوِّه بِالْيَقِينِ ونَوِّرْه بِالْحِكْمَةِ، وذَلِّلْه بِذِكْرِ الْمَوْتِ وقَرِّرْه بِالْفَنَاءِ، وبَصِّرْه فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وحَذِّرْه صَوْلَةَ الدَّهْرِ وفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي والأَيَّامِ”(١) . وكل جملة من هذا المقطع بحاجة إلى شرح بشكل مفصل وعلى حده، ولكن سنقتصر على الإفادة من الجو العام.
الفرق بين الإسلام والديانات الأخرى في التعاطي مع هذا الأصل:
لا يعدّ هذا الأصل من الأصول التربوية في غير الديانة الإلهية والإسلامية بشكل خاص؛ فبخلاف الدين الإسلامي الذي عدّ الأصالة في الإنسان هو رقة القلب والشفافية والتعلق بوحدانية الله ﷻ، ونجد في القرآن الكريم والفلسفة وعند العرفاء وكذا بحكم العقل شواهد عدّة. وإذا ما غشى قلب الإنسان القساوة؛ فهي عارض مفارق نتيجة التربية اللا دينية، والنهج الاجتماعي غير الصحيح. وليس طبعًا أصيلًا  وذاتيًا في الإنسان.
أولًا: الدليل القرآني على أن عروض قساوة القلب
يقول تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ الزمر:٢٢ فلو كانت قساوة القلب هي الأصل لكانت ذاتية، والذاتيات لا تُبرر ولا يصحّ التوبيخ عليها؛ لأنه لا يمكن الخلاص والانفكاك منها. كما أن في هذا التهديد إشارة إلى أن هذه القساوة أمر غير ثابت بل وقابل للإزالة، والروايات تثبت هذه الحقيقة أيضًا: “ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء”.(٢)
ومن الأدلة القرآنية التي تنص على هذه الحقيقة -كون وجهة الإنسان نحو الله ﷻ ونحو عالم الكمال والسمو والفضيلة- نلاحظ من خلال الآيات الشريفة التي تذم الوضع الاستثنائي الذي يعيشه الإنسان، وتعبر عن ذلك بكلمة (الإعراض) ونذكر هنا بعض الآيات كدليل على هذا المدَّعى قوله ﷻ: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعون إِلَّا إِيَّاهُ﴾ الإسراء:٦٧،  أيّ  ضلّ  في أذهانكم وفي عقلكم وأرواحكم إلا إياه -الله ﷻ-، فقوله تعالى: ﴿مَن تَدْعُونَ﴾، فيُعلم من ذلك أنه وفي تلك الحالة التي يجد الإنسان فيها ربه هو حال الإنسان الفطري والطبيعي أن يعرف ربّه، وعندما نسي الله ﷻ وأصبح كفورًا جحودًا وأعرض عن مولاه سبحانه؛ فحالة الإعراض هذه هي الأمرٌ العارض على الإنسان وليس بأصيل.
أيضًا قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعمْنَا علَى الْإِنسَانِ أَعرَضَ  وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عرِيضٍ﴾ فصلت: ٥١.إذ لو لم تكن هناك حجبًا من هذه المشاغل لما أعرض الإنسان عن ربّه ﷻ  أصلًا. وكلمة (الإعراض) بذاتها دليل على أن هذا الإنسان في وضع عدم استقبال كما هو عليه في الوضع الطبيعي، كذلك من الآيات الدالة :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾ الكهف:٥٧، وقوله تعالى: ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا ۞ مَّن أَعرَضَ  عنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا﴾ طه:٩٩-١٠٠، فهم أن (الإعراض) حالة مستثناة.
نستخلص من جملة هذه الأدلة على أن الأصل والفطرة والطبيعة الأولية التي يلود عليها الإنسان؛ كونه متوجهًا لله ﷻ، وأن تعليم الأبناء للحفاظ على هذه الحالة من مناجاة الله ﷻ والارتباط به ليس بحاجة إلى جهد من الآباء أو بإحداث نقلة نوعية في الأبناء، وليس من الصحيح أن يفرض عليهم فرضًا القرب من الله ﷻ، بل لا بدّ وأن يكون ذلك باختيارهم.
يقول الأمير ﴿؏﴾ للإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليهما بعد أوصاه بتقوى الله قال: “وعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِه“، فأنت من يعمّر هذا القلب، والِاعْتِصَامِ بِحَبْلِه”، وأنت من يعتصم بحبله، “أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وأَمِتْه بِالزَّهَادَةِ” وأنت كذلك من يحيي هذا القلب لا غيرك، فهذه كلها مواصفات ذاتية يجب على الإنسان أن يأتي بها، الإنسان يقلد في الأحكام الفقهية، لكن في أداء العبادات وتقوية اليقين وتنوير القلب بالحكمة، وتذليل القلب بالموت، وتقرير القلب بالفناء، وتبصيره بفجائع الدنيا، وتحذيره من صولة الدهر، وفحش تقلب الليالي والأيام، وعرض الأخبار من الماضين على القلب وتذكيره بمن أصاب من كان قبله من الأوليين؛ هذا عمل الإنسان بنفسه، عمل الأبناء أنفسهم، بمراقبة وتوجيه وتعليم وتحبيب وإرشاد من الرسل والأنبياء ﴿؏﴾ والأوصياء ومن ثم العلماء والمربين ومن يحذو حذوهم الأمثل فالأمثل.
ثانيًا: الدليل العقلي أن الأصالة لحالة الرّقة والشفافية والإعراض أمر ثانوي مفارق: 
هذا مبحث للعرفاء والفلاسفة حيث يقولون: أن الإنسان في قوس النزول؛ أي عندما ينزل الإنسان من ذلك العالم الرحب السامي والذي هو في جوار الله ﷻ، يتنزل، ومن ثم يتنزل حتى ينزل إلى هذه الطبيعة يقول تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۞ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ التين: ٤-٥ فمالذي أرداه؟وماذا تعني هذه الحقيقة الفلسفية؟!
الإنسان عندما ينزل من ذاك العالم الرفيع يمرّ بكل العوالم، ويأخذ من كل العوالم -بلغة العرفاء- التعينات حفنة تناسب تلك العوالم؛ فالإنسان يبدأ في نشأته نباتًا؛ يأخذ من النبات ما يقيده ويربطه، فهو بالقدر الذي يعينه ويعطيه هذا التعيّن  يضيق عليه، ثم الإنسان في طور النشأة الحيوانية يأخذ من الحيوان أبعادًا حيوانية أيضًا، وهذا قيد إضافي، ثم حتى تكتمل نشأته ويصبح إنسانًا؛ يبلغها وقد أضحى مقيدًا ما دام هو على هذه الحياة وعلى هذه البسيطة.
كثير ما نعبّر عن الإنسان -الذي لم يغادر عن هذه الحياة تعبيرًا عرفيًا -لكنه صحيح- فنقول: لا يزال في قيد الحياة الدنيا؛ وهو حقيقة في قيود، ومقيد بالأغلال الكثيرة والتي يتعين عليه أن يتخفف منها، فإزالتها مرهونة باختيار وإرادة الإنسان فحسب.
بني أمية المصداق الجلي للتقيد وتضخم الذات:
كلما تقيد الإنسان أكثر فقد من سموه ونقاوته وطراوة قلبه. وبني أمية كشاهد؛ وقد تلبسوا بحالة الغلظة والقسوة لدرجة لا يرعوون عن مخالفة المسلمات الدينية والاجتماعية. نجد معاوية وهو الخارج على إمام زمانه -الإمام علي ﴿؏﴾- باتفاق جميع المسلمين، والخارج على إمام زمانه في الشريعة الدينية؛ يعُدّ باغٍ مهدور الدم ويجب محاربته إن لم يتب، نرى هناك من يبرر له خروجه هذا وخداعه ومكره وكل الشنائع التي ارتكبها في الأمة كونه خال المسلمين، وفي مقابل هذا يعتبرون ثورة الحسين ﴿؏﴾ على يزيد -المُنصّب بالفرض والإكراه- خروجًا على إمام زمانه مع أن جده النبي صلوات الله عليه وآله.
ومن هذا ندرك المحنة التي مرّ بها الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه الذي كان متحررًا من جميع القيود إذ لم يكن داخلًا  في قيد الحياة الدنيا ولو بمقدار أنملة.
يقول الإمام الحسن ﴿؏﴾ وهو يخبر عن روحية جيشه: “كنتم وأنتم في صفين ودينكم أمام دنياكم -مقدمين الدين على الدنيا-، أما اليوم فأصبحتم ودنياكم أمام دينكم، وأما نحن وإن لكم كما كنا من أول الأمر كان الدّين بالنسبة لنا هو الذي يجب أن ندفع الدنيا في سبيله وأن نترك الدنيا في سبيله”(٣)
فهل يتصور من أمة جعلت دينها أمام دنياها؛ أيمكن أن تحمي إمامها؟ أيمكن أن تنهض بأعباء المسؤولية أمام الباطل المتمثل في معاوية والذي كذب في كل شيء؟!
أيتصور أن تقدم جعدة على مثل فعلتها؟! أليس هذا مسخ وتشويه للفطرة السويّة التي فطر الله النّاس عليها ؟! حين تقدم زوجة على اغتيال زوجها! وأيّ  ومن الزوج؟! إمام الزمان ولي أمر المسلمين! والذي جسّد أعلى مراتب اللطف والرقة والرحمة والرأفة، في قبال تهافت دنيوي ووهم ما لبث أن تلاشى.
لقد أصبح الإمام صلوات الله وسلامه عليه في يوم شهادته صائمًا؛ فقدمت له المدعوة زوجته جعدة بنت الأشعث ذلك السمّ في ذلك العسل المسموم فشربه صلوات الله وسلامه عليه، فما لبث حتى قطع أمعاؤه قطعة قطعة، فأمسى حبيب رسول الله ﷺ وهو يجول البيت طولًا وعرضًا من شدّة الألم، وقذف ما في أحشائه وأخيه الحسين ﴿؏﴾ ينظر إلى حاله ويقول: أخي يا حسن من الذي جرعك السمّ؟(٤)
ألا لعنة الله على الظالمين.

١. نهج البلاغة الخطبة ٣١من وصية أمير المؤمنين ع لأبنه الحسن ع بعد عودته من صفين

٢. أبو علي الأشعري، عن عيسى بن أيوب، عن علي بن مهزيار، عن القاسم بن عروة، عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: [قال:] ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب (1) زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا [ت‍] غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا وهو قول الله عز وجل: ” كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (2) “. [الكافي – الشيخ الكليني – ج ٢ – الصفحة ٢٧٣ ]

٣. ترجمة الإمام الحسن ﴿؏﴾ – ابن عساكر – الصفحة ١٧٩

٤. ترجمة الإمام الحسن ﴿؏﴾ – ابن عساكر – الصفحة ٢٠٧- ٢١٥

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

كيف وجدت المقال؟ شارك الآخرين ذلك

معدل التقييم 0 / 5. عدد التقييمات 0

لا يوجد تقييم للمقال حتى الآن

اختر تصنيفًا

ما رأيكم بالموقع بحلته الجديدة

إحصائيات المدونة

  • 114٬754 زائر

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فاجعة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير 5 (3)

من المعلوم أن الإمام الحسن (ع) قد قُتِل بالسم الذي قدمه له معاوية بواسطة زوجته جعدة بنت الأشعث، فهذه النهاية المؤلمة تكشف عن مقدمات وبوادر سيئة جدًا منذ أن استبدلت الذنابي بالقوادم(1)، واستبدل أمير المؤمنين خير البرية بشر البرية؛ حتى وصل الأمر إلى معاوية الذي خان وفجر وغدر وجاء بكل موبقة.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٣ 5 (2)

مما لا شك فيه أن السيّدة زينب ﴿؏﴾ المحتمل في قلبها وفي روحها لعلم أهل البيت ﴿؏﴾، ممن امتحن الله ﷻ قلبها للإيمان؛ لا يصلها ولا يعبث بها الشيطان بأيّ حال من الأحوال، ولذا كان لها أن تواجه تلك الحبائل التي يلقيها الشيطان وأتباعه في الخارج؛ بتلك الرؤية المتماسكة والروح القوية التي لا ينفذ إليها الباطل، والتي تشبه روح الأنبياء ﴿؏﴾ في السعة والقدرة على مواجهة الساحة الخارجية والميادين المشتركة بينها وبين أهل الشر.

الدور الاجتماعي للسيدة زينب ﴿؏﴾ رؤية قرآنية ١٢ 5 (1)

فكانت ﴿؏﴾  تخاطبهم وتوبخهم بقولها: “يا أهل الختل والغدر”؛ وحسب الظرف كان يجدر أن تنفر النّاس من قولها ولا تقبل بتلك التهم، لكن جميع من  كان حاضرًا قد همّ بالبكاء، الصغير والكبير والشيبة!

لأنها ﴿؏﴾ قلبت النّاس على أنفسهم المتواطئة مع الظالم والمتخاذلة والمتقاعسة عن نصرة الحق على ذاتها، فرأوها على حقيقتها رؤية الذي لا لبس فيه؛ فغيرت بذلك أحوالهم وأعادتهم لأنفسهم النورية حيث فقدوها